كان الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه (1819 – 1877) في حوالي الخامسة عشر من عمره حين ضربته الأقدار بوفاة أخته نلاريس التي كان يحبها أكثر من أي كائن آخر ومن ثم بعد وفاة الأخت بشهور بوفاة أبيه الذي كان على علاقة صداقة وطيدة معه. كان الراحلان يمثلان تقريباً كل شيء في حياة ذلك الفتى الذي كانه كوربيه في سن كان لا يزال في حاجة فيها إلى صداقة أبيه وحنان أخته. والحقيقة أن ما أنقذه يومها من الوقوع في اليأس المطلق كان بدءه في تلك الفترة بالذات بتلقي دروس أولية في الرسم على يد مدرس الرسم المعروف بـ"الأب بو" الذي كان في الأصل تلميذاً في المادة نفسها للرسام غرو الذي كان يعتبر ملك اللوحات الواقعية والتاريخية الكبرى في ذلك الحين. وهو تمكن من الابتعاد عن الحزن أكثر، بالتالي بفضل انغماسه في تلك الدروس ولاحقاً بفضل تلمذته الأكثر جدية هذه المرة خلال سنوات تالية من حياته على الرسام فاجوليه الذي كان من ناحيته تلميذاً للرسام دافيد في الكلية الملكية في بيزانسون، ولكن ريثما تكتمل عدته الفنية والمعرفية ويستقل بفنه عن التيارات التي كونته. وما نعنيه هنا أن كوربيه لم ينس لا أباه ولا أخته لكنه عرف كيف يعتاد على فقدهما ويضعهما على هامش خفي في حياته. وهما لن يلبثا أن استيقظا معاً لاحقاً حين اكتملت عدته الفنية ولكن ليس لكي يرسمهما بل لكي يرسم الموت من خلال ذكرياته عن رحيلهما المفجع. ومن هنا لم يكن غريباً أن يشغل الموت حيزاً لا بأس به من تفكيره ويخصه هو بلوحتين من أقوى لوحاته. بل إن واحدة منهما تعتبر عادة من أقوى لوحاته وإن كانت الثانية أكثر ارتباطاً بالموت بكثير. ونتحدث هنا عن لوحتيه "دفن في أورنان" (1849) و"زينة الميتة" (1850).
بعد فجائعي
والحقيقة أننا حتى ولو ربطنا هنا هاتين اللوحتين بما تبقى من ذاكرة الميتين العزيزين في عمق تفكير كوربيه، يتوجب علينا أن نوضح أن لا الجنازة كانت جنازة أي منهما، ولا الزينة في اللوحة الثانية كانت لأخته. كل ما في الأمر أن التعبير القوي عن الموت في اللوحتين نفترضه بصيغة منطقية مرتبطاً بما كان قد عايشه قبل ذلك بثلاثين عاماً وأكثر ضمن نطاقه العائلي. ولئن كان كورو قد عبر عن الموت والفاجعة في عدد آخر من لوحاته فإن هاتين اللوحتين تكفيان وحدهما للحديث عن الدور الذي لعبه الموت في إبداعه هو الذي لا بد من الإشارة إلى أن البعد الفجائعي المرتبط بتمرد سياسي لديه لا بد من العودة به إلى مآسي صباه والتي كان موت القريبين ذروتها، هذا البعد قد لعب دوراً أساسياً في تمرده السياسي والاستفزازية التي عرفت عنه وأوصلته يوماً إلى المحاكمة والمنفى لاقتلاعه عمود ساحة الفوج إبان حراك تمردي، كما أوصلته إلى الانخراط في كومونة باريس وفي الجناح الأكثر فوضوية وعنفاً بين أجنحتها.
البحث عن حزن جماعي
من ناحيتها تعتبر لوحة "دفن في أورنان" والتي ينظر إليها عادة على أنها من أضخم مقتنيات متحف الأورساي الباريسي (668 سم عرضاً و315 ارتفاعاً)، العمل الفني الذي في رأي نقاد ذلك الزمن من الذين رحبوا بوجودها في صالون العام 1850 "اللوحة التي أعلنت نهاية الرسم الرومانطيقي معيدة إلى الواجهة فناً واقعياً وولادة فن وجد من أجل الشعب"؛ حتى وإن كان بعض النقاد المدافعين عن الرومانطيقية قد رأوا فيها "قمة الابتذال والقبح". غير أن اللافت فيها، وهو أمر لاحظه مشاهدوها على الفور، كان أن كوربيه جعل أولئك الرجال والنساء الذين رسمهم، مساوين في قاماتهم لقامات المشاهدين بل جعلهم ينظرون إلى هؤلاء بتحد حزين يتساءل عما إذا لم يتأثر هؤلاء بما هم عليه من حزن. بالتالي نحن هنا لسنا أمام الموت نفسه بل أمام ما هو أكثر قسوة، أمام ما يفعله الموت بالأحياء. وهؤلاء الأحياء حتى وإن رسمهم كوربيه بصورة عشوائية من دون أي ترتيب مسرحي مسبق بالنظر أنه لا يمكنك أن تطلب من مجموعة من أقارب وأصدقاء ميت أن ينظموا صفوفهم، فإن واقعيته عرفت كيف تحول تلك العشوائية إلى تعبير عن الحزن والموت معاً. غير أن ثمة من النقاد المقربين من كوربيه، كالكاتب ثيوفيل غوتييه مثلاً اتهموه بأنه قد "بالغ في إسباغ البعد الفردي على حزن هؤلاء المشاركين في الدفن"، ولسوف يقول البعض الآخر على أية حال أن كوربيه قد وفق إلى حد كبير في تصوير حزن كل فرد من هؤلاء الأفراد وكأنه حزنه الخاص.
