التاريخ الحديث والقديم عامر بشخصيات رحلت قبل عشرات أو مئات السنوات، لكنهم أحياء يعيشون معنا وبيننا، قد ندرسهم في الكتب أو نقتدي بهم في الخطب أو نلعن اليوم الذي ولدوا فيه، نحكي عنهم حكايات ونتمنى لو عاصرناهم لنستمتع بحياتهم وننهل من أفعالهم العظيمة، أو نمتن بأنهم رحلوا عن دنيانا ولم نتكبد عناء معاصرة سيرتهم العطنة.
أخيار وأشرار
وسواء كانوا أخياراً أم أشراراً، عظماء بأفعالهم أو بارزون بمصائبهم، فإنهم يبقون حاضرين في الذاكرة، يفرضون أنفسهم بين وقت وآخر بحسب ما تقتضي الأحداث وتستحضره الأذهان وتفرضه المجريات.
مجريات حرب روسيا في أوكرانيا آخذة في استحضار الزعيم النازي أدولف هتلر، تارة على سبيل الوصم وأخرى من باب الوصف، وثالثة للاستفادة بخبراته والمحطات التي اجتازها في حياته، وغيرها كثير، لكن يبقى هتلر الحاضر الغائب في هذه الحرب الدائرة رحاها.
في مطلع الشهر الحالي فاجأ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف العالم بقوله، ضمن حديث أدلى به للبرنامج التلفزيوني الإيطالي "زونا بيانكا"، إن لأدولف هتلر "جذوراً يهودية"، وذلك رداً على سؤال حول ادعاء روسيا أنها تقاتل من أجل "اجتثاث النازية" في أوكرانيا، على الرغم من أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يهودي!
يهودية زيلينسكي
يهودية زيلينسكي ونازية فرقة "آزوف" الأوكرانية والتلويح بالأصول اليهودية لهتلر وغضب إسرائيل واعتذار روسيا وهلع الغرب واستدعاء ذكرى الـ"هولوكوست" ومعاودة بزوغ نجم جماعات من النازيين الجدد وظهورهم في دول غربية عدة، جميعها يستدعي هتلر.
هتلر الذي رفض أبوه اهتمامه وولعه بالفنون والعمارة وقتما كانوا في النمسا حيث ولد، وتحول لاعتناق مفاهيم القومية الألمانية رافضاً الوصاية النمساوية، يجد نفسه بعد مرور 77 عاماً على انتحاره مثار اتهامات واتهامات مضادة، ومادة للشد الأممي والجذب بين معسكرين كليهما يفترض أن يكون واقفاً على الجبهة المضادة لهتلر وأفعاله وأقواله.
قول لافروف في حديثه الإعلامي بأن يهودية رئيس أوكرانيا زيلينسكي لا تنفي وجود عناصر نازية في أوكرانيا، وأن لهتلر دماء يهودية دفع بالزعيم النازي إلى حلبة الصراع المتأججة حالياً.
هل يتشابه بوتين مع هتلر؟
موسوعة "بريتانيكا" تقول إن هناك إجماعاً عاماً على أهمية هتلر التاريخية، وهو مصطلح لا يعني بالضرورة حكماً إيجابياً، فهتلر يتحمل جانباً من مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهي مسؤولية تقول الموسوعة إنها تختلف عن المسؤوليات المختلفة للحكام والزعماء الذين أطلقوا العنان للحرب العالمية الأولى، كما يتحمل جريمة الـ "هولوكوست" التي حولت سياسة ألمانية من طرد اليهود إلى إبادتهم، بما في ذلك يهود أوروبا ويهود الجزء الأوروبي من روسيا.
الحرب الدائرة رحاها حالياً ليست عتاداً ورجالاً ونساء وقتالاً فقط، لكنها أيضاً تستدعي الإثنيات والأعراق ومفاهيم تتصل بالعنصرية، إذ اعتمد هتلر في مسيرته السياسية والعسكرية والعدائية بشكل واضح وكبير على مبادئ التمييز العرقي، وآمن بوجوب استعباد العرق الآري (الألمان) بقية الأعراق التي هي بالضرورة، بحسب ما آمن به، أقل شأناً وأحط قدراً.
