عملياً، تبدأ الانتخابات النيابية اللبنانية خلال الساعات المقبلة من بلاد الاغتراب التي يجري فيها التصويت في تاريخين: الجمعة 6 مايو (أيار) في دول الاغتراب العربية والإسلامية، حيث العطلة الأسبوعية فيها يوم الجمعة، والأحد 8 مايو في سائر القارات التي ينتشر فيها لبنانيون. ووصل عدد الناخبين المغتربين الذين سجلوا أسماءهم إلى 225114 ناخباً بحسب الأرقام الرسمية النهائية، فيما كان الذين سجلوا في الدورة الانتخابية الماضية عام 2018 حوالى 80 ألفاً لم يقترع جميعهم.
ويدل ارتفاع العدد إلى 3 أضعاف على مدى حماسة المغتربين للاقتراع وسط تكهنات بأن أكثريتهم ضد السلطة الحاكمة، وفي وقت تميل التقديرات إلى استنكاف جزء من الناخبين في لبنان جراء النقمة وعدم الاكتراث بفعل الانطباع بأن شيئاً لن يتغير. وتتنافس القوى السياسية على جذبهم إلى مرشحيها.
فبعد أقل من 10 أيام تجرى الانتخابات في 15 مايو على الأراضي اللبنانية. وشهدت الأيام الفاصلة عن موعد الانتخابات التي يجمع الفرقاء السياسيون المتنافسون فيها، والدول المراقبة لها والمعنية بالأزمة اللبنانية، على أنها "مفصلية" أو "مصيرية" بالنسبة إلى مستقبل لبنان، نظراً إلى أنها ستجدد عضوية 128 نائباً، يقع على عاتق القوى والكتل الأساسية التي سيتوزعون عليها اتخاذ القرارات المطلوبة والمتأخرة سنتين بفعل الخلافات السياسية، من أجل انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية المالية غير المسبوقة، فضلاً عن أنها ستختبر قدرة لوائح ممثلي المجتمع المدني وانتفاضة 17 تشرين 2019، الرافضين للطبقة السياسية الحاكمة المتهمة بالفساد والهدر والتسبب بالأزمة التي يغرق فيها اللبنانيون.
لكن الأهم أن ميزان القوى الذي ستفرزه هذه الانتخابات بين "حزب الله" وحلفائه، الذين كانوا حصدوا الأكثرية في البرلمان الحالي، وبين خليط القوى السيادية وبقايا قوى "14 آذار" والمعارضة المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين، التي يطرح مرشحوها شعار رفض "دويلة" الحزب وسلاحه واستتباعه البلد لإيران، للمرة الأولى بزخم فاق الحملات السابقة ضد محور "الممانعة". كما أن ميزان القوى هذا سيلعب دوراً في تحديد هوية الحكومة المقبلة ورئيسها، ثم هوية رئيس الجمهورية القادم في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون الحليف للحزب.
التراشق بالاتهامات نفسها
العناوين المصيرية الكبرى التي ستكون ملقاة على عاتق المجلس النيابي الجديد، والتغييرات التي حصلت في الواقع اللبناني خلال السنوات الأربع الماضية وفرضت تغييراً في المزاج الشعبي اللبناني، وفي بعض التحالفات التي أرست التسوية السياسية التي أتت بالعماد عون إلى الرئاسة عام 2016، انعكست على الحملات الانتخابية التي اشتد خطاب التجييش فيها، فاستلت القوى السياسية التقليدية كل أسلحتها في مواجهة الخصوم بما فيها نكء جراح الحروب واستخدام عبارات التجريح من أجل شد العصب وحشد الأصوات واجتذاب المترددين. وما من فريق إلا واتهم منافسه بـ"الإلغائية" وبالسعي إلى "الهيمنة" و"بتغيير هوية لبنان" وبالعمل من أجل شطبه. فكانت كل تهمة يطلقها فريق حيال الآخر، يردها الثاني إليه بحججه الخاصة.
