لسنا ندري ما إذا كانت هناك في تاريخ النشر الأميركي حكاية تشبه حكاية الرواية الأولى للكاتب ثيودور دريزر (1871 – 1945) والتي تقول الحكاية إنه في اليوم الذي خرجت فيه نسخ روايته "سيستر كاري" من المطبعة تمهيداً لتوزيعها، حدث لزوجة الناشر النيويوركي، دابلداي، أن تناولت نسخة منها ذات لحظة سأم؛ وحين انصرفت إلى سريرها عند المساء وبدأت تقرأ توقفت بغتة عن ذلك وخاطبت زوجها بلغة عنيفة لائمة سائلة إياه كيف سمح لنفسه بنشر "مثل هذه القذارة التي تقف على الضد من كل القيم الأميركية ومن كل مبادئ الدين والأخلاق؟". دهش الزوج مجيباً أنه في الحقيقة لم يقرأها قبل نشرها بل نشرها بناء على اقتراح ملحّ من الكاتب الكبير فرانك نوريس "الذي لا أشك أبداً بمدى حرصه على سمعة الدار ومنشوراتها". وكانت حصيلة ذلك الحوار بين الناشر وزوجته أن تقرر عدم توزيع الرواية ريثما تقرأ من جديد ويعاد النظر في إمكانية توزيعها على القراء. وطبعاً لاحقاً نشرت الرواية لكنها حين وصلت إلى مكتب رئيس البلاد ثيودور روزفلت في البيت الأبيض وقرأها هذا الأخير أطرق غاضباً وتحدث عن "أولئك الكتّاب الذين يريدون تدمير الأمة الأميركية".
التاريخ ينسى زوجة الناشر
طبعاً نسيت مع الزمن حكاية السيدة زوجة الناشر، وتلهى الرئيس روزفلت الأول بالأوضاع السياسية المتفاقمة في العالم، ونشرت الرواية بالطبع، بل نشر لكاتبها نفسه روايات عديدة من بعدها سيقول النقاد دائماً أنها كلها تنتمي إلى "أدب الانحطاط"، ولا سيما حين سيحدث بعد ذلك بنحو ثلاثة عقود من السنين أن زار الكاتب الاتحاد السوفياتي كما سيفعل كثر من أولئك الذي كان لينين يسميهم "الحمقى النافعون" قبل أن يرثهم ستالين ويعرف كيف يستفيد هو الآخر منهم، غير أن تينك النظرتين المتطابقتين، نظرة لينين وخليفته ستالين، لن تقللا من شأن أدب دريزر ولا طبعاً من شأن أدب أولئك الذي أملوا يوماً في أن يولد في موسكو عالم إنساني جديد، فكان من النادر أن تؤثر خيبة أملهم في أدبهم. وتلك هي بالطبع حال "سيستر كاري" (1900) تلك الرواية الأولى التي أتاحت لدريزر أن ينال "اللقب" الذي كان يحلم به بعض كبار أدباء أميركا: "زولا الأدب الأميركي" وكان ينافسه فيه مواطنه الكبير آبتون سينكلير ولكن من موقع أكثر نضالية من الناحية السياسية والأيديولوجية ومن موقع فاعل على الأرض فيما نعرف أن دريزر كان أكثر فاعلية في الأبعاد الاجتماعية لأدبه. ومن هنا كان أقرب إلى الفرنسي إميل زولا من سنكلير لكن حكايتنا ليست هنا. حكايتنا هي هذه الرواية التي افتتحت عالماً إبداعياً بأسره وأحدثت في الأدب الأميركي منعطفاً سيسود في القرن العشرين، ولكن في الكتابة المسرحية بأكثر مما في الكتابة الروائية. ولنبادر إلى القول هنا إن في مقدورنا أن نلتقي مئات الشخصيات النسائية الشبيهات ببطلة "سيستر كاري" في المسرح الاجتماعي الأميركي وبعد ذلك في السينما بأكثر مما نلتقيهن في الروايات. ولعل هذا سرّ غضب زوجة ناشر "دابلداي" التي كان يمكنها أن تتقبل وجود أمثال كاري ولكن ليس في روايات تقرأ في كل البيوت!
فتاة بلا أخلاق!