عروس أم ميتة؟
مهما يكن من أمر لا بد من التأكيد هنا على أن حظ اللوحة الثانية "زينة الميتة" مع النقاد سيكون أفضل في العام التالي. ومع هذا لم يخل الأمر من سوء تفاهم طاول هذه اللوحة وهو سوء تفاهم في منتهى الغرابة. ففي البداية توافق النقاد والمؤرخون على أن عنوان هذه اللوحة إنما هو "زينة العروس" مع أن بعضهم تساءل في الوقت نفسه باستغراب شديد: ...ولكن لماذا تبدو هذه العروس هالكة هنا غير مرتاحة بل مترنحة في جلستها وربما شاحبة بينما لا يظهر أي قدر من الفرح والسعادة على وجوه المحيطين بها؟. غير أن كل هذا التساؤل قد توقف حين أصدرت الباحثة الفرنسية هيلين توسان دراسة اعتبرت عميقة في وقتها تحدثت فيه عن العادات الجنائزية في منطقة فرانش – كونتيه الفرنسية، واصفة الأسلوب الذي يتم به غسل الميتة وتزيينها استعداداً لدفنها بفقرات وعبارات بدت متطابقة تماماً مع ما تصوره هذه اللوحة الضخمة بدورها إذ يبلغ ارتفاعها 188 سم مقابل 251 سم عرضاً. وإذ استشهدت الباحثة في سياق الدراسة بهذه اللوحة، تنبه النقاد إلى واقع كان من أمره أنه أجاب بشكل لا يقبل أدنى التباس على كل تلك الأسئلة المحيرة التي كانوا يطرحونها على اللوحة. فما الذي جاء على مثل هذا الوضوح في دراسة توسان؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقاليد جنائزية
بكل بساطة قالت الباحثة إن "من العادات والتقاليد المرتبطة بالموت في تلك المنطقة الفرنسية أن رفيقات الميتة وقريباتها يجتمعن من حول جثمانها بعدما يجلسنها كالعروس ويلبسنها ثياباً بيضاء قد تكون ثياب عرسها إن كانت متزوجة، ويتوجنها بالزهور ومن ثم يأكلن في حضرتها شطائر معدة لتلك الغاية وكأنها تأكل منها معهن"... ولئن كانت الباحثة قد تحدثت عن أن الحزن يبقى حاضراً في نظرات المحيطات بالراحلة وجلساتهن فإن من المحظر عليهن أن يبكينها لأن البكاء في مثل تلك الحالة سيعتبر إهانة لذكراها، بل حتى في التقاليد الأكثر قدماً "فضحا أمامها لكونها ميتة هي التي يجب أن يتم كل شيء في حضرتها وكأنها لا تزال حية". وكما أشرنا من الواضح أن هذا الكلام ينطبق تماماً على ما في هذه اللوحة إن تفرسنا فيها بشكل معمق. ولكن في المقابل يبقى أن أحداً لم يتمكن حتى الآن من الإجابة على سؤال آخر يتعلق بهذه اللوحة المعلقة اليوم في متحف سميث كولدج للفن في نورثهامبتون هو التالي: ترى هل رسم كوربيه هذه اللوحة انطلاقاً من مشهد واقعي عايشه ونقله عن الحياة الواقعية أم تراه رسمه إنطلاقاً مما كان قد بقي في ذاكرته مما شاهده حين كان في الخامسة عشر وشهد بنفسه تلك الاحتفالات الجنائزية التقليدية لمناسبة موت أخته؟ وفي الحالتين ثمة ما يؤكد أن كوربيه قد أعاد إنتاج هذا المشهد في محترفه الخاص في مطلق الأحوال على عكس ما فعل بالنسبة إلى لوحة "الدفن" التي يفترض أنه كان حاضراً في الجنازة ورسم بضعة اسكتشات ميدانية ستكون هي ما ساعده على إنجاز اللوحة لاحقاً؛ علماً أن الرسام قد علق على اللوحتين في رسالة بعث بها إلى صديق له يقول فيها: "نحن حين نحزن أمام الموت فإننا إنما نحزن على أنفسنا أكثر مما نحزن على الميتين!"