اللافت أن القوى السياسية قاطبة، والمراجع الدينية الرئيسة، تدعو الناخبين إلى الاقتراع وعدم الاستنكاف أو الاستهتار بالاستحقاق الانتخابي، مع أن بعضها مثل "حزب الله" وحلفائه، يراهن على احتمال انخفاض نسبة الاقتراع في بعض المناطق لا سيما ذات الثقل العددي السني بعد عزوف زعيم تيار "المستقبل" الأقوى في الطائفة عن الترشح للانتخابات، من أجل ضمان كسب المقاعد النيابية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأمثلة عن تبادل الاتهامات الكبرى واستنفار العصبيات الحزبية والطائفية لا تحصى، وأبرزها في ميدان المنافسة المسيحية بين "التيار الوطني الحر" وحزب "القوات اللبنانية"، وبين "التيار" والمرشحين الذين خرجوا من تكتله النيابي أو انسحبوا منه في السنتين الأخيرتين. وأكدت مصادر قيادية مسيحية أن المعركة بين "التيار" و"القوات" تدور على من يحظى بحصة أكبر من النواب المسيحيين، إذ يجهد "التيار" للاحتفاظ بتفوقه العددي على الرغم من انخفاض شعبيته للحؤول دون أن تتصرف "القوات" بعد الانتخابات على أنها تمثل الأكثرية المسيحية. وهو الهدف الذي يعاونه "حزب الله" على تحقيقه، عبر وعده لباسيل بتجيير أصوات حلفائه له.
"حرب الإلغاء" والمواكب العسكرية
أطلق اتهام رئيس "التيار"، النائب جبران باسيل، حزب "القوات" وحزب "الكتائب" بتخطي سقف الإنفاق الانتخابي الذي حددته هيئة الإشراف على الانتخابات، وتقدمه بشكوى في هذا الصدد، تراشقاً عنيفاً لا سيما بين "القوات" وباسيل، الذي استعاد لغة العداوة التي نشأت بينهما في "حرب الإلغاء"، (وهي التي شنها العماد ميشال عون على "القوات" حين كان رئيساً لحكومة انتقالية عام 1989، ثم طويا صفحتها في "تفاهم معراب" للمصالحة بين الجانبين في 2016) ما دفع "القوات" إلى الرد فوصف باسيل بأنه "سارق الجمهورية وناهب الشعب"، ليعود الأخير يتحدث في بيان لتياره عن "صاحب التاريخ الأسود والميليشياوي الدائم"، و"يهوذا العصر".
وفي سياق الاشتباك الكلامي العنيف، دعا رئيس جهاز العلاقات الخارجية في "القوات" ريشار قيومجيان، إلى عدم انتخاب "من تلفظه الناس وترفضه المناطق"، في إشارة إلى زيارات باسيل الانتخابية لإقامة مهرجانات الترويج للوائح التي يدعمها تياره بمناطق عكار والبقاع الشمالي والغربي وزحلة والجبل، إذ جرت تحركات وعملية قطع طرقات رافضة لاستقباله من قبل الجمهور المعترض على وجوده في الشمال والبقاع. وتسببت تلك الزيارات في ضجة، أولاً لأن بعض هذه المهرجانات كان هزيل الحضور الشعبي، وثانياً لأنها تمت وسط مواكبة كبيرة من الجيش سواء في موكبه، أو على الأرض في القرى التي توجه إليها، وهو أمر لم يكن ليحصل لو لم يكن صهر رئيس الجمهورية، والحماية الأمنية التي رافقته لا يمكن أن يحظى بها أي مرشح أو سياسي آخر أراد الترويج الانتخابي، في وقت تعرض مرشحون وسياسون يدعمون لوائح في مناطق أخرى للقمع والعنف من دون تأمين حماية رسمية لهم.