واعتبر هتلر "السلاف" (الروس والأوكرانيين والبيلاروس والبولنديين والتشيك وغيرهم) أعراقاً دونية قبيحة ينبغي للآريين استعبادهم.
وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يعلن، وعلى الأرجح لا يهدف، إلى استعباد الأوكرانيين أو غيرهم، إلا أن دوائر غربية عدة وجدت في بوتين وهتلر العديد من أوجه الشبه، فإضافة إلى تشبيه ما قام به بوتين بحشد قوى عسكرية هائلة وإسكاته للمعارضة في بلده وتغييب أية أجهزة أو أدوات رقابية على نظام حكمه وإغارته على دول أخرى، واعتبارها إما جزءاً من أراضي روسيا أو حقاً مكتسباً له، بما فعله هتلر، فإن كليهما يتسم برباطة جأش وقدرة مذهلة على التخطيط والحسابات التي لا تلقي بالاً إلى معايير أو قيم أو معاني الإنسانية وقدسية الحياة البشرية، كما أن كليهما يعتمد نهج الأخبار الكاذبة والـ "بروباغاندا" المضللة والكلمات والعبارات والمبررات الملتوية، وذلك بحسب ما تشير إليه تحليلات غربية عدة.
تهمة التشابه مع هتلر والسير على نهجه والتقارب مع فكره كرة ملقاة في الملعب، تارة تسجل هدفاً في ملعب روسيا وأخرى تسجله في ملعب الغرب، وقبل أسابيع قال الأمين العام لمجلس الأمن الروسي نيقولاي باتروشيف إن الغرب يدعم نشاط النازيين الجدد الأوكرانيين بالطريقة نفسها التي كان يغذي بها هتلر في السابق، مضيفاً أن الغرب في ثلاثينيات القرن الماضي أسهم بشكل فعال في تشكيل الفاشية في ألمانيا ونموها، واعتبر أن "التاريخ يعيد نفسه الآن"، مشيراً إلى تقديم الغرب الدعم لـ "النازيين الجدد" في أوكرانيا.
النازيون الجدد
"النازيون الجدد" في أوكرانيا، بحسب توصيفهم من قبل روسيا، يتمثلون في كتيبة "آزوف" التي نالت شهرة واسعة أخيراً بعد حصارها من قبل القوات الروسية في مصنع آزوفستال للصلب بماريوبول، وأسسها ناشطون يمنيون متطرفون عام 2014 لمواجهة الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
وفي ذلك الوقت كان هناك العديد من الميليشيات التي تأسست من أجل صد الهجمات الروسية على أوكرانيا.
لكن وبحسب تحقيق منشور في مجلة "تايم" تحت عنوان "لايك (إعجاب) شير (شارك)، فند كيف تستخدم ميليشيات متطرفة بيضاء "فيسبوك" لنشر الراديكالية وتدريب أعضاء جدد"، فإن "آزوف" أكثر من مجرد ميليشيات، فلها حزب سياسي خاص بها ودارا نشر ومخيمات صيفية للأطفال وقوة أهلية تعرف بـ "الميليشيات الوطنية".
هذه الميليشيات تقوم بدوريات في شوارع المدن الأوكرانية جنباً إلى جنب مع الشرطة"، وأشارت "تايم" إلى أنه عكس نظيراتها الأيديولوجية في أميركا وأوروبا، فإن لديها كذلك جناحاً عسكرياً فيه قاعدتا تدريب على الأقل وترسانة ضخمة من الأسلحة والطائرات من دون طيار وعربات مدرعة وقطع مدفعية.
مقالة "تايم" نشرت عام 2014 قبل أن يجري مزج أو يتم التغاضي عن خليط الوطنية بالنازية لدوافع الحرب ودواعي غض الطرف عن أمارات النازية وعلاماتها، ويشار إلى أن أعضاء "آزوف" يرتدون علامة "خطاف الذئب" وهو الرمز المرتبط بألمانيا النازية والذي انتقل للنازيين الجدد.
