تعتبر رواية الكاتب الفرنسي مارسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع" عادة واحدة من أهم الروايات الأوروبية التي صدرت في القرن العشرين وهي غالباً ما توضع في مكانة واحدة مع تحف روائية أوروبية مثل "يوليسيس" لجيمس جويس و"مسز دالاواي" لفرجينيا وولف و"الرجل البلا سمات" لروبيرت موزيل لكونها من الأعمال التي أسست للحداثة الروائية في الأزمنة الحديثة. ولأن رواية بروست هذه رواية محكمة الأسلوب تنتمي عميقاً إلى الفن الروائي في أعمق وأصعب تفاصيله، باتت لها سمعة على مر العقود ومنذ صدورها عند بدايات القرن العشرين بأنها عسيرة ليس فقط على الترجمة من الفرنسية إلى اللغات الأخرى، بل حتى عسيرة على الترجمة إلى أنواع أخرى من الإبداع، وبخاصة إلى فنون السينما والتلفزيون (الصور المتحركة)، لا سيما أنها تشتغل أساساً على اللغة انطلاقاً من تيار الوعي. ومع ذلك كانت هناك على الدوام محاولات متنوعة يبذلها سينمائيون كبار وأحياناً سينمائيون أقل موهبة منهم لأفلمتها ولكن نادراً ما قيّض للمحاولات، ليس فقط أن تنجح، بل حتى أن ترى النور. ولعل في إمكاننا أن نتوقف، بالنسبة إلى العقود الماضية لكي لا نغوص أبعد في التاريخ الحديث، عند محاولات حملت تواقيع سينمائيين لا يقلون بالنسبة إلى الفن السابع، أهمية عما كانه بروست بالنسبة إلى فن الرواية.
أمام الحائط المسدود
فمن لوكينو فيسكونتي إلى جوزف لوزاي ومن آلان رينيه إلى المسرحية آريان منوشكين التي داعبتها يوماً فكرة خوض اللعبة السينمائية من خلال بروست بالتحديد، مروراً بالمسرحي الإنجليزي الكبير بيتر بروك، إلى لوي مال، حاول كل من هؤلاء أن يدنو سينمائياً من تلك الرواية لكنهم سرعان ما راح الواحد منهم يجد نفسه أمام حائط مسدود فتخلى معظمهم عن المشروع بينما سلم بروك نسخته منه إلى فولكر شلوندورف الذي سيحقق بالفعل فيلماً لم يعبأ به أحد وسيعتبر كلاسيكياً أدبياً إلى حد الضجر، بينما اكتفى الكاتب هارولد بنتر بأن يحول السيناريو الذي اقتبسه عن الرواية لحساب جوزيف لوزاي إلى كتاب حقق بعض نجاح أدبي قبل أن ينسى، وهكذا كانت النتيجة أن بقيت رواية "البحث عن الزمن الضائع" عصية على الوصول إلى الشاشة الكبيرة ومن ثم الصغيرة أيضاً. ولكن ما إن انتهى القرن الأول من عمر السينما ليتلوه بدء القرن الحادي والعشرين حتى طاول الأمر شيء من تبدّل جذري بدا وكأنه يظهر من دون مقدمات.
سنوات الاقتباس المباركة
ولسنا ندري طبعاً ما إذا كان الأمر مرتبطاً بما حدث بين عالمي السينما والأدب الروائي الكبير خلال تلك السنوات "المباركة" التي مرت بين مئوية ولادة السينما (1996) وولادة الألفية الثالثة. لكن الذي يمكن ملاحظته أن تلك السنوات القليلة، والتي لا يتجاوز عددها نصف دزينة من سنوات شهدت على أية حال ازدهاراً هائلاً لفن السينما، وفي ركابه ازدهاراً لاقتباسات سينمائية متنوعة التيارات والأساليب لروايات كبيرة كان بعضها يعتبر عصياً على الأفلمة. وهكذا حقق الروسي ألكسي غيرمان فيلماً عن رواية لجوزف برودسكي والإيطالي بيلوكيو شريطاً عن "أمير هابورغ" لفون كليست والفرنسي بنوا جاكوب عملاً عن الياباني يوكيو ميشيما، كما حقق المكسيكي أرتورو إيبشتاين فيلماً عن رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" (قبل أن يقتبس فيلمين عن نجيب محفوظ، والبرتغالي دي أوليفيرا "الرسالة" عن مدام دي لافاييت والفرنسي الشاب حينها ليوس كاراكس "بولا إكس" عن هرمان ملفيل، وحتى شون بين حقق فيلمه "العهد" عن السويسري فردريخ دورنمات... كانت، في اختصار سنوات حراك مدهش. بالتالي ما كان في الإمكان أن يطلع أدب مارسيل منها بلا حمص شرط أن يتمكن سينمائيون موهوبون وقادرون على الابتكار في حدوده القصوى، من ابتكار لغات سينمائية تنقذ العمل البروستي من سباته السينمائي الطويل. وهكذا كان وليس مرة واحدة كما سنرى، بل ما لا يقل عن ثلاث مرات إذا ما نحينا جانباً مشروع شلوندورف الذي ورث محاولة بيتر بروك في عام 1984 وبدا حاملاً من الطموح أكثر مما يحمل من إمكانيات.
