شهدت السنوات الأخيرة تجاوزاً على الأراضي الزراعية في العراق، وتحديداً البساتين وأراضي الملك الصرف وحتى العقود الزراعية، بالاعتداء عليها وتقسيمها وتحويلها إلى أراض سكنية ومشاريع صناعية، مثل معامل الطابوق ومعامل تكسير الحصى والمنشآت النفطية وغير ذلك.
الظاهرة سببتها الفوضى الخلاقة التي انتهجتها السياسة الأميركية بعد احتلالها العراق عام 2003، إذ تقلصت المساحات الزراعية وقطعت أشجار النخيل والأشجار المعمرة وجرفت البساتين وتحولت الأراضي الزراعية إلى مجمعات سكنية ومشاريع استثمارية.
ويشكل التجريف واستغلال التربة الصالحة للزراعة لأغراض أخرى مثل السكن أو إنشاء المعامل الصناعية، ظاهرة خطرة على النظام البيئي الطبيعي في العراق.
هجرة المزارعين
وفي توضيحه للأسباب الرئيسة قال الخبير المائي والزراعي عادل المختار إنه في الوقت الذي طالبت فيه دوائر التخطيط العمراني للإسكان بتخصيص مزيد من المساحات للسكن لمواجهة الزيادة في أعداد السكان بالمدن العراقية، برزت ظاهرة أخرى تمثلت في هجرة أعداد من المزرارعين من سكان القرى والأرياف إلى المدن الكبيرة نتيجة شح المياه وتقليص الخطط الزراعية، باستهداف المناطق الزراعية المحيطة بالمدن وتحويلها إلى مجمعات سكنية عشوائية بدأت تهدد النظام البيئي.
وفي الوقت ذاته، خرجت مساحات زراعية كبيرة من عمليات الاستزراع، ففي العام 2021 شملت الخطة الزراعية مساحات تصل إلى خمسة ملايين دونم لمحصول الحنطة، وأنتجت ما يقرب من ثلاثة ملايين طن من القمح وتحقيق الاكتفاء الذاتي للبلد.
وبسبب تقليص الخطة الزراعية لموسم 2022 انخفضت إلى 2.6 مليون دونم، مما سيضطر العراق إلى شراء القمح من الأسواق في ظل التوترات العالمية التي تسببت بارتفاع أسعار القمح والمواد الغذائية الأخرى.
تشريع قانون للمتجاوزين
القانون رقم (27) لسنة 2009 وقانون حماية وتحسين البيئة المادة (17) نص على حماية الأراضي الزراعية من الزحف العمراني ومنع أي نشاط من شأنه الإضرار بمساحة وتصاميم المدن والحزام الأخضر الذي يؤدي إلى التصحر وتشويه البيئة الطبيعية، بحسب تصريح خبير البيئة الباحث جمعة الدراجي.
ونصت المادة (18) على منع قطع الأشجار المعمرة في المناطق العامة داخل المدن والتي يصل عمرها إلى 30 سنة فأكثر.
وكان في نية البرلمان العراقي عام 2019 تشريع قانون لتمليك هؤلاء المتجاوزين، ونص القرار (418) على تمليك الأراضي للمتجاوزين ممن شيدوا دوراً للسكن عليها في القرى الكائنة خارج التصاميم الأساس للمدن قبل نفاذ القرار، والتي دخلت بعده ضمن حدود التصاميم الأساسية، أما القرار (419) فأشار إلى توزيع الأراضي الواقعة داخل التصميم الأساس المصدق.
ويذكر المختار أن ذلك تأخر بسبب عرقلة الموضوع طوال هذه السنوات، وازدادت التجاوزات بشكل خطر لتصبح مجمعات سكنية وعشوائيات كثيرة لدرجة يصعب احتوائها حتى بالقانون.
خطورة تجريف الأراضي
أستاذ القانون المدني بجامعة ميسان ماجد مجباس يرى أن التشريعات الناظمة للأراضي الزراعية في العراق، ابتداء من القانون المدني وقانون التسجيل العقاري وقوانين الإصلاح الزراعي وقانون إيجار الأراضي الزراعية وغيرها من الأنظمة، جميعها تضع قيوداً صعبة حيال تحويل جنس الأراضي من الزراعي إلى السكني أو التجاري أو الصناعي، بل وتضيق عليه إلى حد المنع في بعض الأحوال.
وقال مجباس إن أهمية الإبقاء على جنس هذه الأراضي تتعاظم كلما كانت محاذية أو محيطة بالمدن، لأن التخطيط العمراني للمدن وتشريعات الحفاظ على البيئة من التلوث، سواء كانت تشريعات داخلية أم دولية، تقتضي المحافظة على الحد المعقول من هذه المساحات، ناهيك عن أهميتها التي تصنف في الغالب على أنها بساتين تغطي حاجة المدن من الخضراوات والمحاصيل المنتجة محلياً.
