ما هي إلا ساعات قليلة ويستيقظ المصريون بأطيافهم ودرجاتهم على إيقاع ما بعد رمضان. إيقاع شوال، باستثناء أيام العيد الثلاثة المفعمة بأجواء الاحتفال والحلوى والتجمعات الأسرية، ينذر بأجواء مغايرة وربما صدمات متتالية.
صدمة حرب روسيا في أوكرانيا لم تأخذ وقتها الكافي لتمام التجلي قبل رمضان. فمصر التي استوردت 80 في المئة من حاجات قمح مئة مليون مواطن العام الماضي، من كل من الدولتين المتحاربتين رسخت لنفسها موقع الصدارة في قائمة أكثر دول العالم استيراداً للقمح. نحو 13 مليون طن من القمح تستوردها مصر أغلبها من أوكرانيا وروسيا. والمشكلة لا تقتصر على ارتفاع سعر القمح عالمياً بفعل الأزمة، الذي يتوقع أن يزيد 42.7 في المئة ليصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة (بحسب تقرير صادر قبل أيام عن البنك الدولي)، لكنها تمتد إلى تعثر التصدي، وهو الفيصل في الوضع الغذائي المتأزم عالمياً حالياً.
حسم الحرب
الأزمة الحالية في أسعار الحبوب والطاقة لن تتغير إلا بحسم عسكري أو تدخل دبلوماسي بين روسيا وأوكرانيا. لكن إقناع جموع المصريين بضرورة انتظار مآل الحسم العسكري أو آمال التدخل الدبلوماسي بين دولتين لا تعرف الغالبية عنهما سوى أنهما دولتان بعيدتان، وذلك لرفع بعض من الأثقال الاقتصادية التي تفاقمت على كواهلهم في الأسابيع الماضية أمر بالغ الصعوبة، بل فيه استحالة.
استحالة عودة الأوضاع المعيشية للمصريين بعد رمضان لما كانت عليه قبل رمضان تجعل التطرق إلى حقيقة الأوضاع الاقتصادية وسبل التعامل والتعايش وتقليص هوامش الخسارة وتسكين حدة الألم مسألة صعبة.
جانب من الصعوبة أوكل إلى عدد من الإعلاميين قبل أسبوعين تقريباً في سياق رمزي بالغ الدلالة. المكان توشكى (جنوب أسوان) والمناسبة إطلاق إشارة بدء موسم حصاد القمح. مطلق الإشارة هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والجمهور أغلبه إعلاميون قادرون على نقل الرسالة وتوصيل الضمادة إلى القاعدة العريضة من المتلقين.
قال الرئيس المصري إن بلاده تأثرت بالأزمة الأوكرانية. مؤسسات التمويل الدولية قالت إن غالبية دول العالم تأثرت، "فما الذي يجعلنا لا نتأثر؟!" وعلى الرغم من ذلك، أكد السيسي "أننا تمكنا من الصمود وامتصاص الصدمات، بل وعدم تأجيل مبادرة (حياة كريمة) التي تستهدف تحسين الأوضاع المعيشية لنحو 60 مليون مصري".
لكن المئة مليون مصري موعودون بأجواء تختلف تماماً عن أجواء رمضان. فوفرة الدقيق اللازم لحلوى رمضان، والإضافي لتصنيع كم أكبر من أرغفة الخبز، والفاخر لزوم الكعك والغريبة والبسكويت أساسيات العيد ربما خدرت أوصال البعض. أثر التخدير إلى زوال. وبعد الزوال يأتي شوال حيث تقارير وتوقعات اقتصادية عدة تتوقع تواتر الصدمات.
صدمات متتالية
هذه الصدمات بدأت بالفعل مع الدقات الأولى لطبول الحرب في أوكرانيا. لكن التوقعات تشير إلى مزيد منها بعد رمضان. مئات الأكشاك والعربات المتنقلة لبيع السلع الغذائية ومستلزمات الشهر بأسعار تقل عن مثيلتها في السوبرماركت غمرت الشوارع والميادين طيلة الشهر. وبين مبادرات "تحيا مصر" و"حياة كريمة"، وحملة "كلنا واحد" لوزارة الداخلية، واحتفالية "أهلاً رمضان" لوزارة التموين وغيرها، نجحت الدولة بالتعاون مع منظمات مجتمع مدني في تسكين الآلام وتضميد الجراح نسبياً، وهي الآلام والجراح المزمنة منذ أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، والتي تطلبت الإسراع ببدء برنامج الإصلاح الاقتصادي في عام 2016.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حديثه بتوشكى، قال إن الأزمة الاقتصادية بدأت عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. ذكر الجميع بأن مصر وقتها فقدت الجانب الأكبر من احتياطي النقد الأجنبي الذي هبط من 36 إلى 14 مليار دولار. بل قال إن ما بقي فعلياً في الاحتياطي كان الأصول العينية فقط. في التوقيت جرى تعيين مليون مواطن لـ"تهدئة خواطر الناس"، على الرغم من أن الاقتصاد لم يكن فقط في غنى عن هؤلاء، بل كان يحتاج إلى تخفيف حمل الموجودين أصلاً من موظفي الحكومة.