وسيستر كاري التي تتابع الرواية سيرتها وبؤس حياتها و"ضعة أخلاقها" بحسب تعبير جمعيات صيانة الأخلاق في أميركا المحافظة ذلك الحين، كاري هذه واحدة من الفتيات الريفيات اللواتي يحدث لهن ذات لحظة يتم وفاقة أن ينتقلن إلى المدينة الأقرب إلى مسقط رأسهن بحثاً عن أي مسقبل يمكنهن التوصل إليه. والمدينة هنا هي شيكاغو التي تتعرف كاري فيها خلال انتقالها في القطار إلى شاب لبق يعمل بائعاً جوالاً يبدأ على الفور بمغازلتها ثم إذ يفترقان يعطيها اسمه وعنوانه على أمل اللقاء قريباً حيث سيمكنه مساعدتها. في البداية تحاول كاري أن تدبر أمورها من دون اللجوء إلى أحد لكنها إذ تعجز عن ذلك لا تجد أمامها إلا أن تتصل بالشاب واسمه درووه الذي بعد لقائهما يستأجر لها شقة تؤويها ويصبح عشيقاً لها لكنه على رغم عزوبيته لا يبدي أية رغبة في جعل علاقتهما شرعية، فلا يكون أمامها إلا أن تستجيب لتودد شاب آخر يفوقها ويفوق درووه سناً لكنه يبدي تجاهها شغفاً حقيقياً على رغم كونه متزوجاً وله أطفال. غير أن هارستوود هذا لا يتمكن من أن يبني لها حياة حقيقية هو الذي يدفعه الشغف إلى التخلي عن عائلته وبيته ومطاردة حظه التعس لعله يؤمن لمحبوبته هذه عيشاً كريماً. وهذه أمام فشله وقد بدأت الحياة تمنحها مفاتيح العيش وتضفي على شخصيتها لؤماً ما كانت لتعهده في نفسها من قبل، تيأس ذات لحظة من إمكانية الاتكال على هذا الحبيب الفاشل دافعة إياه ليأسه إلى انتحار يبدو واضحاً أنه يحررها منه إذ ها هي الآن تخوض مهنة مسرحية وحياة ليلية بات من الواضح أنهما يلائمانها تماماً ويؤمنا لها ذلك العيش الناجح الذي كانت تحلم به. وعلى هذا تتركها الرواية في صفحاتها الأخيرة في قمة نجاحها ناسية تماماً ما كان من شأن عاشقيها وغيرهما من الرجال في حياتها، بل غير متنبهة أصلاً إلى الدور الذي لعبته في انتحار هارستوود ودمار عائلته، ربما من دون أن تدرك ما تفعله.
النقد يساراً ويميناً
على رغم أن كثراً من النقاد، وعلى رأسهم أولئك الذين نظروا دائماً نظرة إيجابية إلى المواضيع التي عرف دريزر كيف يشتغل عليها منذ "سيستر كاري" إلى "فاجعة أميركية" التي أصدرها عام 1925 ولسوف تعتبر إلى جانب "سيستر كاري" أفضل تلك الأعمال، وجدوا في ثيودور دريزر المؤسس الفعلي للأدب الاجتماعي الأميركي، فإنهم رأوا دائماً أنه في نهاية الأمر لم يكن كاتباً كبيراً وذلك بالنظر إلى الوظائفية البحتة التي كان يشتغل بها لغته، والتهافت الذي يطبع رسمه للشخصيات والسوداوية التي وسمت على الدوام العلاقات التي تقوم بين تلك الشخصيات. ومع ذلك فإن النقد اليساري الأميركي الذي وجد في أدب دريزر مادة خصبة لمواقف تتسم بالأيديولوجية بأكثر مما تتسم بالأبعاد الجمالية، هذا النقد رحب بأدب دريزر لمجرد أنه أتى أدباً ينسف ما كان معهوداً في الأدب الاجتماعي قبله، ومنذ بدايات ذلك الأدب. والحديث هنا خاصة عن البعد الأخلاقي بالتحديد. فلقد كانت قد جرت العادة على ألا ينتهي العمل الروائي الأميركي خاصة، إلا على مكافأة أو جزاء للشخصيات على حجم محاسنها أو سيئاتها. ولكن دريزر، ومنذ "سيستر كاري" قلب المعادلة تماماً؛ وها هو هنا يجزي بطلته خيراً ونجاحاً على رغم كل السيئات التي تقترفها ولا سيما في حق رجال أحبوها بالفعل. فهي لئن كانت قد قُدّمت لنا خلال الفصول الأولى من الرواية ضحية بائسة لأوضاعها الاجتماعية تسير في طريق بدا أنها ستقودها حتماً إلى النجاح على الطريقة التي يحققها لها "الحلم الأميركي"، فإنها تضرب صفحاً عن ذلك الحلم مستندة إلى القوة التي منحتها إياها تجاربها فتحقق نجاحاً ما يفيض عما كان "الحلم الأميركي" قد وعدها به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحطيم حلم
صحيح أن الأدب والفن الأميركيين سوف يسخران من ذلك الحلم ويمعنان في تحطيمه سينمائياً ومسرحياً وفي الروايات والفن التشكيلي وسائر ضروب الإبداع، لكن ذلك لن يبدأ بالفعل ويتحول إلى نسق فكري متكامل إلا عند بداية ثلاثينيات القرن العشرين وتحديداً مع تفاقم الانهيار الاقتصادي – الذي سيعرف روزفلت أميركي آخر هو الرئيس فرانكلين روزفلت كيف يتصدى له بعمل اقتصادي ناجح، بيد أن نجاحه لم يشمل نظرة المبدعين إلى الحلم، لكن هذا موضوع آخر بالطبع -، لكن دريزر سبق الجميع إلى تبني تلك النظرة الغاضبة والمستنكرة إلى حلم قال لقرائه ومنذ بدايات ذلك القرن إنه وهم بل ربما كابوس أيضاً. ومن الواضح أن زوجة ناشر "دابلداي" التي أشرنا إليها أول هذا الكلام كانت على بساطتها من أوائل الذين أدركوا "خطورة الفكر المناهض لأميركا" الذي حملته "سيستر كاري" لترثه من بعدها نصف دزينات من روايات ذلك الكاتب، مؤكدة أنه يستحق عن جدارة لقب "زولا الأدب الأميركي".