غادر الوفد اللبناني المؤلف من وزيري الخارجية عبد الله بوحبيب والشؤون الاجتماعية هيكتور حجار إلى مؤتمر النازحين السوريين في بروكسل بموقف يمكن وصفه بالمتشدد حيال استمرار وجود النازحين السوريين على الأراضي اللبنانية، يقضي بإبلاغ المؤتمرين أن لبنان لم يعد قادراً على تحمل عبء زهاء مليون ونصف مليون لاجئ، وأنه سيتصرف على هذا الأساس.
الموقف تقرر خلال اجتماع للوزيرين مع رئيس الجمهورية ميشال عون في الخامس من مايو (أيار) قال بعده بوحبيب إن توجيهات الأول للموقف في بروكسل هي أن لبنان "لم يعد باستطاعته تحمل النزوح السوري على أراضيه، فهناك وجود هائل لنازحين يفوق مقدراتنا واستطاعتنا المحافظة عليه، أو مساعدة النازحين".
يفترض المرء أن الجانب اللبناني يحمل معه إلى بروكسل خطة من أجل إعادة السوريين الذين نزحوا إلى أرضه منذ اندلاع الثورة السورية ومقابلتها بالعنف في 2011 من قبل النظام، وأنه سيعرضها على الاجتماع السنوي الذي ينعقد لمناقشة أعباء النازحين ويقرر مبالغ مالية مقابل استضافتهم من قبل الدول المجاورة، أي إضافة إلى لبنان، وتركيا، والأردن والعراق، وعدد من الدول الغربية التي تستضيف أعداداً محدودة ممن هربوا من جحيم القصف والقمع والتعذيب والسجن والملاحقة والتجويع من قبل استخبارات النظام. إلا أن مصدراً وزارياً أبلغ "اندبندنت عربية" بأنه لا خطة يحملها الوفد الوزاري معه إلى المؤتمر، ويترك الأمر إلى حينه حسب ردة الفعل.
الوزير بوحبيب اكتفى حين أعلن هذا الموقف بالقول إن لبنان "لا يريد أن يساعدوا النازحين فيه، أو أن يساعدوه هو، فنحن نهتم بأنفسنا إذا عاد النازحون السوريون إلى بلادهم". واعتبر أن "معظم السوريين الذين يذهبون إلى سوريا ويعودون يأخذون معهم عملات صعبة، لأن الليرة اللبنانية هناك هي عملة صعبة، هؤلاء يعملون ويتنقلون بين البلدين، ويجب ألا يكونوا هنا"، لكنه قال إن لبنان سيطبق قرار مجلس الوزراء الذي اتخذ في حكومة الرئيس حسان دياب (عام 2020)، "فنحن نريد أن نتعاون مع الأمم المتحدة، إلا أنه يجب أن نأخذ في الاعتبار مصلحتنا، لا أن يملوا هم علينا مصلحتنا، فنحن نعرفها".
الموقف اللبناني يوحي بالعودة القسرية
وبدا الموقف صدامياً مع الأمم المتحدة، التي يخوض لبنان سجالاً معها منذ سنوات، استناداً إلى موقف الرئيس عون الذي يدعو الهيئات المعنية بالمساعدات العينية أو المالية للنازحين، أن تقدمها لهم على الأراضي السورية بدلاً من تقديمها لهم في لبنان، لأن ذلك يشجعهم على البقاء فيه، في وقت باتت فيه مناطق كثيرة في سوريا آمنة لحسم المعارك فيها لمصلحة النظام، بمساعدة إيرانية وروسيا عسكرياً. واتهم وزير الخارجية اللبناني أميركا والدول الأوروبية بأنها لا تريد عودة النازحين، وذهب بوحبيب إلى حد التلويح بخطر انتقال النازحين إلى أوروبا، بقوله، "لم نعد قادرين على منعهم من الهجرة في البحر"، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي لا تهمه مصلحة لبنان، وهو تلويح غالباً ما تعتبره الدول الأوروبية خطوة الهدف منها ابتزازها من أجل تلقي المساعدات المالية.
التفسير الوحيد لما ينويه المسؤولون اللبنانيون في هذا المجال هو حمل النازحين على العودة إلى بلادهم، وعبر نقل مجموعات منهم إلى الحدود كي يتدبروا أمرهم بالعلاقة مع النظام، من دون التوقف كثيراً عند معايير المفوضية الأممية للاجئين بأن تكون العودة آمنة في بلدهم، وطوعية.
