الانسداد في العراق لم يعد سياسياً وحسب، بعد عجز المكونات المشاركة في العملية السياسية، من تحديد الكتلة التي ترجح انتخاب رئيس الجمهورية، يليه اختيار رئيس مجلس الوزراء، وإعطاء الأزمة بعداً قانونياً جراء تخطي توقيتات خارج المدد الدستورية الموجبة لإعلان الحكومة.
الطقس السيء وتفاقم الأزمة
لكن الانسداد الأكبر الذي رافق أزمته السياسية تمثل في تراجع مناسيب المياه لنهري دجلة والفرات إلى حدود مهددة للحياة في عموم البلاد، ونقص غير مسبوق لاحتياطي المياه وصل إلى حدود 50 في المئة من المقدر، ويوشك من إعلان حال الطوارئ المرجحة في تفاقم درجات الحرارة والقيظ الذي دخل سريعاً مهدداً دعة الحياة، التي تحولت خلال أيام إلى واقع مأساوي، تحت عواصف ترابية صفراء وحمراء لم تشهدها البلاد من قبل، وأضافت حالات انقطاع التيار الكهربائي المتواصلة عبئاً جديداً على طاقة المواطن لتحمل هذه الأوضاع مجتمعة، لتعلن سنة العسرة في عموم البلاد التي يتهددها الطقس والسياسة المغامرة ونقص الطاقة، وخراب السياسة وتفاقم الفساد.
يقول الخبير الاقتصادي مازن العبودي، "أستطيع القول إن البلد وصل إلى الساعات الأخيرة، من دخوله أزمات جديدة، بل استمرار غياب الحلول وبقاء جميع الأطراف السياسية متمسكة ما بين الغالبية والتوافقية، أجد من الضرورة طرح حل وطني يفتح باباً ربما يكون فيه قبول لمختلف الأطراف، التي وصلت إلى قناعة تامة إلى أن القادم سيكون أكثر تعقيداً مع تمسك الجميع بمواقفه، من خلال ما يلي: ترشيح جميع الأطراف الكردية مرشحيهم لرئاسة الجمهورية وترشيح الكتل الشيعية مرشحين لرئاسة الوزراء من المستقلين، تماماً، مع برنامجين حكوميين يتضمنان مشاريع قوانين مقترحة ويتم التصويت عليها، في جلسة واحدة على تسمية رئيس الجمهورية وعلى رئيس الوزراء بعد أن يطلب رئيس الجمهورية المنتخب، التصويت على رئيس الحكومة، وبرنامجها في المال، وفي حال فوز أحدهما يتم اعتماد برنامجه الحكومي وتسجيل أسماء النواب والكتل المصوتة لصالح رئيس الوزراء وبرنامجه".
"بيضة القبان"
المستقلون صاروا "بيضة القبان" وعددهم حوالى 41 نائباً، أوكلت لهم مهمة فرصة اختيار كامل الحكومة ووزرائها، ولا أظن أنها واقعية، من قبل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر رئيس تحالف "إنقاذ وطن"، بشراكة الغالبية السنية المتمثلة بـ "تحالف السيادة" والكرد بزعامة الحزب الديمقراطي الكردستاني، لإيكال مهمة اختيار رئيس الحكومة والوزارة التي أرادها زعيم الكتلة الشيعية الأكبر مقتدى الصدر أن تكون الطرف الذي توكل له هذه المهمة بعد أن عجزت كتلتا "الإطار" و"التيار" الشيعيتان، من الاتفاق على نمط الحكومة المقبلة بين "التوافقية" التي يطالب بها الولائيون بزعامة نوري المالكي رئيس قائمة "دولة القانون"، وحكومة "الغالبية السياسية" التي يطالب بها التيار الصدري ومن ورائه تكتل "السيادة والديمقراطي الكردستاني"، الذين تحولوا إلى تحالف "إنقاذ وطن"، و"الإطار التنسيقي" معاً لتفادي الانسداد السياسي بأن يقدم المستقلون مرشحاً "على أن تتوافر فيه الكفاءة والنزاهة والمقبولية والحيادية لإدارة البلاد"، ويعكف النواب المستقلون لترشيح نائب أو اسم من بينهم لرئاسة الحكومة، يتم التوافق عليه، من "الإطار" و"التيار" معاً، وهذا مستبعد، لأن الجميع لن يفرط بمنصب رئيس السلطة التنفيذية، وهو القائد العام للقوات المسلحة، إذ دعا "الإطار" إلى "الابتعاد عن كسر الإرادات وإبداء المرونة وتقديم التنازلات المتبادلة، من أجل الالتقاء عند المشتركات الوطنية والسياسية ومراعاة الأوزان الانتخابية"، ويرجح أنها خطوة لتسويغ التفاهمات، في وقت قدم "الإطار التنسيقي" المطالب بحكومة توافقية مبادرة مضت خلال الأيام الـ 40 السابقة التي منحها الصدر لهم، وبسبب القضاء الذي أقر بالثلث المعطل تأخر تشكيل حكومة الغالبية، وكانت المحصلة فشل كل المبادرات، وظلت البلاد تحت حكومة تصريف أعمال، لكن بيان الصدر منح المستقلين مدة أقصاها 15 يوماً ودعاهم "للإسراع بإنهاء معاناة الشعب ".