وأشار أستاذ القانون إلى "خطورة ما نلاحظه بشكل مستمر من تجريف لهذه المساحات وتحويلها إلى سكني أو صناعي أو تجاري على بيئة هذه المدن وبخاصة بغداد، فضلاً عن أن الأغلب من تغيير أجناس الأراضي يحصل خلافاً للقوانين والأنظمة والتعليمات سالفة الذكر".
وشدد مجباس على أهمية إسراع الحكومة في اقتراح تشريع قوانين لمعالجة واقع الأراضي المتجاوز عليها بحل أزمة السكن وإن بشكل تدريجي، وتطبيق القوانين النافذة بحق المخالفين.
التوجه للمحاكم الدولية
ويقول الدراجي إنه لو توافرت الحصة المائية لما تم تجريف الأراضي وتحويلها إلى سكن، فهناك أكثر من 27 مليون دونم يمكن زراعتها، مضيفاً أن القطاع الزراعي يشكل حراكاً اقتصادياً كبيراً للقطاعات التي يتعامل معها المزارع كافة، ويشغل الأيدي العاملة لمختلف الفئات العمرية بما فيها المرأة الريفية التي تميزت بإدارة الحقول الزراعية بشقيها النباتي والحيواني، وكذلك الحفاظ على المناطق الرطبة مثل الأهوار وحماية الأنهار والبحيرات الطبيعية والمنشآت الإروائية والسدود والخزانات والمناطق الزراعية التي تشكل نظاماً "هيدروليكياً متكاملاً".
ويرى الدراجي أن الحفاظ على المناطق الزراعية يقع ضمن المسؤوليات الاجتماعية التضامنية مع تفعيل القوانين أو من خلال توعية الرأي العام المحلي، ومساندة وسائل الإعلام من خلال التثقيف والترويج ومناشدة المنظمات الدولية مثل منظمة "FAO" للأغذية والزراعة للمساعدة.
ويدعو الدراجي الحكومة العراقية إلى التوجه للمحاكم الدولية المتخصصة بالنزاعات المائية وتقاسم المياه والضرر في آن واحد، بحسب "اتفاق لوزان" عام 1920، أو اتفاق الأنهار المشتركة للأغراض غير الملاحية لسنة 1997 والداخل موضع التنفيذ في 17 أغسطس (آب) 2014.
خلل المياه الجوفية
وأفادت خبيرة التلوث البيئي إقبال جابر بأنه مع بدء المشاريع على الأراضي الزراعية حصل خلل في نسب المياه الجوفية مما أدى إلى طفح المياه في البيوت بسبب طوبوغرافية الأرض المصنفة كأرض زراعية، كما أسهم ذلك في تلوث المياه الجوفية بمواد البناء، لافتة إلى أن الأرض الزراعية لا تصلح للسكن، فقد تجتاحها المياه في أية لحظة، كما أن البناء عليها غير آمن، فضلاً عن امتناع الدولة من تقديم خدمات الماء والمجاري لهؤلاء المتجاوزين.
وعن الحل قالت جابر إنه "يكمن في استعادة الأراضي الزراعية وإسكان العشوائيات في مناطقَ غير زراعية مع التوعية البيئية، ولا بد من أن تبدأ الحكومة في إيجاد حل للاستيطان في الأراضي الزراعية، فضلاً عن إعادة مشاريع الري من خلال مرور المياه بالأراضي الزراعية التي اعتادت المرور بها، وفتح المبازل وتنقيتها من الملوحة وزرع الأشجار المعمرة والنخيل".
غياب الدعم
الموظف في وزارة الزراعة "س.م" والذي رفض التصريح باسمه كاملاً قال، "بالنسبة إلى منطقة الدورة وبغداد الجديدة فقد كان غرض تعطيشها وموت بساتين النخيل وقطع المياه عنها، هو استثمارها لأغراض تجارية وبيعها كقطع أراض سكنية يتجاوز سعر المتر المربع الواحد منها المليوني دينار عراقي (1350 دولاراً أميركياً)، في حين أن استثمار النخيل لن يقدم للمالك المبلغ المذكور، وفي ظل غياب الدعم الحكومي لقطاع الزراعة تم تغيير جنس الأرض إلى سكنية.
وأضاف "س.م"، كان "القائمقام أو مسؤول الوحدة الإدارية يتمتع بصلاحيات قاض في محاسبة المخالفين، وبعد العام 2003 ركنت هذه القوانين ولم يجر العمل بها واستبيحت كل هذه الأراضي، وسبب ذلك انتشار المافيات والمتنفذين الذين أسهموا بتجريد بغداد من المساحات الخضراء وأصبحت غير صالحة للعيش، مثل منطقة الرصافة، حسب مؤشرات علمية من وزارة الزراعة والبيئة".
لا مكان لدينا
المواطن "ن.ك" (43 سنة) قال، "ابتعت هذه الأرض منذ خمس سنوات بسعر مغر لأنها زراعية، بعقد رسمي على أمل تحويل جنسها إلى أرض سكنية ولكن من دون جدوى، وحالياً لا أستطيع بناءها أو استخراج إجازة بناء لأنها ما زالت أرضاً زراعية".
