ليس من الأمور النادرة في عالم الكتابة الروائية أن يضع كاتب ما نصاً يصور فيه صراعه مع شخصياته، بل هي ممارسة غالباً لما يلجأ إليها كتاب كبار في لحظة يجدون لزاماً عليهم أن يتوقفوا لبرهة فيها، بغية تأمل عالمهم الكتابي وما أنجزوه، وتحديداً من خلال إعادة إحياء شخصيات معينة من بين العشرات وربما المئات التي كانوا ابتكروها وأسندوا إليها أدواراً رئيسة عادة، وربما غير رئيسة أحياناً في رواياتهم السابقة.
ولعله سيكون من الطرافة أن نذكر هنا ولهذه المناسبة، كيف أن الكاتب آرثر كونان دويل مبتكر شخصية شرلوك هولمز، خاض ذلك الصراع نفسه على طريقته الخاصة، واصلاً به إلى حد التخلص من بطله التحريّ الشهير من خلال قتله في واحدة من أقوى رواياته. صحيح أن كونان دويل قد اضطر لاحقاً إلى إعادة هولمز إلى الحياة في رواية لاحقة، ولكن فقط تحت ضغط القراء، وبعد أن كان قد أوصل ممارسة الصراع مع بطله إلى مستوى الحدود القصوى، وطبعاً لن نستعرض هنا حالات كثيرة من هذا النوع لكننا سنتوقف عند حال جماعية أقرب إلينا زمنياً، وتنتمي هذه المرة إلى ما يمكننا اعتباره "أدباً كبيراً".
حال بالغة الخصوصية
ففي نهاية الأمر الحال التي نتناولها هنا تتعلق ببول أوستر المعتبر واحداً من أكبر كتاب جيله عبر روايات عدة أصدرها خلال الـ 40 سنة الأخيرة، ناهيك بتحقيقه أعمالاً سينمائية تجريبية وطليعية.
بول أوستر الذي بلغ العقد السابع من عمره يعتبر حالاً خاصة في الأدب الأميركي المعاصر، بل ربما كان من الكتّاب القلة الذين جمعوا بين درجة عليا من النخبوية وبين انتشار وشعبية كبيرين، وهو إلى هذا دنا من أصناف روائية عدة تراوحت بين السوريالية والواقعية والميتافيزيقية بل والميتاروائية، وابتكر أنواعاً مدهشة من شخصيات ملأت رواياته وتحركت فيه على سجيتها حاملة في أحيان كثيرة اسم المؤلف نفسه، أو أسماء تشبه في حروفها حروف اسمه من دون أن يكون لذلك التماهي أي دور في حبكة الرواية نفسها.
هي في نهاية الأمر ألعاب أدبية محاطة بالغموض الخلاق، أو لعل الأمر كان مجرد تمرين للوصول بصورة منطقية إلى النص الذي نتناوله هنا وعنوانه "رحلات في غرفة الكتابة"، وربما يكون هذا النص الذي لا بأس من اعتباره رواية، من أقصر النصوص الروائية التي كتبها أوستر، ناهيك بأنه من أقواها وأكثرها دلالة، بخاصة أن السمة الأساس التي تطبع هذا النص كونه يصور الصراع بل المحاسبة بين شخصياته الروائية وبين كاتب عجوز يمكنه في نهاية الأمر أن يكون بول أوستر نفسه، ولكن بعد عقود مقبلة من السنين، أي وهو يعيش آخر فصول مساره الأدبي حتى وإن كان الاسم الذي سينادى به هنا هو "مستر بلانك".
بعد سبات طويل
"مستر بلانك" هذا يطالعنا أول الرواية وقد أفاق مما يشبه نوماً طويلاً ليجد نفسه عاجزاً عن تذكر أي شيء، بما في ذلك اسمه ولماذا هو هنا وكيف دخل إلى هذا المكان ذي الجدران الخالية من أية زينة، ما عدا نوافذ تفتح بدورها على جدران مسدودة، وما عدا باب نفترض ويفترض هو بدوره أنه موجود طالما أن ثمة أشخاصاً سيدخلون ويخرجون بعد حين ليؤدوا أدواراً تبدو غامضة، وتكاد تقتصر على صراعات لفظية يخوضونها ضد هذا الذي لن نعرف أن اسمه "مستر بلانك"، إلا من خلال تلك المرأة التي تكون أول الداخلين من دون أن تمهد في دخولها لدخول أي واحد منهم لاحقاً، فهي هنا للعناية بالرجل ومناداته باسم لا يبدو أنه يتذكره، ولتذكيره بممارسات يومية حياتية يتبعها هو من دون أن يفهم منها شيئاً.