سحر الميري
موظفو الحكومة تكاثروا وتوالدوا، ومعهم تكاثرت وتوالدت متطلباتهم واحتياجاتهم ومميزاتهم وخدماتهم ودعمهم الحكومي على الرغم من أن الجهاز الإداري للدولة ظل لعقود طويلة يئن من فرط العمالة. لكن "الميري" ظل أيضاً شأنه شأن رغيف الخبز مسألة أمن قومي ووسيلة حكم وأثر السحر وكبسولة تخدير. ووصل الأمر لدرجة أن لكل 15 شخصاً موظفاً حكومياً "يلتهمون الموازنة العامة للدولة" على حد توصيف برلماني قبل سنوات.
لكن هذا الجيش الجرار من موظفي الحكومة المقدر عدده بنحو 6.4 مليون شخص (2021) ربما يجد نفسه مضطراً إلى إجراء تعديلات في أسلوب المعيشة بعد رمضان. ومعهم ملايين العاملين (نحو 15 مليوناً بحسب تقديرات غير رسمية) يعملون في مليوني منشأة إنتاجية في القطاع الخاص غير الرسمي الذين سيواجهون حقيقة الأوضاع الاقتصادية الضاغطة بشكل مباشر عقب انتهاء أجواء رمضان.
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أعلن للمرة الأولى في عام 2020 عن حجم العمل في القطاع غير الرسمي. مشيراً إلى أنه يشكل 53 في المئة من إجمالي المنشآت الاقتصادية.
اقتصادات ضاغطة
اقتصادات ما بعد رمضان ستكون ضاغطة. صحيح أن الأوجاع الاقتصادية مستمرة منذ عام 2016 مع بدء تطبيق مراحل الإصلاح الاقتصادي من رفع دعم وزيادة أسعار الوقود والكهرباء والسلع، إضافة إلى فرض أنواع وأشكال من الضرائب على خدمات مختلفة، مثل المطاعم واستخدام الطرق وإنجاز الأوراق الرسمية، إلا أن انتهاء أجواء الروحانيات والاحتفاليات وإغراق الأسواق بعربات المنتجات والسلع بأسعار معقولة لـ"إدخال الفرحة على قلوب الصائمين" سيدفع الجميع لمواجهة الواقع ما بعد رمضان.
في رمضان، وفي حفل "إفطار الأسرة المصرية" الذي يدعو إليه الرئيس المصري عدداً من المواطنين والإعلاميين والمسؤولين، عاود السيسي الدق على أوتار القنبلة البشرية. "على الرغم من كل التحديات، تصوروا اليوم لو كان حجم الناتج الزراعي كما هو عليه وعدد السكان 40 مليوناً أو 50 مليون نسمة، هل كان سيكفينا أم لا؟". وأضاف أنه لو كان تعداد مصر 40 أو 50 مليون نسمة لكان إنتاج القمح المصري يكفي، وهذا ينطبق على الكثير مما تنتجه البلاد.
القنبلة البشرية
العباد في البلاد ربما يشهدون بعد انتهاء أجواء رمضان والعيد الاحتفالية خطوات رسمية قد يراها بعض الناس ضرورية وحتمية وينعتها آخرون بالقاسية. القنبلة البشرية قد تواجه محاولات تفكيك وجهود حلحلة. فالأربعون مليوناً التي أشار إليها الرئيس السيسي في حديثه قبل أيام زادها المصريون في 20 عاماً، ووصلوا 104 ملايين والعداد لا يهدأ.
هل يهدأ العداد بعد انتهاء رمضان؟ وتر التكاثر السكاني، الذي لا يفتر دق عليه الرئيس المصري كذلك في توشكى. تساءل مستنكراً "في عام 2011 كنا 88 مليوناً، اليوم نتحدث عن 104 ملايين. ما أعباء الـ20 مليوناً الإضافيين؟ ما أعباؤهم على الدولة المصرية؟ هل حجم النمو في مصر كان من الأصل يناسب عدد سكانها؟".
وعلى الرغم من أن الرئيس السيسي لم يذكر مباشرة مسألة تنظيم الأسرة والتعقل في الإنجاب، فإن المؤشرات الحالية في ضوء الأوضاع الاقتصادية المرشحة للتفاقم والثقل المتوقع على الجميع يرجح أن تشهد الأسابيع المقبلة خطوات فعلية في ملف القنبلة السكانية.
تهيئة الدين
ويشار إلى أن الأرضية الدينية جرى تمهيدها بشكل لائق طيلة رمضان. "تنظيم الأسرة واجب بإجماع المؤسسات الدينية"، "تنظيم النسل مباح والدين أمرنا بتخطيط كل شيء"، "الإسلام دعا إلى تنظيم الأسرة حفاظاً على المرأة"، "تنظيم الأسرة حلال وجائز"، "مقاصد الشرع وغاياته تدعم اتجاه تنظيم الأسرة"، وغيرها من العناوين التي طالعها المصريون طيلة الشهر الفضيل.
