ليس ثمة قواسم مشتركة كثيرة بين نجمي القرن التاسع عشر، الكاتبة الإنجليزية جين أوستن، والرئيس الأميركي أبراهام لينكولن عدا الاحترام الغامر الذي خصهما به التاريخ؛ الأولى بوصفها من أكثر الروائيين الواقعيين بل حتى العقلانيين الذين عبروا عن مجتمعات زمنهم بلغة بديعة عبر مواضيع مستقاة من قلب المجتمع البريطاني وتحولاته الطبقية؛ والثاني بوصفه الرئيس العصامي الذي صنع نفسه بنفسه، وتمكن من إحداث ثورة في الذهنيات الأميركية في مجال التعامل مع قضية "العبيد"، ما أدى إلى اغتياله عن طريق المتعصبين البيض وهو يمارس سلطته العليا. كرس التاريخ للاثنين صفحات رائعة بصرف النظر عن الفوارق في المصير الذي كان من نصيب كل منهما ولكن من دون توابل ومقدمات. بيد أن نهايات القرن العشرين شهدت عودة كل منهما إلى الزمن الراهن؛ هي من خلال الإمعان في اقتباس رواياتها الرائعة سينمائياً بل حتى من خلال أفلام عن حياتها وعن نوادي المعجبات بل وحتى المعجبين بها، وهو من خلال عدة شرائط حققت عنه سيتوجها ستيفن سبيلبرغ بتحفة سينمائية ترسم سيرته، يلعب فيها دانيال داي - لويس شخصية لينكولن. لكن الأمور، وللأسف، لن تتوقف هنا.
مصائر منحرفة!
فالحداثة وعالم النشر سيرسمان لهذين الكائنين المحترمين مصائر أخرى غير تلك التي عبرت عن تقدير التاريخ لكل منهما. بل ربما يمكننا القول إنها مصائر تتناقض تماماً مع شخصية كل منهما بحيث إن أياً منهما سيعود إلى قبره سريعاً لو قيض له أن يعود إلى الحياة ويشاهد أو يقرأ ذلك الجديد الذي تناوله، سواء أكان الجديد على شكل كتب أو على شكل أعمال سينمائية أو تلفزيونية. ولنقل منذ الآن إن ذلك الجديد يحمل في الأساس توقيعاً واحداً هو توقيع الكاتب الأميركي الذي بالكاد كان أحد سمع باسمه قبل أن يرتكب "أفعاله" الكأداء في حق الرئيس الأميركي الأكثر نزاهة، كما في حق الكاتبة الأكثر مدعاة للاحترام. وهذا الكاتب يدعى سيث غراهام سميث الذي شهدت نهاية العقد الأول من القرن الجديد بداية نشاطه الأدبي تحت عنوان "الكبرياء والهوى والموتى الأحياء"، وهو عنوان حمل على غلافه توقيع هذا الكاتب، ولكن أيضاً توقيع جين أوستن على الرغم من أنها كانت قد رحلت قبل ما لا يقل عن قرن وثلاثة أرباع القرن من صدور هذا الكتاب من دون أن يتناهى إلى علمه، سميث نفسه، بعد حين ليدمجها في رواية ثانية لأوستن لا تقل شهرة ومكانة عن الأولى هي طبعاً "العقل والهوى". وبهذين العملين لم يعد الهم الأول لكل من بطلتي أوستن الحصول على زوج محب سيكون من شأنه أن يسهم بثروته في انتشال أسرتها التي حط بها الدهر مالياً إنما ليس طبقياً بالطبع، من انحدار مادي واجتماعي مريع، بل التعايش مع تلك المخلوقات الميتة والمتوحشة، بحسب كل من الحالتين، التي لم تكن معروفة في زمن الكاتبة!
هل هي مخيلة مريضة؟
مهما كان رأينا هنا في هذا النوع من "الأدب" الذي يستخدم "مخيلة مريضة" بحسب بعض نقاده لتحقيق مكاسب مالية تتضافر مع صدمة مريعة لدى قراء، ومتفرجي سينما بعد ذلك، كانوا اعتادوا على التعامل مع أدب أوستن وشخصياتها كجزء من تصوير إبداعي لأحوال الأمة البريطانية عند تلك المرحلة الانعطافية من تاريخها الاجتماعي، فبات عليهم أن ينسوا كل ذلك اليوم ليتعاملوا مع الأمكنة الريفية الإنجليزية غير البعيدة عن لندن التي تدور فيها الأحداث العاطفية ومحاولات العثور على أزواج لفتيات يقتربن من العنوسة، ليتعاملوا معها كمناطق وقصور تزدحم بالموتى الخارجين من قبورهم لالتهام الأحياء، جاعلين هؤلاء ينسون همومهم الأولى ليغرقوا في رعب شعاره البقاء بأي ثمن كان، نقول: مهما كان رأينا في هذا الأدب لا بد لنا من الاعتراف بأن مبتكره حقق عبره عدة خبطات في ضربة واحدة: فهو من ناحية أمعن سخرية من أدب بالغ الجدية وإلى درجة يبدو معها خارج السياق التاريخي بالنسبة إلى البعض عند نهايات القرن العشرين، ومن ناحية ثانية حقق للناشرين ومن ثم للمنتجين السينمائيين أرباحاً طائلة، وربما أعاد في طريقه نوعاً من الاهتمام بأدب جين أوستن لدى قراء أكثر شباباً وديناميكية مما كانت الأمور قد جرت عليه، أما في المقام الثالث فإنه فتح ثغرة في جدار التاريخ الأدبي ولكن السياسي أيضاً تمثلت في "ابتكار نوع أدبي جديد" كانت بوادر له تبدو خجولة في أزمنة سابقة، لكنه بات الآن يكتسب شرعية ما، واعداً بالمزيد من النجاح. ومن الواضح أن غراهام سميث نفسه سيكون أول من يخطو خطوات أساسية داخل تلك الثغرة وباكراً منذ العام التالي لظهور روايتيه "المقتبستين" عن تحفتي جين أوستن.
