عودة التظاهرات إلى شوارع عاصمة أرمينيا يريفان، محاولة جديدة لزعزعة الاستقرار في منطقة الفضاء السوفياتي السابق، لكن على نحو مغاير لما سبق وشهدته يريفان وعدد من كبريات المدن والمناطق الأرمينية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 احتجاجاً على توقيع الاتفاق مع أذربيجان حول التسوية السلمية لمشكلة ناغورنو قره باغ تحت رعاية روسية. وكان نيكول باشينيان رئيس الحكومة الأرمينية نجح في تجاوز تلك الأزمة التي كانت تستهدف الإطاحة به بعد اتهامه بالخيانة والتفريط في مصالح أرمينيا "بزعم" أنه يعتزم إعادة النظر في موقف يريفان تجاه وضع جمهورية ناغورنو قره باغ غير المعترف بها. بل وأعلن عن انتخابات برلمانية مبكرة أسهمت في عودته أقوى من ذي قبل بمساعدة روسية "غير معلنة" حسب مصادر أرمينية.
وها هي التظاهرات تعود مرة أخرى إلى شوارع يريفان بعد فترة من الاضطرابات والخلافات التي شهدت تنحي رئيس الجمهورية السابق أرمين سركيسيان في يناير (كانون الثاني) الماضي، لتطالب باستقالة باشينيان بسبب ما جرى توجيهه إليه من اتهامات بالتفريط في المصالح الأرمينية والتخلي عن كثير من مطالب وحقوق مقاطعة ناغورنو قره باغ.
وكانت الأحداث الأخيرة استمدت بداياتها من حادث مرور أطاحت فيه إحدى السيارات من موكب نيكول باشينيان رئيس الحكومة الأرمينية، امرأة حامل أسفر عن وفاتها، لتستغله فصائل المعارضة البرلمانية من ممثلي الكتلتين البرلمانيتين المعارضتين عن حزبي "أرمينيا"، و"لنا الشرف" بزعامة رئيسي الجمهورية السابقين روبرت كوتشاريان، وسيرج سركيسيان مبرراً لإعلان العصيان المدني والمطالبة باستقالة الحكومة.
وعلى خلفية صراعات الأمس التي رفعت خلالها فصائل المعارضة اتهامات كوتشاريان بالخيانة والتفريط في حقوق ومصالح "جمهورية ناغونو قره باغ" غير المعترف بها، نظمت الأحزاب الأرمينية المعارضة مسيرة جماهيرية قالت إنها سوف تكون مقدمة لحركة عصيان مدني واسعة النطاق. وتدفق الآلاف إلى شوارع يريفان يحملون مختلف الشعارات احتجاجاً على سياسات نيكول باشينيان، التي قالوا إنها "أدت إلى ضياع معظم أراضي آرتساخ (التسمية الأرمينية لمقاطعة ناغورنو قره باغ) خلال الصراع العسكري مع أذربيجان". وعادت المعارضة إلى شعارات الأمس أيضاً التي اتهمت باشينيان بالزج بالجيش الأرميني إلى معارك لم يجر الاستعداد لها حسب تقديراتها، فضلاً عن انتقاداتها لتردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وتفاقم ارتفاع الأسعار واهتراء البنية التحتية والمرافق العامة في أرمينيا. ونقلت صحيفة "كومسمولسكايا برافدا" الروسية عن شهود عيان أخبار إغلاق وسط العاصمة الأرمينية، بمشاركة حشود كثيرة من الشباب وطلبة المعاهد العليا والجامعات الذين قاطعوا الاستمرار في الدراسة. وفي الوقت الذي حاول فيه ممثلو الكنيسة الرسولية الأرمينية التدخل من أجل الحد من تصاعد حركة الاحتجاجات الجماهيرية وإثناء المشاركين فيها عن مواصلة اعتصاماتهم وعصيانهم المدني، قامت الشرطة وأجهزة الأمن باعتقال العشرات من المتظاهرين في هذه الاحتجاجات. وقد التزمت حكومة باشينيان أكبر قدر من ضبط النفس تجاه هذه الاحتجاجات، حسب تقديرات كثيرين من المراقبين باستثناء تطويق الشرطة والقوات الخاصة لمواقع المتظاهرين، وما قامت به من اعتقال عشرات النشطاء في محاولة للحد من احتمالات تصاعد وتيرة وحدة الاحتجاجات.
