في حمأة غضب الأهالي المفجوعين على أبنائهم جراء غرق زورق مقابل شاطئ طرابلس اللبنانية، خرجت الحكومة التي يرأسها نائب طرابلس نجيب ميقاتي بقرارين، الأول إنشاء مجلس إنماء الشمال، والثاني تكليف وزارة الشؤون الاجتماعية تقديم مساعدات لأسر الضحايا والمفقودين.
في الوقت ذاته، تستمر النيابة العامة العسكرية بتحقيقاتها لكشف ملابسات الحادثة التي أدت إلى غرق القارب وكان على متنه حوالى 84 راكباً، توزعوا على الشكل الآتي 6 ضحايا تمكّن أهلهم من تشييعهم ودفنهم في طرابلس، 45 ناجياً، فيما يستمر البحث عن 33 مفقوداً معظمهم من النساء والأطفال، سحبهم البحر إلى عمق 400 متر قبالة جزيرة الرمكين.
تركيز مقررات الحكومة على البعد الاقتصادي ومحاولة إقصاء رواية الأهل أن هناك خطأ من جانب القوة البحرية أدى إلى حادث التصادم وغرق المركب الذي كان يهمّ بمغادرة المياه الإقليمية اللبنانية، استفزا الأسر ودفعاها إلى اعتماد المسار التصاعدي للاحتجاج.
في المقابل، تتمسك الجهات الرسمية برواية اصطدام الزورق بطراد تابع للجيش اللبناني قبل الغرق. وتؤكد قيادة الجيش اللبناني والدفاع المدني استمرار عمليات البحث عن المفقودين، وتوسيع دائرتها في المساحة البحرية لتصل إلى شواطئ عكار شمالاً وجونية جنوباً، إلى جانب طلب المساعدة الدولية لتسريع هذه العمليات.
الناجون وأهالي المفقودين عادوا إلى المرفأ
"لا نريد مساعدات غذائية، نريد الحقيقة في حادثة غرق أولادنا"، هذه العبارة تكررت على ألسنة أهالي الضحايا والمفقودين، أمام مرفأ طرابلس. وتمسك هؤلاء بروايتهم التي "تتهم أحد الضباط باتخاذ قرار قتل الركاب في عرض البحر لمنعهم من مغادرة المياه الإقليمية"، إذ قرر كسر القارب، بحسب رائد دندشي، وهو أب لثلاثة أطفال ما زالوا في عداد المفقودين، هم جواد (8 سنوات) وفداء (5 سنوات) وأسد (40 يوماً)، اشترى لهم ثياباً جديدة وألعاباً من أجل الحياة الجديدة في هولندا.
ويشدد دندشي على وجوب محاسبة من "ضغط على الزر واتخذ قرار قتل الضحايا"، معلناً عدم الثقة بالجهات اللبنانية التي تشرف على التحقيقات. لذلك، يطالب دندشي بإحالة الملف إلى المجلس العدلي، وهو المرجع القضائي الأعلى الذي ينظر في القضايا التي تمس الأمن القومي، و"إلا فلا بد من محاكمة دولية لإنصاف الضحايا وعائلاتهم".
وينتظر دندشي جلاء مصير أبنائه، متهماً الدولة بالتقصير والتذرع بطلب المساعدات الدولية من أجل تبرير التأخير. ويرجّح "إمكانية إخفاء الجثث المنتشلة من أجل امتصاص غضب الأهالي"، ومذكراً بأنه قرر الهجرة من هذه البلاد إلى هولندا، لأنه "كفر بها وبالسياسيين الذين جوّعوا الشعب".
"طبخة بحص"
يشبّه النقيب السابق للمحامين رشيد درباس وعود إنماء طرابلس وشمال لبنان بـ"طبخة البحص"، فهي لن تحمل الشفاء لطرابلس التي تعاني من قوارب موت متعددة. ويعلّق على قرار "إنشاء مجلس إنماء الشمال"، بعبارة "لا يُعوّل عليه"، طالما لم يُعَد تنشيط إمكانات المدينة المهملة والموارد التي تم تدميرها بصورة ممنهجة، من مصفاة النفط إلى معرض رشيد كرامي الدولي والمنطقة الاقتصادية التي كان يخطط لها أن تكون شبيهة بتجربة جبل علي في دبي.
