ليس تغييراً كبيراً ما خرج من صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية اللبنانية، لكنه مهم جداً كخط على الأرض رسم نهاية وبداية وعودة؛ نهاية لكابوس هو تخطيط "حزب الله" المسلح والمستعد لاستخدام فائض القوة لديه من أجل إنضاج الظروف وتحضير كل العوامل المساعدة، لقطع لبنان عن محيطه العربي وفلكه الغربي، وأخذه نهائياً ورسمياً إلى "محور الممانعة" بقيادة إيران المحكومة بولاية الفقيه. وبداية جديدة لحلم كسرته المافيا الحاكمة والمتحكمة وهو بناء دولة تستحق اسمها، لا مجرد سلطة. وعودة إلى الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليين مع الحفاظ على الهوية والسيادة والسياسة بمعناها الأصلي وهو "فن إدارة شؤون الناس".
مفهوم أن الوضع في "جهنم" التي دفعتنا إليها الأكثرية الحاكمة والفاسدة والمحمية بقوة السلاح كان يمكن أن يصبح أسوأ. لكن التغيير كان يمكن أن يكون أفضل وأكبر، فالانتفاضة الشعبية الواسعة التي بدأت في خريف عام 2019، وتبارى أعضاء "نادي الأقوياء" في الضغط عليها واستخدام العنف والتفخيخ، لم تمت، وإن انطفأت، بل تركت بذوراً في الأرض. والأرض خصبة زادها خصوبة قهر الناس وإذلالها والمغامرة بودائعها في المصارف ودفعها إلى الهجرة. لكن قوى التغيير من المجتمع المدني تنافست بين بعضها بعضاً بدل أن تخوض الانتخابات بلوائح موحدة، بحيث لم تفز إلا بعدد محدود من المقاعد النيابية. وعلى العكس، فإن قوى "الستاتيكو" المتخاصمة جمعها "حزب الله" في لوائح موحدة، بحيث جاءت خسارتها أقل مما يجب، بعدما كانت تتوقع أن يكون فوزها أكبر من المتوقع، بل إن "الثنائي الشيعي" مارس أسلوب التنظيم الحديدي وتصرف على طريقة الأنظمة الشمولية؛ ممنوع أن يفوز أي شيعي خارج الثنائي بأي واحد من المقاعد الـ27 المخصصة للمذهب الشيعي حسب النظام التمثيلي. ومطلوب لتجميل الهيمنة أن تكون للثنائي الشيعي حصص في الطوائف الأخرى. و"أمر اليوم" لدى "حزب الله" هو فعل المستحيل للحد من خسارة حليفه "التيار الوطني الحر" وفعل ما هو أكثر من المستحيل للحد من فوز حزب "القوات اللبنانية" بزعامة سمير جعجع وحليفه الحزب "التقدمي الاشتراكي" بزعامة وليد جنبلاط. لكن جهوده فشلت على الرغم من الضغوط الهائلة وإجبار مرشحين شيعة على الانسحاب من التحالف مع "القوات اللبنانية"؛ إذ تمكن مرشح القوات أنطوان حبشي من خرق لائحة الثنائي في دائرة "بعلبك-الهرمل" ذات الأكثرية الشيعية الساحقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أيام كانت الأرجحية في السلطة للمارونية السياسية، كان معارضوها يصفون سياستها بأنها القول لبقية اللبنانيين؛ "ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم". وفي أيام الأرجحية للشيعية السياسية، صارت المعادلة؛ "ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم، ثم لنا في مرحلة مقبلة". حتى قرار الرئيس سعد الحريري بالعزوف عن الترشح ومقاطعة الانتخابات، فإنه قدم، ولو من دون قصد، هدية للثنائي الشيعي. لكن الطائفة السنية حافظت على قرارها وذهبت إلى الاقتراع بنسبة مقبولة بالمقاييس الانتخابية اللبنانية.
والتحدي الآن هو القدرة على ترتيب الوضع السياسي الداخلي وتفعيل العلاقات اللبنانية العربية والدولية، لبدء الخروج من هاوية الأزمات المالية والاقتصادية التي وقع فيها لبنان واللبنانيون. ولا قيمة لأي تغيير من دون الخروج من الهاوية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي كبداية لمسار التعافي الذي يساعد الأشقاء العرب والأصدقاء الدوليون في نجاحه. والوقت حان للخروج من الوهم الذي اسمه "التوجه شرقاً". إلى أين؟ إلى المزيد من البؤس.