خطة الحكومة السابقة نظرية بلا تمويل
خطة حكومة دياب التي استند إليها بوحبيب لا تضيف جديداً عملياً لضمان عودة النازحين، والعودة إليها تفيد بأنها نظرية، ترتكز إلى الإصرار اللبناني على أن وجود النازحين سبب رئيس لأزمة لبنان الاقتصادية الخانقة، نتيجة تكلفته على البنى التحتية بمليارات الدولارات منذ أكثر من 11 سنة، إن كان بالكهرباء وشبكة المياه والعمالة، وكلفة تعليم أولاد النازحين (يمولها البنك الدول في شكل مباشر)، فضلاً عن الخسائر غير المباشرة التي سببتها الحرب السورية جراء عدم قدرة لبنان على نقل الصادرات الغذائية والزراعة إلى دول الخليج العربي عبر سوريا لأن النقل البري كان غير آمن.
ضآلة العطاء الدولي
وتنص تلك الخطة على رفض التوطين، كمبدأ نص عليه الدستور، وكذلك رفض أي شكل من أشكال الاندماج في المجتمع اللبناني، وعدم الإعادة القسرية، كما تشير الخطة إلى عدم ربط عودة النازحين بالعملية السياسية في سوريا، كما تذكر ترحيب الدولة السورية بعودة السوريين كافة، واستعدادها لبذل ما يلزم لتسهيل إجراءات هذه العودة، من خلال ترميم آلاف المدارس، والعمل على إعادة المؤسسات والخدمات وتأهيل البنى التحتية، وتأمين متطلبات مواطنيها، وإحداث مراكز إيواء مؤقتة، وتقديم مستلزمات العيش الكريم.
واعتبر وزير الشؤون الاجتماعية في حينها رمزي مشرفية، الذي زار دمشق أكثر من مرة، أن خطة الاستجابة للأزمة، تقسم إلى ثلاثة أبعاد، بعد لبناني، وبعد لبناني - سوري، وبعد لبناني - دولي، وأن العودة الجماعية المنشودة ستتم على مراحل من دون إمكانية تحديد إطار زمني لها، إلا أنها افتقدت إلى التمويل.
وعند سؤال الوزير بوحبيب عما إذا كان الوفد اللبناني يحمل خطة تمويلية إلى مؤتمر بروكسل، نفى ذلك، ولفت إلى "ضآلة العطاء المالي من الدول المعنية، وإلى أن هناك تعباً من الدول المانحة من تمويل أعباء النازحين"، ورأى أن اشتراط المجتمع الدولي حصول تقدم في الحل السياسي، لتمويل العودة بإعادة إعمار ما تهدم كي يعود النازحون إلى قراهم يعني أنهم لا يريدون هذه العودة، في وقت "يعرف فيه قادة الدول التي تطرح هذا الشرط أن الاتفاق مع المعارضة السورية التي يتوزع رموزها على فنادق العواصم غير متوفر".
مؤتمر بروكسل ينعقد في أسوأ الظروف
في المقابل، فإن مصدراً معنياً بالتواصل مع الاتحاد الأوروبي في شأن النازحين السوريين أبلغ "اندبندنت عربية" بأن الاستعدادات لجهة التمويل في أسوأ احتمالاتها. واعتبر أن المؤتمر هذه السنة ينعقد في أسوأ الظروف نتيجة قرار بتقنين تمويل تكلفة النازحين السوريين للدول التي تستضيفهم، فبريطانيا مثلاً أبلغت من يلزم بأنها ستمتنع عن دفع أي مبلغ لهذا الغرض، وألمانيا الدولة الأكثر سخاءً في تمويل هذه الأزمة قررت خفض ماسهمتها لمساعدة النازحين السوريين، والمسؤولون عن هذا الملف في الاتحاد الأوروبي قالوا قبل 10 أيام من انعقاد المؤتمر إن استعداداتهم ستبقى على ما كانت عليه، في إشارة إلى أنه لا زيادة في التمويل، ثم عادوا وقالوا إنهم سيحاولون ألا يغيروا موقفهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشرح المصدر نفسه الموقف الأوروبي بالقول إن التوجه اللبناني يأتي في أسوأ الظروف، إذا كان الهدف من التلويح بإعادة النازحين قسراً الحصول على تمويل إضافي، بل إن المبالغ المخصصة للبنان خضعت للتخفيض بحجة الوضع السياسي المضطرب فيه، وغياب الحوكمة في إنفاق الأموال التي يتم صرفها فيه، بل يذهب بعض المسؤولين في الاتحاد الأوروبي إلى حد القول إن الانتخابات النيابية التي تجري في لبنان حالياً لن تحدث تغييرات جوهرية في وضعه لهذه الناحية، وهذا سينعكس على درجة الإقبال على تمويل خطة الاستجابة لأزمة النازحين.