أما المواطن "ح.ع" (33 سنة) فقال، "أنا أعمر بيتي الآن من دون علم الجهات المعنية، وأنا جاهز لرشوة موظفي البلدية كي يتركوني وشأني، لأني لا أملك إجازة بناء كونها زراعية".
أما المواطنة "س.ط" (48 سنة) فأكدت "اضطررنا لشراء هذه الأرض حتى لو كانت تجاوزاً على المال العام من أجل بناء هيكل للسكن والعيش تحت سقفها فلا مكان لدينا".
التنسيق بين الجهات المعنية
وعن دور الهيئة الوطنية للاستثمار في تخصيص أراضي المشاريع السكنية خارج النطاق الزراعي، قال نائب رئيس الهيئة سالار أمين علي، "لاستحصال إجازة للمشاريع الاستثمارية يشترط التنسيق مع وزارة المالية أو وزارة الزراعة، ونحن كهيئة وطنية نرسم خريطة المشاريع ذات الطابع الاستراتيجي حصراً بالتنسيق مع الجهات المتخصصة في وزارة المالية، ونخصص الأراضي غير الصالحة للاستعمال الزراعي نهائياً، وغير المخصصة لأي مشاريع تؤثر في البيئة أو الزراعة، ويجب هنا أن يحصل المستثمر على موافقة من وزارة البيئة ثم نمنحه الإجازة".
وأضاف، "سبق لنا أن حددنا المناطق المؤهلة للمشاريع، وترفض هيئة الاستثمار في المحافظات إصدار إجازة من دون موافقة وزارة البيئة، أما ما يخص أصحاب الأراضي الزراعية الذين يعمدون إلى إنشاء مشاريع سكنية فهذا خارج إطار الاستثمار وغير مسموح به، ولا يسمح لهم بإنشاء مشاريع غير زراعية ولا يمكن استحصال الإجازة من الجهات المعنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجود قانون للمجمعات السكنية
المدير العام لعقارات الدولة رند رعد راجي أكد وجود قانون خاص للاستثمار ساري المفعول ومعمول به في الوقت الحالي، ومن ضمن متطلبات المجمعات السكنية موافقات الدوائر ذات العلاقة ومن ضمنها أمانة بغداد، إذ لا يمكن إكمال أي مشروع استثماري من دون استحصال الموافقة التخطيطية، وبالتالي لا يشكل خطراً على ملامح التصميمات الأساس للعاصمة، ولا يتم ذلك إلا بموافقة وزارة الزراعة كون رفع يد الإصلاح الزراعي لا يتم إلا بموافقة وزير الزراعة.
وعندما توجهنا بالسؤال إلى أمين العاصمة المعماري علاء معن حول كيفية منح المواقفات لإنشاء مبان ومجمعات سكنية داخل العاصمة، وهل يمكن أن تتقاطع هذه الموافقات مع التصميم الأساس للمدينة، أجاب قائلاً إن "العاصمة الاتحادية بغداد تقسم مسؤوليتها البلدية إلى قسمين، فهناك الأقضية في الأطراف من مسؤولية محافظة بغداد، أما ما يعرف بحدود التصميم الأساس والتي تنقسم إلى 14 دائرة بلدية فمسؤوليتها تقع على عاتق أمانة بغداد، أما ملكيات الأراضي والعقارات فتكون خاصة أو حكومية ومن ضمنها أمانة بغداد أو وزارة المالية أو جهات ووزارات أخرى.
وقال معن إنه "في حال إقامة أي مشروع ضمن حدود أمانة بغداد فيتطلب ذلك أولاً الموافقة التخطيطية من قبلنا لإقامة المشروع بعد توفر موافقة المالك ليتم عرض المشروع كفرصة استثمارية من قبل هيئة الاستثمار التي تمنح الإجازة الاستثمارية للمشروع".
تغير المناخ
في تغريدة للرئيس العراقي برهم صالح بتاريخ 27 أبريل (نيسان) 2022 قال، "إن تغير المناخ يشكل تهديداً وجودياً للبلاد". وأضاف، "يجب أن يصبح التصدي لتغير المناخ أولوية وطنية للعراق، فإن عدد سكان اليوم أكثر من 41 مليوناً، وسيكون 52 مليوناً بعد 10 سنوات، ويترافق ذلك مع زيادة الطلب على المياه".
وأكد صالح في تغريدته حول المبادرة التي نشرها مجلس الوزراء العام الماضي وتتكون من مشاريع استراتيجية لإعادة التشجير والإدارة الحديثة لموارد المياه والطاقة النظيفة والتعاون عبر الحدود لمواجهة أخطار تغير المناخ، أنه من الواجب تطوير وتفعيل هذه المبادرة كإطار عمل لبناء اقتصاد داعم أخضر، وتجنب إفلاس موارد المياه وما يرتبط بها من هجرة للمزارع.