ويعود درباس إلى الوراء قليلاً، إبان الحرب الأهلية، عندما "دُمرت خزانات النفط وأُقفل المصب الضخم للنفط التابع لشركة نفط العراق، الذي كان يستقبل أضخم حاملات النفط".
ويشير إلى خسارة كبيرة لحقت بالمدينة التي تعتبر المدينة الثانية بعد بيروت، فهي كانت تضم صناعات الصلب والحديد والأخشاب وورش ترميم وبناء السفن. وبلغ الأمر بتعطيل معرض رشيد كرامي الدولي الذي تُقدر قيمته الحالية بـ6 مليارات دولار، ويتضمن أروع المنشآت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبحسب درباس، "تم تدمير النموذج الثقافي المنفتح المتحرر للمدينة التي كانت تضم البريطاني والفرنسي والإيطالي واليوناني والتركي والكردي، والطوائف المسيحية التي تشكل رونق المدينة والفئة الخلاقة. فخلال الحرب الأهلية، سيطرت حركة التوحيد، ومن ثم الاستخبارات السورية التي أغلقت كبرى المؤسسات الثقافية والتربوية التي كانت مركزاً تعليمياً واستشفائياً وصناعياً".
ويذكر درباس أن "طرابلس كانت عقدة طرق بين المحافظات"، و"كانت المقر الشتوي للزعماء المسيحيين، من ضمنهم سليمان فرنجية ورينيه معوض".
وشوّه تجار العقارات الوجه الأخضر لمدينة الفيحاء، التي كانت محاطة ببساتين الليمون، قبل تحويلها إلى غابات من الأبنية، وقُضي على المساحة التي كان يعتاش منها أبناء المدينة من الزراعة الموسمية.
انتهت الحرب ولم يبدأ الإنماء
يشكو درباس التهميش المقصود لطرابلس، وتحويلها إلى صندوق بريد للرسائل السياسية، تحديداً 23 جولة عنف بين بعل محسن والتبانة، التي تعود في أصولها إلى خلاف حافظ الأسد وياسر عرفات. وجعلت بؤرة للفقر، وتعرّضت لحملة تشويه لتنفير الناس من المجيء إليها.
ويعتقد درباس أن أحد أسباب تهميش طرابلس هو تراجع ثقلها السياسي، فهي منذ اغتيال رشيد كرامي، رئيس الحكومة الأسبق، ومن ثم تهجير عبد المجيد الرافعي قائد "حزب البعث" العراقي، فقدت المدينة مرجعيتها السياسية.
ويُشبّه درباس المقررات الحكومية بـ"طبخة البحص"، لأن كل مشاريع طرابلس معطلة، بدءاً بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، التي "يعتز بأنه نقلها من النظرية والورق إلى الفعل، وتم ردم 500 ألف متر مربع، وتعيّن مجلس إدارة لها، إلا أن ولاية المجلس انتهت ولم يتم تعيين أي شخصية أصيلة لاستمرار العمل"، متهماً الحكام "الوكلاء" الذين ينتظرون إشارة لأخذ القرار.
ويقول "السلطة المركزية غير مهتمة بطرابلس، ويقومون بتحطيم وتقييد السلطة المحلية في المدينة من خلال إخضاعها لسلطة المحافظ".
المبادرة السعودية - الفرنسية
مع ازدياد عجز السلطة اللبنانية، برز إطلاق الصندوق السعودي – الفرنسي لدعم الشعب اللبناني بقيمة نحو 72 مليون دولار، من أجل تنفيذ مشاريع تتصل بالخدمات الصحية والأمن الغذائي والتعليم والخدمات الأساسية مثل الطاقة والمياه، ودعم قوى الأمن الداخلي. وسيبدأ المشروع الأول من عاصمة الشمال طرابلس من خلال تقديم الدعم للمستشفى الحكومي الذي يوفّر الخدمات الطبية والصحية للفئات الأكثر فقراً في عاصمة الشمال والمحيط. ويأتي هذا الدعم استمراراً للخدمات والمساعدات التي تمنحها السعودية للشعب اللبناني في مجال التنمية والإغاثة الإنسانية.