إغراء سوري لجذب المساعدات وأهداف انتخابية لأردوغان
أما بالنسبة إلى سوريا، فإن المصدر يشير إلى أنه على الرغم من أن إصدار رئيس النظام السوري بشار الأسد قانون العفو عن السجناء بتهم متصلة بالتعاون مع "الإرهاب" الذي طاول عشرات الآلاف من المعارضين للنظام، من أجل تلبية بعض شروط المجتمع الدولي بإحداث تقدم في الحل السياسي للقبول بزيادة التمويل المتعلق بالنازحين السوريين، فإن هذه الخطوة كانت تهدف من بين أهداف عدة، إلى استباق مؤتمر بروكسل، لكن المعنيين في الاتحاد الأوروبي لا يعتقدون أنها كافية. ويضيف أن النظام السوري أبلغ الأوروبيين، بأنه إضافة إلى قانون العفو، سيبدي موقفاً مرناً في اجتماعات اللجنة الدستورية في أواخر الشهر الحالي في جنيف، بعد أن مضت أكثر من سنة على المراوحة في أعمالها برعاية الموفد الدولي غير بيدرسون.
وعلم أن من بين الرسائل التي أبلغتها دمشق إلى مسؤولين في الاتحاد الأوروبي أنها وافقت على القاعدة التي اقترحها بيدرسون قبل أشهر، أي اعتماد أسلوب الخطوة مقابل خطوة بين النظام وبين المعارضة من جهة، وبينه وبين الدول الغربية، في ولوج الحل السياسي، وعد المراقبون هذا الموقف بأنه محاولة لإغراء دول الغرب لتقديم المساعدات لسوريا، في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة التي تعيشها.
كما أن إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل مدة أنه قرر إعادة مليون نازح سوري إلى منطقة سيطرته في شمال غربي سوريا بعد بناء منازل وتأهيل البنى التحتية فيها لتأمين عودة آمنة ولائقة لهم، جاء مقصوداً قبيل انعقاد مؤتمر بروكسل، بهدف الحصول على تمويل لهذه العملية، إلا أن تفسيرات المراقبين لهذا الإعلان أنه يهدف إلى اجتذاب الجمهور التركي على أثر انخفاض شعبية حزبه بسبب الأزمة الاقتصادية، وإلى الإيحاء بأنه يعمل جدياً من أجل إعادة النازحين الذين يشكلون عبئاً على الاقتصاد.
لكن المشكلة تكمن في أن لا النظام في سوريا ولا غيره من الدول العربية وغير العربية المعنية وصلت إلى مرحلة الإدراك بأن الدول الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، باتت في مزاج مختلف جذرياً عن السابق بسبب الحرب في أوكرانيا، وهذا ينعكس على درجة إقبال هذه الدول من زاويتين:
تمويل أوكرانيا والأزمة الاقتصادية العالمية
الأولى أن الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تداعيات الحرب في أوكرانيا، وفي طليعتها أزمة الغذاء العالمي، تدفع الدول المانحة إلى خفض مساهماتها في مجالات دولية أخرى جراء اضطرارها إلى تمويل تلك الحرب بالسلاح والعتاد، وإلى تقنين إنفاقها بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز، وأولوية تمويل أزمة النازحين الأوكرانيين الذين انتشروا في أوروبا وفي الدول المجاورة لمسرح الحرب وفي قلب أوكرانيا نفسها، فقد فاق عددهم ثمانية ملايين في ثلاثة أشهر، بينما تزايد أعداد النازحين السوريين حصل على مدى يفوق ثلاث سنوات.
المساعدات الإنسانية مشروطة سياسياً
والزاوية الثانية لإحجام الدول الغربية عن زيادة تمويل أزمة النازحين السوريين تتعلق بالموقف السياسي للدول المعنية باستضافتهم حيال روسيا في حربها ضد أوكرانيا، فقد بات المعيار الذي تقيس الدول الغربية المانحة وحلفاؤها الآسيويون استعداداتها لتقديم المساعدة المالية للدول المحتاجة هي مدى وقوفها إلى جانب أوكرانيا في مواجهة موسكو، وقد بات الانحياز إلى الموقف الغربي شرطاً رئيساً لهذه الدول من أجل التعامل بإيجابية مع الدول المحتاجة في ظل الانقسام الحاد على المستوى العالمي، بما يذكر بذلك الانقسام الذي ساد أيام الحرب الباردة. ويشير المصدر في هذا السياق إلى أن الدول المنحازة إلى الموقف الروسي، ومنها سوريا سيتم التعامل معها على أنها تصطفّ في موقع العداء لدول الغرب، بالتالي سيتم حجب المساعدات عنها. ويقود ذلك إلى تكريس مبدأ ربط المساعدات حتى الإنسانية بالشروط السياسية، من الآن فصاعداً.