وهو حين يحاول على أية حال أن يطرح عليها أسئلة تنير له ما استغلق عليه من وجوده، لا يحصل منها على أية إجابات حاسمة، وهو للحصول على إجابات يتوخاها سيلجأ في المقابل إلى مخطوط يجده على طاولة في الغرفة وضع عليها المخطوط إلى جانب بضعة صور وأوراق وأقلام، والمخطوط الذي يثير فضوله يحكي حكاية "سجين" آخر سيخيل إليه أنه هو نفسه طالما أن كل ما في وجوده في هذه الغرفة يوحي بأنه سجين فيها، لكن "مستر بلانك" لا يبدو أنه يعرف أي شيء عن ذلك العالم الذي يعيش فيه سجين المخطوط، تماماً كما أنه لا يعرف شيئاً عن عالمه الخاص، وكما أنه يجهل كل شيء عمن وضع المخطوط في تصرفه كما وضع إلى جانبه مجموعة الصور التي يعجز صاحبنا عن التعرف على أي شخص أو أي شيء فيها.
"معارف" قديمة وأسئلة غاضبة
وخلال الساعات المقبلة من ذلك اليوم شديد الخصوصية، لن يبقى مستر بلانك بمفرده ولا حتى مع المرأة التي تعتني به لكنها لا تجيبه عن أسئلته، بل سيدخل إلى الغرفة تباعاً عدد من أشخاص لا يبدو أن صاحبنا يتعرف على أي منهم، لكننا نحن سنتعرف عليهم إن كنا من القراء المواظبين على قراءة روايات بول أوستر، لا سيما منها "مون بالاس" و"الثلاثية النيويوركية" و"رحلة آنا بلوم" وغيرها، وهي شخصيات لعبت أدوارها في روايات أوستر، وها هي الآن تأتي لتجابه "مستر بلانك" متهمة إياه بكونه قد أسند إليها في الماضي مهمات بالغة الصعوبة وضعتها على حافة الخطر. "لماذا فعلت هذا بي؟ وكيف حدث أنك لم تنقذني في لحظات الشدة وكنت قادراً على ذلك بجرة قلم؟ ألم تخجل من كونك أوردتني مورد الهلاك من دون أن أكون قد تسببت لك بأي أذى؟ من أين استقيت كل تلك السادية التي عاملتني بها؟".
كل هذه الأسئلة وعشرات لا تبتعد منها كثيراً كانت تلك التي راحت شخصيات روايات بول أوستر السابقة تمطر بها ذلك السيد الذي كان عاجزاً تماماً عن الإجابة عن أي سؤال، بل حتى عاجزاً في طريقه عن إدراك مدى ارتباط تلك الأسئلة نفسها بأميركا ومسؤوليتها عن العالم، بل إنه لا يفهم تماماً عما تتحدث الشخصيات إليه. غير أن هذه ستظل غاضبة منه ولسان حالها جميعاً يكاد يسأله السؤال الأكثر قسوة، "لماذا تراك أصلاً قد خلقتنا؟".
لكن "مستر بلانك" سيشعر بقدر أكبر كثيراً من الاضطراب والضياع، ليس أمام تلك الأسئلة التي جعلته يفترض بصورة غامضة أنها موجهة إلى شخص غيره وأضاعت طريقها لتصل إليه، بل أمام المخطوط المعنون "نيفر لاند" والذي راح يمعن في قراءته، ثم أمام اتصال هاتفي يصل إليه من شرطي يعرّف نفسه باسم جيمس باتريك فلويد، ونحن سبق لنا أن التقيناه في أحد أجزاء "الثلاثية النيويوركية" على أية حال، من دون أن ننسى هنا ذلك الاضطراب الكبير الذي لا يتوقف إطلاعه على الصور عن التسبب به له كلما راح يتفحصها من جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حساب عسير
في نهاية الأمر، وكما أشرنا في بداية هذا الكلام، نحن هنا أمام رواية بالفعل لكنها رواية مركبة من لحظات بالغة الخصوصية والحساسية من أعمال بول أوستر السابقة، بما في ذلك اسم آنا التي حتى وإن كانت توجد هنا لمجرد العناية بـ"مستر بلانك"، فإنه يجد نفسه يتمتم باسمها بين الحين والآخر في تعبير عن هيام سابق بها، والطريف هنا هو أن هذا التائه العجوز لن يفوته أن يرسم ذات لحظة علاقة حب، ليس بينه وبين آنا تحديداً، بل بين هذه وواحدة من الشخصيات التي تزوره في الغرفة وتحمل اسم جون تراوس، واسم تراوس مركب من حروف نفسها لاسم أوستر، وسبق لصاحب الاسم أن كان حاضراً في رواية "ليلة العراف" لأوستر نفسه.
كما أن آنا نفسها إنما هي بعد كل شيء آنا رواية "رحلة آنا بلوم"، وهو ما يغلق الدائرة على لعبة أدبية مهيكلة بشكل خلاق عرف فيها بول أوستر، ليس فقط أن يعيد النظر في أدبه كله، ولكن كيف يجعل شخصياته المبتكرة واللاعبة في نحو 10 من رواياته الأساس تعود إلى الحياة لتحاسبه، بل بالأحرى لتحاسب ما سيكون قد تبقى منه بعد سنوات، حين سيكون قد انتهى ككاتب وبات عاجزاً عن التعرف حتى على مخطوطه الأخير!