حظيت أسطورة إلكترا اليونانية، وما زالت، بمعالجات مسرحية عدة، بدءاً من أشهر كتاب الدراما الإغريقية إسخيلوس، ويوربيدوس، وسوفوكليس، مروراً بعشرات الكتاب، ومنهم يوجين أونيل، ولويس ألفارو، وعزراباوند، ودانيلوكيس، وجان جيرودو، ومارغريت يورسنار، وسواهم، فضلاً عن معالجات سينمائية وموسيقية وأوبرالية لم تتوقف حتى الآن.
أصبحت إلكترا مصدر إلهام، لا ينضب، لمئات الكتاب والفنانين حول العالم، بل إن شخصيتها خضعت لعديد من الدراسات النفسية لكبار علماء النفس وعلى رأسهم سيغموند فرويد وكارل يونغ في ما يعرف بعقدة إلكترا المقابلة لعقدة أوديب، فالأولى عن شدة تعلق الفتاة بأبيها، والأخرى عن شدة تعلق الفتى بأمه.
في مصر ثمة معالجة جديدة يقدمها مسرح الشباب في القاهرة (تابع لوزارة الثقافة)، كتابة محمد عبد المولى وإخراجه، والمسرحية تقدم في إطار مشروع "المخرج المحترف" الذي يتبناه مدير المسرح، المخرج سامح بسيوني، لتقديم عشرة مخرجين من الشباب لإثراء الساحة المسرحية المصرية.
مفارقة الأسطورة
في هذه المعالجة يفارق الكاتب والمخرج، الأسطورة اليونانية في بعض أحداثها: في النص الأصلي تتزوج إلكترا رغماً عنها، فلاحاً بسيطاً فتطردها أمها كلمنسترا وزوجها إيغستوس، اللذان قاما بقتل أبيها أغاممنون واغتصبا ملكه، من القصر، لتسكن كوخاً بسيطاً مع زوجها الفلاح الفقير، الذي تركها عذراء ولم يمسسهاعندما علم بقصتها. في المسرحية المصرية تحولت إلكترا إلى قائدة للعاهرات في إحدى الحانات، بل إن هذه الحانة هي نفسها آرغوس مملكة أبيها، يقودها ويسيطر عليها زوج الأم مغتصب العرش، فضلاً عن ارتباطه بعلاقة جنسية مع إلكترا، أما الأم فقد أصبحت عاملة لتنظيف مراحيض الحانة، ودائماً ما تتعرض للإيذاء البدني والنفسي من ابنتها وزوجها.
وعلى الرغم من هذا التحول بقيت إلكترا على كراهيتها لأمها وزوجها، مجبرة على ممارسة الدعارة انتظاراً لعودة أخيها أوريست، الذي قامت بتهريبه، صغيراً، خارج البلاد حتى يعود لينتقم عندما يشتد عوده.
ميراث الدم
إن هذه البلاد، التي تحولت إلى ماخور كبير فقدت فيه إلكترا عفتها وإن لم تفقد كراهيتها للأم وزوجها، ورغبتها في الانتقام منهما. وما أوصلها إلى تلك الحالة المزرية هو الدماء التي توارثتها الأجيال، ولذلك فإن خادم الحانة العجوز، الذي تم استبداله بالجوقة، يلح على أوريست، بعد عودته، بالبحث عن العدالة وليس الانتقام. فالدماء لا تخلف سوى الدماء، وهو إن قام بقتل إيغستوس، فسوف يحل مكانه كمسيطر على هذا الماخور وقواداً لعاهراته. وهو ما يحدث بالفعل، فبعد قتل الأم كلمنسترا وزوجها إيغستوس، يصعد أوريست إلى مكان القيادة ويتكرر المشهد نفسه الذي بدا فيه إيغستوس موجهاً نصائحه لعاهراته بحسن التعامل مع الزبائن، وكأنه السقوط التراجيدي الذي يطاول الجميع نتيجة هذا الميراث الدموي المتكرر.
عنوان مراوغ
عنون الكاتب والمخرج مسرحيته بـ"مش إلكترا"، أي ليست إلكترا، وهو عنوان مراوغ، يفتح باباً واسعاً للتأويل، والمؤكد أنه لا يقصد الإشارة إلى أن نصه لا علاقة له بالأسطورة الأصلية. فالعلاقة موجودة وواضحة، وإن اختلفت الرؤية والمعالجة، وربما قصد إلى فكرة التعميم والإسقاط على الواقع المعاصر. فالسقوط هنا يطاول الجميع في سعيهم إما لاغتصاب حقوق الغير، وإما للانتقام ممن اغتصبوا تلك الحقوق. فالبحث عن العدالة وليس الانتقام -حسب ما ورد على لسان خادم الحانة- من شأنه أن يجنبنا ذلك السقوط المروع. فالدماء لا تخلف سوى الدماء، والظلم لا يخلف سوى الظلم، والعدل، وحده، هو القادر على ضبط إيقاع الحياة ومجرياتها، وتحقيق سعادة الإنسان.