الأسابيع القليلة السابقة لرمضان وطيلة الشهر شهدت تكثيفاً لخدمات الصحة الإنجابية وتقديم وسائل تنظيم الأسرة مجاناً في مختلف المحافظات المصرية، إضافة إلى قوافل وعيادات متنقلة في الأماكن التي تشكو عدم وجود وحدة صحية. وتعد تلك الجهود عودة فعلية لبرامج تنظيم الأسرة، وهي البرامج التي فترت في السنوات القليلة الماضية مع استمرار الخطاب السلفي الداعي إلى كثرة الإنجاب، باعتباره واجباً دينياً، وذلك في فتاوى غير رسمية.
الأجواء تنبئ بخطوات فعلية حاسمة تتخذها الدولة في الأيام القليلة المقبلة في محاولة لكبح جماح الإنجاب من دون هوادة، حيث صراخ مولود جديد كل 15 ثانية. المقرر السابق للمجلس القومي للسكان عمرو حسن قال إن الفقر إذا كان نتيجة زيادة عدد السكان، فإنه أيضاً سبب لزيادة السكان. نحن أمام خيارين إما تنظيم الإنجاب وإما زيادة الفقر والجوع والأمية.
الخياران واضحان أمام الحكومة المصرية. حملات تنظيم الأسرة بدأت جانباً من المسيرة، وربما يتبع ذلك خطوات أخرى تضييقية على مقاومي التنظيم وراغبي التكاثر من دون تفكير.
آلام الصندوق
التفكير فيما يعنيه لجوء مصر مجدداً إلى صندوق النقد الدولي يعود مجدداً في دوائر النقاش بعد انتهاء رمضان. شبح الصندوق ومغبة القروض ومخاوف الديون تقلق مضاجع بعض المتابعين، لكنها لا تثير كثيراً من الاهتمام الشعبي المنشغل أغلبه بقوت يومه وتأمين قوت الغد. لكن قبل أيام من انتهاء رمضان، مر تصريح لوزير المالية المصري محمد معيط مرور الكرام. قال إن مصر تتطلع لاستمرار "دعم" صندوق النقد الدولي لاقتصادها لعبور الأزمة الراهنة. وأضاف أن "البرنامج الجديد الذي يجري التشاور حوله مع الصندوق يستهدف دعم الإصلاحات الهيكلية لمساندة الاقتصاد المصري".
وكانت رئيس بعثة الصندوق لمصر سيلين آلار، قد أصدرت بياناً في مارس (آذار) الماضي جاء فيه أن "التغير السريع في البيئة العالمية وتأثير التداعيات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا يفرضان تحديات مهمة على البلدان في مختلف أنحاء العالم، ومنها مصر"، وأن السلطات المصرية طلبت دعم صندوق النقد الدولي في تنفيذ برنامجها الاقتصادي الشامل.
وأشار البيان إلى أن اتخاذ مجموعة من الإجراءات على صعيد السياسات الاقتصادية الكلية والهيكلية من شأنه أن يسهم في التخفيف من أثر هذه الصدمة على الاقتصاد المصري وحماية الفئات الضعيفة والحفاظ على صلابة مصر وآفاق نموها على المدى المتوسط.
فترة عدم يقين
كما لفت البيان إلى أن اتباع منهج حذر في السياستين المالية والنقدية أمر ضروري للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وأن "مرونة" سعر الصرف عامل ضروري لاستيعاب الصدمات الخارجية وحماية هوامش الأمان المالية أثناء هذه الفترة من "عدم اليقين".
فترة عدم اليقين من آثار الأوضاع الاقتصادية التي فرضتها حرب روسيا في أوكرانيا وسبل التعامل معها والتعايش مع ما يمكن التعايش معه وانتهاج سبل ترشيد جديدة على الصعيدين الرسمي والفردي تبدأ عقب انتهاء عطلة العيد. ربما ما ينتظره المصريون من مواجهة حقيقية من دون روحانيات رمضان واحتفاليات العيد ومسكنات عدم التضييق في المعروض من السلع والأغذية ليس حكراً عليهم أو أزمة تتربص بهم من دون غيرهم. لكن عادة المصريين في وضع النقاط فوق الحروف وتشبيك بعض الأحداث ببعض، واستشراف ما هو آتٍ، يجعل الكثيرين على أهبة الاستعداد لمواجهة ما هو آتٍ، وهو استعداد نابع من أن القدر واقع لا محالة.
حال الحضور في إفطار الأسرة المصرية حين قال الرئيس السيسي "سأقول لكم كلمة صعبة. أنا مستعد آكل ربع أكلة لمدة سنة لكن مصر تعيش". كان تصفيقاً حاراً، لا سيما حين أضاف أن "الشعب المصري صلب أوي (جداً) وفاهم. أتحدث عن الناس البسطاء في الشارع وأنا منهم".