تمهيدات للطعن بالنتائج
التراشق تصاعد أيضاً مسيحياً، لا سيما بين "التيار" و"القوات"، ليس فقط على خلفيات اتهام باسيل للثاني بتخطي سقف الإنفاق الانتخابي. إذ سبقه اتهام رئيس حزب "القوات" سمير جعجع الأول بالتلاعب بانتخابات المغتربين التي يأمل جعجع بحصول حزبه وحلفائه على اقتراع أكثريتهم لمرشحيه، عن طريق توزيع وزارة الخارجية (التي يحتفظ باسيل بنفوذ فيها من خلال دبلوماسيين عينهم يدينون له بالولاء) بعضهم على مراكز اقتراع في مناطق بعيدة عن أماكن سكنهم لتشتيت الناخبين. وشمل الاتهام أن بعض دبلوماسيي الخارجية يرفضون إعطاء تصاريح لمندوبي المعارضة في مراكز الاقتراع الاغترابية، فيما وصف باسيل مسؤولي "القوات" في بعض دول الاغتراب بـ"الأغبياء" لأنهم سجلوا بعض الناخبين التابعين لهم على عناوين غير عناوينهم، فجرى توزيعهم على هذا الأساس.
مصادر سياسية مطلعة قالت إن ما ظهر من شكاوى ضد وزارة الخارجية قد يشكل مادة للطعن بالانتخابات بعد انتهائها أمام المجلس الدستوري، وكذلك الاعتراض من باسيل على الإنفاق الانتخابي لـ"القوات" يوحي بأن كلا الطرفين يتهيأ لتقديم طعن قانوني بنتائج الانتخابات. واستدلت هذه المصادر من انضمام الرئيس عون إلى التحذير من المال الانتخابي بدوره على أنه دعم لشكوى تياره.
من التهديد إلى الاعتداء الجسدي
على الجانب الشيعي، بلغ التخاطب العالي السقف حداً تجاوز مواجهة "حزب الله" منافسيه الذين يطرحون مسألة سلاحه، باعتماد لغة التخوين والقول إن هؤلاء يخدمون أميركا والتطبيع مع إسرائيل. فبعد نجاحه في سحب ثلاثة مرشحين شيعة من لائحة تتشكل من تحالف معارضين له من الطائفة مع مرشح لحزب "القوات اللبنانية" في دائرة بعلبك الهرمل في البقاع، لجأ مناصروه إلى أسلوب الترهيب الأمني. بعد إطلاق الرصاص وقذائف الآر بي جي في الهواء، الأسبوع الماضي، أثناء إلقاء رئيس اللائحة الشيخ الشيعي عباس الجوهري كلمة في لقاء انتخابي في بلدة الخضر في البقاع الشمالي، ما أدى لإلغاء لقائه أهالي البلدة، ثم حادث منع المرشح الشيعي حسين رعد من لقاء الناخبين في بلدة تعلبايا ومحاصرته فترة من الوقت، ووصل الأمر إلى الاعتداء الجسدي على رعد، الثلاثاء، فأثناء أداء الأخير واجب العزاء في حسينية في بعلبك انهال أحد الموجودين وهو عضو في "حزب الله"، على المرشح بالضرب ما جعله يغيب عن الوعي. وأكد الشيخ الجوهري أن "أبسط حقوق المرشح هي الحماية الشخصية وحرية لقاء الناخبين، وهناك اعتداءات يومية في قرى القضاء، وبدأت أشهد بصمات تنظيمية عليها، وما حصل عمل قبيح يضر بـ"حزب الله" أكثر ما يضرّنا".
وانتقلت أعمال الترهيب إلى دائرة جبيل في جبل لبنان. فقد حلّقت فوق دارة المرشح عن المقعد الماروني، فارس سعيد، صاحب شعار "مواجهة الاحتلال الإيراني" طائرة مسيرة، فاشتكى إلى القوى الأمنية بعدما اعتبر مناصروه أنها رسالة تهديد. ثم حضر إلى منزله شخصان من آل حمية من البقاع في سيارة بلوحة مزوّرة، وطلبا منه مساعدة مالية. ووضع سعيد ما حصل في عهدة القوى الأمنية التي اكتفت باستجواب الشابين والتثبت من أن لوحة السيارة مزورة.
