مع استمرار الانسداد السياسي في العراق وعدم التوصل إلى أي حلول لأزمة تشكيل الحكومة والخلافات السياسية التي تستمر منذ أكثر من ستة أشهر، إثر التصعيد المستمر من قبل الجماعات الموالية لإيران والتي خسرت غالبية مقاعدها في الانتخابات الأخيرة، يبدو أن انعطافة جديدة تلوح في أفق حلفاء طهران لإعادة تفعيل سيناريو التوافق الأميركي - الإيراني في تشكيل الحكومة المقبلة.
ولعل ما يعيد تداول معادلة طهران- واشنطن كفاعل محتمل في أجواء تشكيل الحكومة المقبلة، هو حديث مراقبين عن أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ربما تعيد تمكين إيران في المنطقة من خلال إعادة إحياء الاتفاق النووي بشروط مخففة.
وعلى الرغم من الإشكالات الكبيرة التي خلفتها تلك المعادلة على الوضع العراقي خلال السنوات الماضية، والمطالبات الواسعة بإبعاد الحراك السياسي في البلاد عن التأثيرات الخارجية الإقليمية والدولية، فإن حراكاً سياسياً داخلياً يبدو أنه يطمح إلى إعادة تفعيل هذا السيناريو.
ولكن المتغيرات الكبيرة التي طرأت على الساحة العراقية خلال السنتين الأخيرتين قد تحول دون إعادة تلك التوافقات إلى المشهد، خصوصاً مع وصول التصدعات داخل "البيت الشيعي" إلى أعلى مستوياتها، فضلاً عن التماسك الكبير الذي يظهره "التحالف الثلاثي" في مواقفه إزاء حكومة "الأغلبية الوطنية".
غزل إيراني لإدارة بايدن
ومنذ وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، لم تتوقف أطراف الفصائل الموالية لإيران وأذرعها السياسية وعلى رأسها زعيم ائتلاف "دولة القانون" نوري المالكي، عن إرسال رسائل الغزل إلى الإدارة الجديدة في واشنطن، فضلاً عن علامات الارتياح التي بدت واضحة على طهران نفسها مع إمكانية إعادة التفاهم بخصوص الاتفاق النووي.
وفي خضم الأزمة القائمة بين "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية" والذي يضم التيارات الموالية لإيران من جهة، والتحالف الثلاثي الذي يضم الكتلة الصدرية وكتلة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" وتحالف "السيادة" من جهة أخرى، برزت ملامح "المغازلات الولائية" لواشنطن بشكل واضح.
وتندرج تصريحات المالكي الأخيرة ضمن سلسلة المغازلات التي يطلقها حلفاء طهران في العراق إلى الإدارة الأميركية، إذ استثنى زعيم ائتلاف "دولة القانون" واشنطن مما سماه "المؤامرة التي يقودها التحالف الثلاثي على المكون الأكبر".
وكان المالكي قد أكد في 28 أبريل (نيسان) الماضي، أن واشنطن "غير راضية" عن مشروع التحالف الثلاثي، فيما أشار إلى أن إدارة بايدن "متخوفة من فشل المشروع وارتداده بعواقب وأضرار".
ويقول الكاتب والصحافي، محمد عزيز، إن حلفاء طهران يعتقدون بتشابه الأجواء السياسية الحالية إلى حد ما مع "أجواء تشكيل الحكومات العراقية في فترة رئاسة باراك أوباما، والتي شهدت تفعيل معادلة طهران- واشنطن"، مبيناً أن هذا الرأي ربما تبلور لدى الجبهة الموالية لطهران بناءً على أن كل التفاهمات الأميركية - الإيرانية بشأن الحكومات العراقية السابقة، تمت خلال حكم الديمقراطيين للولايات المتحدة.
وعلى الرغم من التعويل الإيراني على تفعيل السيناريو ذاته في الفترة الحالية، يرى عزيز أن المتغيرات السياسية التي طرأت على المشهد السياسي خلال الأعوام الماضية تحول دون إمراره، لافتاً إلى أنه من أبرز المتغيرات "استمرار تماسك التحالف الثلاثي طوال الفترة الماضية على عكس ما كان يجري خلال السنوات الماضية من رضوخ للضغوط الإيرانية".
ويتابع عزيز أن "تماسك وصمود التحالف الثلاثي حتى الآن على الرغم من وصول الضغوط الإيرانية إلى أعلى مستوياتها بعد قصف أربيل بالصواريخ الباليستية، قد يمثّل أحد مؤشرات التغيير في المعادلة العراقية".
وبحسب عزيز، فإن "التفاهمات السريعة بين الديمقراطيين والفصائل الإيرانية لإنتاج معادلة تقاسم سياسي جديدة واستغلال الإدارات الديمقراطية في واشنطن، قد لا تكون ممكنة وفق العوامل الحالية".
الانسداد السياسي وحظوظ الكاظمي
وفي خضم محاولات استعادة سيناريو "طهران – واشنطن"، يرى مراقبون أن خطوات الكاظمي الأخيرة والتي "تتجه بشكل متصاعد صوب الميليشيات الموالية لإيران، تعطي انطباعاً بأنه يسعى لانتزاع ولاية ثانية بالتعويل على الانسداد السياسي، وإمكانية طرحه كخيار توافقي بين جميع الأطراف".
وشابت العلاقة بين الكاظمي والميليشيات الموالية لإيران العديد من التوترات خلال فترة ولايته، إلا أن بوصلة لقاءاته الأخيرة تشي بأن تغيراً كبيراً قد طرأ خلال الأشهر الأخيرة على سلوكه السياسي.