وعزت المصادر الأرمينية عودة التوتر إلى المنطقة إلى عدم التزام الجانب الآذربيجاني بنود الاتفاق والمعاهدات التي وقعها الجانبان الآذري والأرميني تحت رعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقالت إنه يهدد بانهيار الموقف، ويتطلب سرعة عودة موسكو إلى التدخل المباشر. وكشفت المصادر الأرمينية عن كثير مما قالت إنه تراجع عن بنود الاتفاق الموقع بين الجانبين ومنه ما يتعلق بعدم وفاء الجانب الآذري بتنفيذ تعهداته بشأن إمدادات الغاز لناغورنو قره باغ، في الوقت الذي تقول فيه المصادر الآذرية بضرورة "انسحاب فلول القوات المسلحة الأرمينية الموجودة في المنطقة، ووفاء الجانب الأرميني بالتزامته بموجب البيانات الثلاثية" على حد قول مصادر الخارجية الآذرية. ونقلت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" عن ألكسندر إسكندريان، مدير معهد القوقاز في يريفان، قوله "إن قطع إمدادات الغاز وتقدم القوات الأذربيجانية هما عنصران من عناصر الضغط على أرمينيا، نظراً لأن باكو تريد الحصول على "ورقة اتفاق ، أو إعلان، أو أي شيء موقع من قبل أرمينيا، يمكن تقديمه داخل أذربيجان كاعتراف بوحدة أراضي أذربيجان إلى جانب أراضي جمهورية ناغورنو قره باغ".
وأضاف إسكندريان قوله، إن باكو تتجاوز الخطوط الحمراء بحوادث مثل الاستيلاء على قرية باروخ، فضلاً عن تجاوز الحدود التي يمكنها من خلالها التأثير على أرمينيا، على خلفية انشغال القيادة الروسية بما يحدث في أوكرانيا"، مضيفاً أن "روسيا لا تستطيع في الوقت الحالي، التأكد من عدم تكرار مثل هذه الحوادث مرة أخرى". وأشار إلى أن روسيا تستخدم أدوات ذات طابع دبلوماسي، على غرار المكالمات الهاتفية أو ما شابهها، وهو ما يبدو غير كاف، ولا يمكن أن يسفر عن تأثير يُذْكَر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن جانبها أكدت مصادر الكرملين "أن ما يحدث في أرمينيا شأن داخلي لهذا البلد، الذي هو في الوقت نفسه ، بالنسبة إلى روسيا، حليف و "شريك في عديد من صيغ التكامل المهمة للغاية بالنسبة لنا". وفي هذا الصدد أشار دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين إلى أن "أرمينيا صديق عظيم. ونحن مهتمون بأن تنتهي هذه الفترة في أرمينيا في أقرب وقت ممكن، وأن تبدأ فترة الاستقرار مرة أخرى ، مما سيسمح لنا بالتحرك تدريجاً نحو تنفيذ الاتفاقات الثلاثية بشأن قره باغ التي تم توقيعها بمشاركة رئيس روسيا"، مؤكداً اهتمام القيادة الروسية بتطوير وتنمية العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفي هذا الصدد أيضاً أكدت وزارة الخارجية الروسية، أن موسكو تنطلق من مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، في إشارة إلى ما سبق وأعلنته موسكو الرسمية في أكثر من مناسبة لما يسمى بـ"الثورات الملونة" وتدخل قوى غربية بعينها على غرار ما سبق وشهدته جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان في مطلع القرن الجاري. كما أعادت التذكير بأن روسيا على النقيض من الدول الغربية، لا تطرح أية مطالب سياسية داخلية على الدول الأخرى كشرط للتعاون معها. وكشفت عما تتخذه الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي من إجراءات في إطار سياساتها ومخططاتها الرامية إلى ما تصفه بـ"تعزيز الديمقراطية"، ومنها تخصيص ما يتراوح من مليار دولار إلى 1.5 مليار يورو سنوياً لتمويل المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام الموالية للغرب، في روسيا ودول رابطة بلدان الكومنولث (الاتحاد السوفياتي السابق). وقالت إن ما تقوم به هذه المنظمات من نشاط يستهدف تشويه سمعة القوى السياسية "المرفوضة من جانبها"، وزعزعة استقرار المنطقة.
