أمس، افتتح فيلم "اقطعوا!" للمخرج الفرنسي ميشال أزانافيسيوس الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان "كان" السينمائي (17 - 28 مايو - أيار). فيلم في منتهى الغرابة (ليس بالمعنى الإيجابي) لا يمكن القول اننا كنا ننتظره على أحر من الجمر. لا إعلانه التجاري ولا الفيلم الأصلي الياباني الذي اقتبس منه، من الأمور التي تحث على الحماسة والانتظار. ثم ان مهرجان "كان" لم يحسن دائماً اختيار أفلام الافتتاح. فهناك كوارث عرضت في بداية حفلة السينما الأشهر. لا يزال في الذاكرة القريبة البعيدة، الاستقبال السيء الذي حصل عليه "شيفرة دافينتشي" خلال العرض الصحافي الذي تكلل بالضحك والسخرية والاستهزاء. أزانافيسيوس كان توقع شيئاً مشابهاً لفيلمه. قال في مقابلة مع "إيندي واير" إنه لن يتفاجأ إذا سمع صفارات استهجان من بعض الناس بعد عشرين دقيقة فقط من بداية الفيلم، لا بل سيشعر بسعادة كبيرة إذا حدث ذلك. يعلم المخرج أنه يأتي إلى "كان" بعمل لا يرضي أذواق الكثيرين السينمائية، وهذا يعفيه من توقعات كبيرة.
"اقطعوا!" هو في الأساس اقتباس لفيلم ياباني "وان كات أوف ذا ديد" لشينيشيرو أودا الذي أنجز قبل خمسة أعوام ولفت بعض الأنظار في أوساط محبي أفلام الزومبي الهزلية، وحقق إيرادات بلغت الـ31 مليون دولار عالمياً، بالرغم من موازنته الضئيلة. "وان كات أوف ذا ديد" يصوّر ببساطة ما يحل بأفراد فريق تصوير فيلم مصاصي دماء عندما يهاجمهم مصاصو دماء حقيقيون بعد أن ينتهك الفريق أحد المحرمات الاسطورية الذي يهمين على المكان (كليشيه المكان المسكون والأراوح المتعطشة للإنتقام السائد في هذا النوع من الأفلام). هذا التداخل بين الحقيقة والخيال هو ما يجعل الفيلم كوميدياً بالرغم من المفترض أن يتعامل مع الرعب والخوف ويبث الخوف باعتبار أن القصّة برمتها عن مصاصي دماء. لكن بالاضافة إلى صناعة الضحك، الفيلم مهتم بإظهار الشيء وشرحه، وتصوير المسرح وكواليسه، إلى ما لا نهاية، بحيث لا يعود الفصل بين هذا وذاك ممكناً.
في مكان مهجور
على غرار النسخة اليابانية، يبدأ "اقطعوا!" في مكان مهجور من مخلفات الحرب العالمية الثانية (على ما يتردد)، وبلقطة طويلة واحدة (32 دقيقة) لناس يصوّرون فيلم زومبي آخر. هناك المخرج المستبد الذي يريد شيئاً لا يستطيع الحصول عليه، وهناك الممثّلون اللا مبالون وطاقم العمل الغائب تماماً عن السمع. الكاميرا تهتز والأداء فاشل والقصة تافهة، لكن هذا كله متعمد، ذلك ان الفيلم يقصد الحديث عن السينما الهابطة وما يُعرف بالفيلم الـ"ب" (أفلام الدرجة الثانية) وتوجيه تحية كوميدية لهما، ورد الاعتبار بطريقة خاصة جداً إلى العاملين في السينما من تقنيين، وصولاً إلى المخرج الذي يحاول الحفاظ على نزاهته، رغم كل شيء يمر به. خلف السخرية التي يطمح اليها، هناك رغبة في إلقاء تحية على صنّاع السينما، خصوصاً أولئك الذين لن يصبحوا يوماً أسماء وقامات كبيرة في مجال الفن السابع، بل يولدون ويموتون من دون أن يعرفهم أحد.