من "الأدب" إلى الشاشة
وكان عنوان تلك الخطوة الجديدة "أبراهام لينكولن، صائد الغيلان" كما أشرنا أول هذا الكلام. ولعل اللافت هنا هو أن هذه الرواية التي صدرت عام 2012 تحولت في العام نفسه وحتى في الوقت الذي كان الملايين يشترون نسخاً من طبعاتها المتلاحقة، إلى فيلم هوليوودي من تحقيق تيمور بيكمانبيتوف وإنتاج تيم بورتون؛ أما رواية "الكبرياء والهوى والموتى الأحياء" فلقد احتاجت إلى الانتظار سنوات أخرى، بل ما لا يقل عن أربع سنوات بعد تحقيق فيلم "لينكولن" قبل أن تؤفلم بدورها لتحقق نجاحاً تجارياً كبيراً. وطبعاً حكاية لينكولن مع الغيلان حكاية مخترعة من ألفها إلى يائها تدور فصولها منذ كان لينكولن شاباً يتدرج في طريق الحياة، لتنتهي عند آخر حياته حين انتصر على أعدائه الكونفيدراليين في الحرب الأهلية، ليخبر في الوقت نفسه أن الغيلان التي طويلاً ما حاربها على طريقة فون هلسنغ، الذي من الواضح أن الكاتب غراهام سميث مؤلف هذا النص التخريفي قد اقتبس منه ومن معاركه ضد الغيلان أموراً وتفاصيل كثيرة نسبها إلى لينكولن، تلك الغيلان قد تركت البلاد الأميركية بعد هزيمتها هي الأخرى متجهة إلى آسيا كما إلى أميركا اللاتينية لتنشر شرها هناك، إذ أقام الرئيس الأميركي سداً منيعاً في وجهها. وفي الختام يدخل هذا الأخير إلى تلك الصالة المسرحية فرحاً منتصراً ومستبشراً لكنه لن يفرح كثيراً بانتصاره إذ سيغتاله الممثل الفاشل جون ويلكز بوث، الذي كان يتوقع كما نكتشف في الختام أن يتحلق الغيلان من حول جثمان الرئيس القتيل ما يمكنه من الهرب بفعلته، لكنهم يختفون لسوء طالعه وتكون نهايته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رضا النقاد مضمون
مهما يكن من أمر لقد عرف الكاتب كيف يربط بشكل وثيق بين حكاية لينكولن الحقيقية والحكاية المفتعلة عن مقاومته الغيلان طوال سنوات، ومن الواضح أن الفيلم نفسه قد نجح في التعبير عن ذلك الربط، ما جعل الصحافة الأميركية ونقادها يقرظون الفيلم والرواية مفضلين الفيلم على روايتي غراهام المقتبستين من جين أوستن حيث على العكس مما فعل في هاتين الروايتين، كما أشار مقال حول الفيلم نشرته "لوس أنجيليس تايمز" بكل رصانة، "تمكن الفيلم والرواية هنا من أن يبدوا مقنعين في عمل إبداعي يجعله، وربما على مستوى الترميز الذي لا ينفع كثيراً في حالة جين أوستن، يخوض معركة مظفرة ضد أولئك الغيلان الذي يقومون هنا بمهمة قذرة" في ترميز بالطبع إلى "العنصريين الانفصاليين من أعداء الرئيس الذين سيمكن الافتراض في نهاية الأمر أن قاتله بوث الذي يعتبر نفسه واحداً منهم، كان ينتمي في الوقت نفسه إلى الغيلان!". وسواء أكانت هذه الإشارة صائبة أو مقحمة من خارج السياق، فإن الجمهور العريض استقبلها بترحاب يفوق كثيراً ترحابه بالاقتباسين عن أوستن... وفي الأحوال كافة يبقى أن ذلك الحراك الأدبي - السينمائي عرف في مجمله كيف يخلق إبداعاً طريفاً مسلياً من دون أن يصل بالطبع لا إلى مستوى التاريخ الحقيقي لحياة أبراهام لينكولن، ولا طبعاً إلى قامة أدب جين أوستن الشامخ.