وتشير أوساط لوائح مرشحي المجتمع المدني في الجنوب، ضد لوائح "الثنائي الشيعي" إلى أن بعض هؤلاء يتلقون اتصالات هاتفية بتهديدهم، في شكل يومي. ويعود استخدام العنف على الساحة الشيعية إلى أن "حزب الله" لا يحتمل أي مخاطرة بأن يؤدي القانون النسبي إلى مفاجأة بحصول اختراق من منافسين شيعة من جهة، وأن تسهم أصوات المرشحين الشيعة في تعزيز فرص مرشح "القوات" في النجاح، على حساب مرشح "التيار الحر"، من جهة ثانية.
"المستقبل" يجاهر بالمقاطعة والمفتي ينبه
على الصعيد السني، أخذ يطفو على السطح خلاف بين الدعوة إلى مقاطعة الاقتراع، التي أخذ بعض مناصري زعيم "المستقبل" الترويج لها علناً، على خلفية عزوف الحريري عن الترشح والاشتراك في الانتخابات، وبين الدعوات إلى الذهاب بكثافة إلى الصناديق. فمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أعلن موقفاً لافتاً في خطبة عيد الفطر إذ قال، "أحذر وأنبه من خطورة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات، ومن خطورة انتخاب الفاسدين السيئين، لأن الامتناع عن المشاركة هو الوصفة السحرية لوصول الفاسدين السيئين إلى السلطة. وإن تكرار الأخطاء جريمة. وأسوأ الجرائم تلك التي ترتكب بحق الوطن، وبحجة الدفاع عنه. لقد بلغ الوضع من الخطورة ومن السوء درجة يحاولون معها تحويل المسيء إلى محسن، والمجرم إلى بطل، ويرفعون الفاشل إلى أعلى درجات التكريم. وهم الذين حوّلوا لبنان إلى دولة فاشلة".
لقيت مطالبة دريان الجمهور السني بالتصويت، رداً غير مسبوق من تيار "المستقبل" عليه، من دون أن يسميه، بلغ حد الدعوة المبطنة إلى مقاطعة الانتخابات، خلافاً لقول الحريري قبل أربعة أشهر إن العزوف عن الترشح لا يعني الدعوة إلى المقاطعة. فقد قال منسق الإعلام في "المستقبل" عبد السلام موسى، بعد ساعات على خطبة دريان، إن هذه "انتخابات ستقدم لـ(حزب الله) شرعية ينتظرها منذ سنوات، وجمهور (المستقبل) لن يشارك في ذلك، ولن يكون جسراً يعبره الحزب فوق أنقاض الشرعية". وأضاف "سنحتفظ بحق الاعتراض والمواجهة من خارج السلطة، وجمهور الرئيس الحريري في كل لبنان لن يقبل في لحظة مفصلية أن يتحول إلى مكتب انتخابي لقوى حزبية وسياسية فُقدت ثقتنا بها من سنوات. ونحن في تيار المستقبل لسنا شركاء في هذه الجريمة".
دعوة المفتي دريان إلى عدم المقاطعة جاءت بعد ارتفاع لافتات في منطقة الطريق الجديدة، معقل تيار المستقبل في العاصمة بيروت، حيث تتنافس عشر لوائح بينها اثنتان من مرشحين ليسوا بعيدين من التيار، يدعم إحداهما رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، ما أغضب محيط الحريري. وتسبب الرد غير المباشر على المفتي بانزعاج في بعض الأوساط البيروتية، ما حمل منسقه الإعلامي على الاستدراك بالقول إن "مفتي الجمهورية فوق كل اعتبار". وذلك بعد تدخل نواب من "المستقبل" لتصحيح الموقف.