لكن المشكلة عندما تنتقل النيات الحسنة إلى التنفيذ. فكل شيء في هذا الفصل الأول من الفيلم يوحي بأننا أمام عمل هواة وأمام نحو ساعتين من الصراخ المتواصل، حيث المممثّلون سيركضون بعضهم خلف بعضهم. الافتعال سيد الموقف، ولكنه افتعال مقصود يهدف به أزانافيسيوس إلى اسقاطات هو وحده يفهمها. ومن الواضح أنه هو وحده يستمتع بها، لأن مشاهدة الفيلم طوال هذه المدة بتكراره ودورانه في الفراغ، جلسة عذاب. لا يمكن الشروع في التفاصيل ذلك أن هذا الفعل قد يفسد بعض المفاجآت التي يوفرها الفيلم، خصوصاً أن المشاهد الأولى ستُعاد وتُشرح في نهاية الفيلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهدف من هذا الفيلم هو تخريبي. أزانافيسيوس يقول لنا انه قادر على الاتيان بفيلم فوضوي لا معنى له إلى "كان"، ويتسلق أدراج القصر بعمل لا يقيم أي وزن للذوق العام. ثم هناك هاجس السينما الذي يلازمه منذ فترة طويلة. العودة إلى بعض أفلامه ضرورية لفهمه. لا يمكن فصل خلفيته الثقافية وحقيبته السينمائية عن أي فيلم يقدم على إخراجه، لذلك يمكن اعتباره سينمائياً مؤلفاً وإن تشبع بأساليب السينما التجارية. مجمل عمله يدور حول السينما والرغبة في الحديث عنها أو محاكاتها. الموضوع الأساسي لسينماه هو السينما نفسها. فهو بدأ حياته المهنية مع سلسلة "أو أس أس"، وهي باروديا لأفلام التجسس.
ذاع صيته العام 2011 عندما أخرج فيلمه الشهير "الفنّان" بالأسود والأبيض، فنال عنه جائزة "أوسكار” أفضل فيلم في العام التالي، مخولاً لبطله جان دوجاردان الفوز بـ”أوسكار" أفضل ممثل. مجموع الجوائز التي أُسندت إليه عن هذا الفيلم وصل إلى المئة. "الفنان" كان عن حكاية هذا الذي يدعى جورج فالنتاين، ممثّل سينما صامتة يقع في النسيان مع وصول السينما الناطقة. وها نحن نرحل مجدداً في واحدة من أبعد الرحلات عبر تاريخ السينما، يتخللها صعود وهبوط، عظمة وانحطاط، أمل ويأس. هكذا كانت السينما في زمن البراءة، حلمٌ قابل للتصديق، يهز وجدان الجالسين في صالة مظلمة. ثم في "الرهيب" (2017)، عاد أزانافيسيوس إلى هوايته المفضلة: الضرب على رأس السينما، هذه المرة من خلال جان لوك غودار، وكانت المقاربة ساخرة إلى حد كبير، طرح فيها غودار كشخصية سجالية، جدالاته البيزنطية التي تتخطى السينما، ذلك أن ارتباطاته السياسية والعقائدية كانت دائماً محل خلاف حتى مع أقرب المقربين له.
لا شيء من هذه الطبقات المتعددة في فيلمه الجديد الذي يبدو فارغاً. ليس هناك سينما صامتة أو ناطقة أو غودارية. فهو قرر التعامل مع سينما مصاصي الدماء، ليدخل نتيجة ذلك إلى دائرة مغقلة، بحيث أن عدداً محدوداً من الناس يهتمون بهذا الـ"جانر" الدموي. حتى جيم جارموش أضاع طريقه عندما تناول مصاصي الدماء في فيلمه الأخير "الميت لا يموت" الذي افتتح "كان" قبل 3 سنوات. فهذا النوع مهما كان كاريكاتورياً وساخراً الا ان تأثيره محدود. وليس كل من أراد ان يكون جورج روميرو سينجح في ذلك. بعد أعمال أكثر طموحاً في الماضي، "اقطعوا!" هو فيلم لمخرج قرر التضييق على نفسه. ولا عجب إن خطر له هذا المشروع خلال الحجر الصحي، بعدما اكتشف النسخة الأصلية وقرر إعادتها كي يضع عليها هواجسه، ومنها الصراع الذي يعيشه أي مخرج، لحظة ترجحه بين القيود الانتاجية التي يعاني منها ورغبته في التعبير الفني. أقل ما يمكن القول إنه لم يكن موفقاً في خياراته. الفيلم لا يليق لا ب"كان" ولا بتاريخه المجيد، وهو حتماً ليس عملاً يستحق أن تنطلق به دورة تعدنا بالكثير من الأعمال السينمائية الكبيرة وبالعودة إلى الحياة الطبيعية.