إن استدعاء الأسطورة هنا، واقتراح سيناريو جديد لمجرياتها، لا يبدوان، في أغلب الظن، مجانيين، ولا يبدوان كذلك استعراضاً لإمكانات مخرج جديد أتيح له تقديم عرض كلاسيكي منضبط، وهو وإن بدا استعراضاً لإمكاناته، يضيف إليها وجهة نظره التي تعامل من خلالها مع الأسطورة، وتفكيكها وإعادة تركيبها من جديد، مما يجعلنا نتحسس واقعنا، وندرك أي مصير ينتظرنا إذا استبدلنا بالبحث عن العدل، البحث عن الانتقام.
وأياً تكن التأويلات، التي تحسب للعرض، فنحن أمام وجبة مسرحية دسمة ومنضبطة، استطاع صناع عناصرها كافة، تقديم أنفسهم بشكل يمثل إضافة نوعية للمسرح المصري.
اختيار الممثلين
نجح المخرج في اختيار ممثليه بعناية: نغم صالح في دور إلكترا، ممثلة شاملة وموهوبة، تقدم التمثيل والغناء والاستعراض، وتقرأ شخصيتها بفهم ووعي، وتقدمها بإقناع ومحبة شديدة، ومصطفى عبد الهادي في دور أوريست، يبدو راسخاً وواثقاً، بمواصفاته الجسدية الملائمة للشخصية، والتي أجاد استخدامها، وكذلك مخارج حروفه السليمة، ومينا لويز في دور إيغستوس زوج الأم ومغتصب العرش بأدائه الهادئ الذي يعكس طبيعة الشخصية، والدهاء الذي يسمها، وما وصلت إليه من انحطاط أخلاقي، وعلاء هلال في دور خادم الحانة، ذلك العجوز صاحب الحكمة في أداء سلس وبسيط لا تكلف فيه، ومعهم مجموعة من الممثلين الذين تبدت مواهبهم واضحة على الرغم من مساحاتهم المحدودة.
ولأن المخرج كان يدرك جيداً أنه يقدم عرضاً نوعياً، فقد عمد في بعض اللحظات إلى إضافة مسحة كوميدية تخفف قليلاً من بؤس الأحداث وتوترها، وربما لو تم حذف تلك اللحظات لما تأثرت الدراما، لكن وجودها لم يثقل على العرض بل منحه قدراً من الحيوية والبهجة.
مشهد سينمائي
في مشهد النهاية الذي يحدث فيه الصراع بين أوريست وإيغستوس، كان التنفيذ احترافياً، وكأننا أمام مشهد سينمائي استغرق تصويره ساعات ليظهر بهذه الدقة والرشاقة التي بدا عليها الممثلون. فتنفيذ مثل هذه المعارك على خشبة المسرح، بخاصة إذا كانت ضيقة، يتطلب دقة ووعياً واحترافية، وإلا تحول الأمر إلى كوميديا تثير الضحك بدلاً من إثارة التشويق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من ضيق خشبة المسرح استطاع مصمم الديكور ملاك عادل صياغة الفضاء المسرحي بشكل جمالي واعٍ: منظر واحد ثابت يصور الحانة في مستويات ثلاثة، المستوى الأول وضع فيه البار إلى اليسار وإلى اليمين باب الدخول وترك بينهما مساحة لحركة الممثلين واستعراضاتهم. والثاني مرتفع قليلاً لجلوس الفتيات، والثالث على ارتفاع نحو ثلاثة أمتار كي يمثل ما يشبه غرفة التحكم التي يراقب إيغيستوس الحانة من خلالها ويبدو مهيمناً على المشهد كله. وأسهمت إضاءة محمد الطايع في دعم جماليات الديكور وكذلك دعم الدراما بتنوع ألوانها وبؤرها ومصادر إسقاطها، حسب متطلبات المشهد واستجابتها السريعة لتحولاته. وبدت الملابس أقرب إلى التجريد الزمني منها إلى التجسيد، بمعنى أنه لا يمكن ردها مباشرة إلى العصور الإغريقية، أو حتى إلى أي عصر بعينه، وإن حمل بعضها الملامح الإغريقية من دون إغراق في تفاصيلها تماماً، وهو ما يسمح بانسحاب الأحداث على عصور أخرى أكثر حداثة، ربما منها عصرنا هذا.
موسيقى العرض وضعها شريف ياسر، وفيها هي الأخرى مزيج من القديم والحديث بخاصة الأغنية التي كتبها علاء عبد العزيز سليمان مختزلاً بها مساحة من الأحداث لتدعم دراما العرض في انضباطها وتدفقها، وشكلت استعراضات سمير نصري مصدراً آخر للجمال في العرض، وجاءت مزيجاً بين الكلاسيك والحديث.
"مش إلكترا"، التي جاءت بمثابة إطلالة لمخرج جديد موهوب، مسرحية ذات صورة مبهجة، متكاملة العناصر، تحمل أفكاراً جديرة بالتأمل، وأسئلة جديرة بالبحث عن إجابات.