مئات الممثلين والكتاب
مهما يكن من الأمر يمكننا أن نقول هنا إن المحاولة الأولى التي ختمت القرن العشرين لتبدو وكأنها مفتتح جديد لفن السينما في الأزمنة الأكثر حداثة، تعود إلى عام 1999 لتحمل توقيع المخرج الفرنسي من أصل شيلي راؤول رويث الذي سيكون فيلمه الذي نتحدث عنه هنا "الزمن المستعاد" واحدة من أفضل المحاولات، السينمائية حقاً، لخوض المغامرة البروستية من منظور سينمائي حقيقي. فهنا وفي ما يقرب من ثلاث ساعات بصرية بديعة وحافلة بالتجديد، أتى رويث بنحو مئة وخمسين ممثلاً وممثلة وكاتباً وكاتبة من كبار الكبار، بدءاً من كاترين دونوف إلى إيمانويل بيار مروراً بسيد الرواية الفرنسية الجديدة آلان روب غرييه ليتحركوا أمام كاميراه السابرة أغوار أرواحهم كما أعماق نص جزء فقط من رواية بروست هو القسم الثاني من الجزء الأول والمعنون "الزمن المستعاد"، حيث يطالعنا الراوي شارل سوان وهو على سرير المرض وفي أعلى درجات اليأس والإخفاق يستعيد ذكرياته مع حبيبته أوديت غريسي، فيما تتراقص في خياله عشرات الشخصيات الأخرى تعيش حياتها معه أو من دونه وكأن اللعبة كلها، في هذا العمل السينمائي المبتكر، تدور من حول السينما التي تصبح الذكريات كناية لها ولعبة بصرية تتغلغل فيها.
وهكذا بقدر ما غاص رويث في ثنايا هذا الجزء من رواية بروست، غاص في الوقت نفسه في ثنايا علاقته هو بالسينما، إذ توصل إلى تلك المعادلة الذهبية للجمع بين لغة الأدب ولغة الصورة كما فعل من قبله كوروساوا الياباني في اقتباسه "الملك لير"، وفرانسس فورد كوبولا الأميركي في اقتباسه، في فيلمه "يوم القيامة الآن" رواية كونراد "في قلب الظلمات" التي دائماً ما اعتبرت قبله الرواية الأكثر صعوبة على الأفلمة، وكان منطقياً لرويث أن يقول إنه في عمله على "الزمن المستعاد" إنما تبنى adopter رواية بروست بدلاً من أن يقتبسها adapter وربما يبدو هذا التصريح بالفرنسية نوعاً من اللعب على الكلمات لكنه أتى موفقاً وكشف عن سرّ إبداعي استقبله النقد بكل ترحاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الشاشة الكبيرة إلى الصغيرة
ومن الواضح أن رويث تمكن بهذا الفيلم كما بهذا التصريح/ التوضيح من أن يفتح الطريق أمام سينمائيتين أولاهما هي البلجيكية شانتال آكرمان وثانيتهما الفرنسية نينا كامبانيز كي تخوض كل منهما بدورها مغامرة اقتباس بروستية تكللت بالنجاح حتى وإن كانت مغامرة كامبانيز قد جاءت تلفزيونية لا سينمائية. ولكن لئن كانت شانتال آكرمان قد حققت عامي 2000 و2001 نصاً آخر لبروست يمكن اعتباره جزءاً ما من "البحث عن الزمن الضائع" بشكل أو بآخر فحققت عبره حلماً كثيراً ما أعلنت أنه يداعبها منذ زمن حتى وإن كانت تعرف أن عملها عليه لا يرقى إلى صعوبة العمل الذي خاضه زميلها الشيلي/ الفرنسي مشبهة ما فعلته بما فعله الأميركي جون هستون حين عجز عن خوض تجربة تحقيق "يوليسيس" لجويس فأبدل ذلك بتحقيق فيلم، أتى رائعاً على أية حال، عن واحدة من قصص جويس في مجموعته "أهل دبلن" وهي "الموتى" التي جعل بطولتها لابنته أنجيليكا. وفيلم آكرمان الذي نتحدث عنه هنا هو "الأسيرة" المقتبس من نص بنفس العنوان لبروست.
ولكن الذين كانوا يتساءلون دائماً عما يمنع التلفزيون بإطلاقيته الزمنية بالتناقض مع محدودية الزمن السينمائي، من الدنو من رواية بروست بأكملها، أتت في نهاية الأمر السينمائية وكاتبة السيناريو المعروفة نينا كامبانيز، رفيقة المخرج الراحل مشيال ديفيل، لتقدم الجواب الذي أتى مقنعاً في نهاية المطاف: فهي حققت عام 2011 عملاً تلفزيونياً متعدد الحلقات اعتبر في نقله لرواية بروست بنصها الكامل بدءاً من أول "من جانب سوان" حتى آخر "الزمن المستعاد" أوفى ترجمة بصرية – أدبية للنص البروستي، حتى وإن كان من الصعب مقارنته من ناحية قيمته الفنية بما حققه راؤول رويث في "الزمن المستعاد" ولا شك أن هذا كان أمراً طبيعياً فرويث حقق عملاً نخبوياً بصورة مقصودة بينما كان على كامبانيز أن تلتزم بالحدود الدنيا من قواعد العمل التلفزيوني الجماهيري. ويقيناً أن بروست ونصه كانا الرابحين في الحالتين.