أزمة نقص المياه انسداد آخر
ورافق هذا الوضع السياسي المحتدم الذي ينذر بالاحتراب نقص غير مسبوق بالمياه جراء وقف تركيا حصة العراق من الإطلاقات المائية، وتغير أنهر المغذيات المائية في إيران باتجاه العراق، لكن وزير الموارد المالية مهدي رشيد علق على واقع الشح الذي يعانيه العراق قائلاً، "تركيا تقاسمت معنا الضرر في شح المياه، ولكن إيران منعت المياه تماماً، نحو العراق، وتسببت بضرر مجتمعات كاملة، وتفاوضنا معها وننتظر منها موقفاً إيجابياً، وتقرن تفاوضها باتفاقية العام 1975 في حين أنها قامت بتحويل مجرى كثير من الأنهار داخل أراضيها من دون وجه حق".
المخدرات تهدد الأمن المجتمعي
الأزمة الأخرى التي تهدد العراق تتمثل بانتشار المخدرات لا سيما حبوب "الكريستال" وهو الاسم المعروف لمخدر "الميثامفيتامين" المميت الذي غزا العراق منذ عام 2010 ودخل إليه بالأطنان، من جنوب البلاد، في منفذ البصرة، وهو نوع من المخدرات التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية لإبقاء القوات مستيقظة، لذلك وجد فيه مقاتلو العراق من المتطوعين حلاً، لبقائهم يقظين ولا يشعرون بالجوع، واستخدم وسوّغ لمقاتلة تنظيم "داعش"، وأضحى تعاطيه يلقى إقبالاً في المناطق الشعبية والفقيرة، ظاهرة بمعدل 62.1 في المئة من استهلاك المخدرات في العراق، بحسب "ميدل إيست مونيتور"، وشكلت نسبة 90 في المئة من المتعاطين من المعتقلين، هم من العاطلين من العمل وفق "رويترز"، وخطورة شيوع "الكريستال" أنه أضحى تجارة رائجة استجلبت فئة الشباب، الذين صاروا مدمنين عليه، بأعداد متزايدة، وأصبح العراق بلد عبور له من إيران نحو البصرة، وفق قائد عمليات البصرة السابق اللواء الركن أكرم صدام الذي أكد أن 80 في المئة من تجارة المخدرات تدخل من إيران، ويستخدم المهربون طائرات "الدرون" وكاميرات مراقبة لنقله، وهناك تعاون بين الميليشيات وبعض المسؤولين في تسهيل تهريب المخدرات وفق صحيفة "نيويورك تايمز"، حتى صارت تجارة "الكريستال" بديلاً لتهريب النفط وفق "الغارديان". وتحوي السجون العراقية ما يقرب من سبعة آلاف متعاط ومهرب ومتورط في المخدرات، وهي ظاهرة جديدة على المجتمع العراقي الذي كان نظيفاً من هذه الظاهرة التي أشاعتها قوى اللا دولة في العراق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أزمة تلد أخرى
الكاتب محمد الخزاعي رأى أن عوامل سلبية عدة تضافرت في الوصول إلى هذه النتائج المؤلمة منها الاحتلالات الأجنبية المختلفة والانقلابات العسكرية، والأنظمة الديكتاتورية والصراعات الحزبية، والانقسامات المجتمعية وفساد الطبقات الحاكمة والجهل والفقر والتخلف، حالت كلها دون بناء عراق جديد، يحقق آمال وطموحات الشعب بعد الإطاحة بالنظام السابق، إلا أن العوامل السابقة أعادت إنتاج نفسها معززة هذه المرة بانعدام الرؤية العلمية الحضارية الهندسية، وبناء الدولة الحديثة، وأكد الخزاعي أن العراق اليوم "يعاني من فوضى عارمة وتراجع في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والتربوية والثقافية والأخلاقية" تستدعي من الطبقات المثقفة اللجوء للتفكير العميق والجاد المبني على أسس صحيحة للخروج من هذا المأزق.
الفراغ الدستوري
الأستاذ في كلية العلوم السياسية بجامعة السليمانية رشيد عمارة قال، "إن ادخال البلاد في ما يسمى بالفراغ الدستوري هو بدعة يتحمل وزرها رئيس الجمهورية على أساس الصلاحية التي منحها له الدستور العراقي بأنه الضامن لاستمرار الدستور وحمايته من الاختراق الذي اخترق علناً، وهي من صلاحية الرئيس الذي يحول دون الخروقات، فمن حقه أن يطالب وفق المادة 46 بحل مجلس النواب والدعوة لانتخابات مبكرة جديدة، وكثير من دول العالم تلجأ لهذه النتيجة عند محاولة تعطيل التوقيتات الدستورية".
وكثيرون ممن التقيناهم بدأ اليأس يدب في نفوسهم جراء عدم اتخاذ خطوات حقيقية للإصلاح وتراكم الأزمات التي يتداخل فيها ما هو محلي مع ما هو إقليمي ودولي، في ظل نقمة شعبية على عملية سياسية لم تراع خصوصية المجتمع العراقي وقيمه.