وشهد شهر أبريل (نيسان) الماضي سلسلة لقاءات جمعت بين الكاظمي وقياديين في الخط الأول للأحزاب الموالية لإيران، حيث ظهر في أكثر من مناسبة مع قادة التيارات الموالية لإيران، وعلى رأسهم هادي العامري وأبو فدك المحمداوي وفالح الفياض ونوري المالكي.
وإضافة إلى تلك اللقاءات، ظهر الكاظمي في مقطع مصوّر مع القيادي في "الحشد الشعبي" قاسم مصلح خلال إشرافه على عملية عسكرية في الأنبار الأسبوع الماضي.
واعتقل مصلح في مايو (أيار) 2021، على إثر الاتهامات باغتيال الناشط في الاحتجاجات العراقية، إيهاب الوزني، الذي عرف بمناوءته النفوذ الإيراني في البلاد. إلا أن القضية سرعان ما أغلقت بعد أن حاصرت قوات تابعة لـ"الحشد الشعبي" المنطقة الخضراء الحكومية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسود اعتقاد بأن المتغيرات في سلوك الكاظمي إزاء الميليشيات، تندرج ضمن محاولات الرجل نيل ولاية ثانية من خلال طرح نفسه كعنصر توازن سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي والدولي، على عكس ما كانت تحاول الماكينات الإعلامية المقربة منه تصويره خلال فترة حكمه على أنه جاء لحسم ملف النفوذ الإيراني.
في المقابل، يعتقد أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر، أن المتغيرات السياسية حتى الآن لا تعطي انطباعاً بإمكانية إبرام اتفاق أميركي - إيراني بشأن الحكومة العراقية المقبلة.
ويضيف في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن الكاظمي يحاول تصوير نفسه على أنه "نقطة الالتقاء بين التيار الصدري والإطار التنسيقي في مسعى منه لطرح نفسه كحل للانسداد السياسي القائم".
ويشير إلى أن الكاظمي يعد أكثر المستفيدين حالياً من الانسداد السياسي القائم، مبيناً أن "حظوظه بولاية ثانية مرتبطة بمدى تمساك التحالف الثلاثي خلال الفترة المقبلة من عدمه".
"إعادة تمكين إيران"
ويرى الباحث في الشأن السياسي، أحمد الياسري، أن ثنائية إيران- أميركا باتت "تلوح في أفق بغداد" خصوصاً مع وصول التفاعلات الداخلية إلى الانسداد.
ويضيف أن ما دفع بهذا السيناريو إلى المشهد هو "شعور قوى الإطار التنسيقي والمالكي بالعجز من إمكانية تفكيك التحالف الثلاثي"، مبيناً أن هذا الأمر "دفعهم إلى استدعاء الفواعل الخارجية الكلاسيكية لتقويض هذا التحالف".
ووفقاً للمتغيرات على الساحة الإقليمية ومحاولات الرئيس الأميركي جو بايدن "إعادة تمكين إيران في المنطقة"، بحسب الياسري، فإن الإدارة الأميركية "ربما تبدأ مشروعها من خلال إعادة المسار السياسي في العراق إلى ما كان عليه في فترة حكم أوباما من تقاسم إيراني- أميركي".
وربما يندرج حثّ نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون العراق وإيران، جينيفر غافيتو، السياسيين العراقيين على الإسراع في تشكيل الحكومة لـ"تجنيب البلاد الفوضى"، بادرة لتبرير احتمالات صياغة توافق أميركي جديد مع طهران في الساحة العراقية.
وكانت المسؤولة الأميركية، قالت في مؤتمر صحافي، 22 أبريل الماضي، إن تأخر تشكيل الحكومة يمثل "عائقاً أمام التقدم في القضايا الثنائية وفي القطاعات كافة، بما في ذلك الأمن والاقتصاد".
وعلى الرغم من تعبير المسؤولة الأميركية عن قلقها من النفوذ الإيراني الذي وصفته بـ"الخبيث"، فقد أشارت إلى أن واشنطن تسعى لحل خلافاتها مع إيران من خلال الطرق الدبلوماسية.
ويعتقد الياسري أن الحديث الأميركي عن استعجال تشكيل الحكومة يتضمن في طياته "دفعاً للتوافق بين المختلفين، كما كان يحصل بين الإدارات الديمقراطية وأطراف إيران المسلحة خلال الحكومات السابقة".
ويشير إلى أن إعادة تفعيل معادلة طهران- واشنطن مرة أخرى سيكون مرهوناً بـ"إمكانية تراجع التحالف الثلاثي عن فكرة الأغلبية الوطنية، والذي يبدو متمسكاً بها حتى الآن".
وبحسب الياسري، فإن عوامل عدة تعزز موقف التحالف الثلاثي، تتمثل بـ"طموح الصدر للوصول منفرداً إلى رئاسة الوزراء بعيداً عن البيت الشيعي، وشعور الكتل السنية بأن هذا التحالف يمثل فرصة لهم بأن يكونوا شركاء حقيقيين في السلطة للمرة الأولى، فضلاً عن أنه يمثل خطوة إضافية بالنسبة للحزب الديمقراطي الكردستاني لتسيّد المشهد الكردي في بغداد والإقليم".
ويختم أنه، وفق المعادلة الحالية "لا يبدو تأثير الفواعل الخارجية على التفاهمات السياسية ممكناً".