يخرج الطاهر بنجلون، حيناً تلو آخر، من غرفة الكتابة ليلج قاعات العرض ويقدم لوحاته التي يرسمها في مرحلة الاستراحة، بين رواية ورواية. وقد ألِف القرّاء صورة الطاهر بنجلون الكاتب الذي يتميز بغزارة الإنتاج، فقد فاقت أعماله ستين كتاباً، ويتميز في الآن ذاته بالتداول والحضور والشهرة الواسعة، خصوصاً في الأوساط الفرنكوفونية. فهو أول كاتب عربي يحصل على جائزة غونكور عام 1987، قبل أن يحصل عليها أمين معلوف عام 1993، وقبل أن يكون الاسم العربي الثالث الذي يحظى بالجائزة هو ليلى سليماني عام 2016.
وألف القراء أيضاً صورة الطاهر بنجلون ككاتب يثير الكثير من النقاش كلما أصدر نصاً روائياً أو كتاباً يُعنى بالقضايا العامة. وينقسم أهل الوسط الثقافي في الغالب إلى فريق متحمس لما يكتبه الروائي المغربي المعروف وفريق آخر متحفظ على كتاباته ومواقفه.
ولعل جنوح الطاهر بنجلون إلى الرسم من وقت لآخر، هو رغبة في الهروب من كلّ نقاش مهما كانت طبيعته، والانتصار بالتالي إلى جماليات العين. لذلك اختار الكاتب المغربي هذه المرة رواق "ورشة 21" في مدينة الدار البيضاء ليعرض بعضاً من لوحاته الجديدة التي أنجزها طوال عشرين يوماً، ويحمل المعرض شعار "لون الكلمات".
يعترف الطاهر بنجلون في كاتالوغ معرضه المغربي الجديد أنه ينتقل من الكتابة عما يسميه "آلام العالم" إلى الاحتفاء في الرسم بـ "أنواره". يشرح الكاتب فكرته على النحو التالي: "لقد كتبتُ في الغالب عن الظلم والوحدة والهجران، لكني كنت بحاجة لاستكشاف الجانب الآخر من هذا الكون المعتم. لقد بدأت أرسم محاولاً أن ينسى الناس الجهة المظلمة من العالم التي كنت أكتب عنها".
هيمنة اللون الأزرق
ما يقترحه الطاهر بنجلون في لوحاته التي يرسمها من حين لآخر هو بمثابة تنويعات نوستالجية، فقد بدأ الرسم باكراً، قبل انخراطه الجادّ في عالم الكتابة، بالتالي فالأعمال الفنية التي ينجزها تكاد تكون رجعَ صدى لمرحلة الشباب، حين كان يحلم بأن يصبح رساماً، وقد تكون هذه العودة إلى الرسم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، هي امتداد للحلم القديم.
يهيمن على الأعمال الجديدة للطاهر بنجلون اللون الأزرق الذي يغطي مساحات كبيرة في معظم لوحاته. وهذا اللون ليس غريباً على الطاهر بنجلون، ولعله لون طنجة الواقعة على ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، حيث صارت زرقة البحرين تملأ عينيه، طنجة التي عاد ليستقر فيها صاحب "ليلة القدر" بعد عقود من الحياة الفرنسية، بحثاً عن السكينة التي تسعف في كتابة أعمال أدبية مستوحاة من العيش في المدينة نفسها.
ومن يتأمل الأعمال التشكيلية الجديدة للطاهر بنجلون سيبدو له كما لو أن الألوان الأخرى في هذه الأعمال هي امتداد للون الأزرق. وقد لا يكون هذا اللون رمزاً دائماً للشساعة والامتداد، بل قد يصير أحياناً رمزاً للسكينة والأمن الداخلي والثقة في الذات، كما يزعم الباحثون في علم النفس. ولعل هذه الصفات الأخيرة تلائم شخصية الطاهر بنجلون خصوصاً في المرحلة الراهنة.
لا يخلو اللون الأزرق من مسحة القداسة، ففي عصر النهضة حوّل شيخ الفن الإيطالي جيوتو دي بوندوني الكنائس إلى لوحات فنية زرقاء. ومنذ عهده صار هذا اللون هو الطاغي في المعابد المسيحية، ليس كطلاء للجدران والأسقف فحسب، بل اللون الأساسي للملابس التي يرتديها المسيح ومريم العذراء. وسيتحول هذه اللون لاحقاً في الثقافة الفرنسية إلى رمز كبير للرومانسية، قبل أن يجعل منه بيكاسو رمزاً آخر للكآبة والألم والموت في فترة مفصلية في حياته حملت اسم "المرحلة الزرقاء". وكانت تلك الأعمال كما هو معروف بمثابة حداد على رحيل صديقه كازاديمياس.
غير أن الطاهر بنجلون يجعل من هذا اللون رمزاً للحياة لا الموت. إذ يحس المتأمل في لوحاته بنوع من الانشراح، ويدخل إلى مساحات هائلة من الطمأنينة. وقد سبق لبنجلون أن عبر عن رغبته في نقل الفرح، المستمد من الناس، عبر لوحاته، مؤكداً أن "هناك بهجة حياة في المغرب والناس يستطيعون بتفاؤل أكثر، تجاوز صعوبات الحياة".
شهرة الكاتب تدعم لوحاته
تتميز اللوحات المعروضة في رواق "ورشة 21" في الدار البيضاء بمزجها بين الرسم والكتابة، امتداداً لتجارب "الإكفراسيس". فقد اختار الطاهر بنجلون أن يذيّل هذه اللوحات ببعض من الجمل القصيرة، هي في الغالب عبارة عن شذرات شعرية. وفي هذا المزج نحس كأنما يسعى بنجلون إلى تذكيرنا بأنه شاعر أيضاً، هو الذي دخل أرض الكتابة في شبابه من باب الشعر قبل أن ينصرف إلى الرواية، بل إنه حصل على جائزة الأركَانة العالمية التي يمنحها بيت الشعر في المغرب، والتي سبق أن حصل عليها كبار الشعراء مثل سعدي يوسف وأنطونيو غامونيدا ومحمود درويش وبيي داو ووديع سعادة وتشارلز سيميك وإيف بونفوا وغيرهم. وقد أثار فوز الطاهر بنجلون بالأركَانة عام 2010 الكثير من النقاش انصبّ بالأساس على مسألة أحقيته للجائزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تتوقف علاقة الطاهر بنجلون بالرسم عند حدود اللوحات التي يرسمها بين الفينة والأخرى، فهو أيضاً باحث جمالي أعدّ الكثير من الدراسات حول أعمال أبرز التشكيليين المغاربة، مثل الجيلالي غرباوي ومحمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد شبعة والشعيبية طلال ومحمد قاسمي وفؤاد بلامين، فضلاً عن دراساته لأعمال تشكيليين أجانب مثل هنري ماتيس وجياكوميتي وكلوديو برافو وميمو روتيلا وغيرهم.
سبق لصاحب "تلك العتمة الباهرة" أن أقام عدداً من المعارض للوحاته، في معهد العالم العربي في باريس وفي متحف سان سالفادور في روما وفيلا بيكولو في باليرمو ورواق تندوف في مراكش والرواق الوطني في دبي وغيرها. غير أن هذا لا يعني أننا أمام فنان تشكيلي محترف، فكثير من التشكيليين المغاربة المتمرسين لم يجدوا من يحتفي بهم ويفتح لهم أبواب المعارض الدولية، لنتساءل إن كان الطاهر بنجلون يتقدم في عالم التشكيل مستغلاً صورته كروائي مشهور.