وكانت الأحداث التي تتواصل على صعيد المواجهة المسلحة بين روسيا وأوكرانيا قد ألقت بظلالها القاتمة على الأوضاع الداخلية في أرمينيا بما فيها ما شهدته يريفان من أعمال وفعاليات تباينت بين المناهضة لروسيا من جانب، والموالية لها من جانب آخر، على مقربة مباشرة من السفارة الروسية في يريفان. ويذكر المراقبون أن كثيرين من المواطنين توافدوا إلى سفارة روسيا في العاصمة يريفان، ومنهم من كان يحمل الأعلام الأرمينية والروسية وجمهورية قره باغ غير المعترف بها، في إشارة إلى تأييدهم للموقف الروسي، فيما كان ممثلو الفصيل الآخر يحملون أعلام أرمينيا والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، في إشارة إلى انحيازهم للاتجاه المناهض لروسيا، وهو ما حرصت أجهزة الأمن الأرمينية على اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل الفصل بينهما والحيلولة دون صدام الجانبين، وإن كشفت تصريحات ممثليها عن انحياز غير معلن إلى الجانب الروسي. ونقلت الصحافة الأرمينية عن ميكا باداليان، أحد منظمي التظاهرات المؤيدة لروسيا ما قاله حول إن أنصاره يعربون عن موقف مؤيد لروسيا "لأن أوكرانيا تنتهج سياسة معادية تجاه أرمينيا".
وتوجه باداليان إلى مخاطبة المهاجرين الأوكرانيين الذين وصلوا إلى أرمينيا هرباً من ويلات المعارك القتالية في أوكرانيا بقوله "لقد هربت وغادرت وطنك، وأتيت إلى هنا. إذاً فعلى الجميع أن يدرك أن السلوك العدواني للاجئين الأوكرانيين سينظر إليه من جانب سكان البلاد على أنه إهانة شخصية لهم". ومضى ليقول إن لا أحد يطرد اللاجئين من البلاد، لكن مواطني أرمينيا يعارضون الأوكرانيين الذين يرفعون "رموز الدولة النازية للعدو". وهدد الناشط الأرميني بأنه إذا كان الأوكرانيون "لا يريدون العيش بسلام في بلادنا، فلن يعيشوا بسلام". وقال شهود العيان إن "المشاركين في تلك الفعالية الجماهيرية أمام السفارة الروسية من أنصار التوجهات المضادة لروسيا غادروا المكان وسط صيحات الاستهجان والإدانة المهينة".
ومن اللافت أن ما جرى ويجري في أوكرانيا جاء مواكباً لما تتداوله وسائل الإعلام الروسية من اتهامات لعدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق بما فيها أعضاء مجموعة بلدان معاهدة الأمن الجماعي بالتقصير في حق "الشقيقة الكبرى" روسيا وعدم الوقوف إلى جانبها في معركتها الراهنة ليس ضد أوكرانيا وحسب، بل ضد الولايات المتحدة وبلدان "الناتو" المتحالفة معها. وتوقفت الأجهزة الإعلامية الروسية عند ما جرى الكشف عنه من المختبرات البيولوجية العسكرية الأميركية التي جرى الكشف عنها في أرمينيا وأذربيجان وكازاخستان، إلى جانب المواقف التي تتسم بقدر كبير من "الغموض" من بلدان أخرى ومنها قيرغيزيا التي أعلنت ما تصفه بـ"الموقف المحايد" تجاه "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا.
ولعل ذلك يمكن أن يكون تفسيراً لما كشفت عنه موسكو من نقاط بلغ عددها 30 نقطة، تضمنها البيان المشترك الذي صدر عن زيارة نيكول باشينيان لموسكو ومباحثاته مع الرئيس بوتين في أبريل (نيسان) الماضي. ومن هذه النقاط ما يتعلق بتأكيد قيادتي روسيا وأرمينيا على "أن أراضي كلتا الدولتين لن تكون متاحة للاستخدام من قبل دول ثالثة، من أجل القيام بأنشطة موجهة ضد مصالح كل منهما في مجال الأمن البيولوجي، وأعربوا عن عزمهم على مواصلة الكفاح ضد مراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية وتزوير التاريخ".