يشار كذلك إلى أن دولاً عدة وعلى رأسها ألمانيا، تجرم تداول أو نشر أو طبع أو بث علامات أو رموز أو أغنيات ذات صلة بالمنظمات المعادية للدساتير والقوانين، وعلى رأسها النازية.
اشتراكية قومية بتصرف
النازية تعني الاشتراكية القومية، لكن بتصرف، فالاشتراكية القومية في الأساس قائمة على الفكر الماركسي اللينيني القائم على مبادئ الشيوعية، والغريب أن كثيرين يعتقدون أن الشيوعية والنازية يقفان على طرفي نقيض، فمن يتخيل أن هتلر ممكن أن تكون أهواؤه شيوعية؟ أو أن الشيوعية فيها ما يتطابق وفكر هتلر؟ فالواقع يقول إن هاتين الفلسفتين السياسيتين يجمع بينهما نهم السلطة والقوة والميل للشمولية، واعتناق الأفكار الراديكالية حتى وإن كانتا تقفان على طرفي نقيض من حيث التوجه، وكلتاهما صنعت تاريخاً حافلاً بالأحداث والإمبراطوريات العظيمة والحروب الكبرى، وكلتاهما كانت حتى وقت قريب مضى في أرشيف التاريخ إلى أن عادت "النازية" تطل برأسها مستدعية معها هتلر في الحرب الحالية والكفاح ضدها أو من أجلها.
كتاب "كفاحي" هو جسم الجريمة الذي قالت القوات الروسية قبل أيام إنها عثرت على نسخ منه في قاعدة كانت تستخدمها قوات "كتيبة آزوف" في مدينة ماريوبول، وهو الكتاب الذي ألفه هتلر ويحوي سرداً مطولاً لحياته والقواعد الأيديولوجية للفكر النازي، كما أنه أحد أكثر الكتب شهرة في التاريخ وأكثرها طباعة وتحميلاً في السر، وقراءة من قبل كل الأطراف الكارهة والمحبة والمعادية والصديقة لأفكار هتلر وأفعاله، ويشار إلى أنه على قائمة تحوي أكثر 10 كتب ممنوعة ومتداولة في العالم، ويشار كذلك إلى أنه على الرغم من إمكان إعادة نشر الكتاب مع انتهاء حقوق التأليف الخاصة به وانتقالها من حكومة مقاطعة بافاريا منذ العام 1945 حين احتفظت بها منذ تسلمته من القوات الأميركية إلى الملكية العامة، طبقاً للقانون الألماني، إلا أن الكتاب يظل محظوراً بشكل أو بآخر، وتصنفه روسيا باعتباره "كتاباً يحوي مادة متطرفة".
التطرف في التراشق بتهمة الانتماء لفكر هتلر أو وصم الآخرين عبر ربطهم به أو بأفكاره أو بدمائه أو بمعتقده ينقل البشرية وحدود عداواتها إلى مستوى جديد تماماً، فحديث لافروف عن دم يهودي محتمل لهتلر ليس مجرد ترجيح لأصول أو تأريخاً لجذور، بل هو جزء لا يتجزأ من الصراع ومحاولة كل طرف وصم الآخر على حساب هتلر.
دماء هتلر "اليهودية"
دماء هتلر اليهودية التي رجحها وزير الخارجية الروسي أشعلت الأجواء، لا سيما في إسرائيل، فوزارة الخارجية الإسرائيلية استدعت السفير الروسي وطالبت باعتذار رسمي، معتبرة ما قيل "مغالطة لا تغتفر".
رئيس الوزراء الروسي نفتالي بينيت قال إن "مثل هذه الأكاذيب تهدف إلى اتهام اليهود أنفسهم بأبشع جرائم التاريخ التي ارتُكبت ضدهم، وأن استغلال محارق النازي ضد الشعب اليهودي لأغراض سياسية يجب أن يتوقف فوراً".
لكن توقف طرح هتلر نفسه على الساحة أمر غير وارد حالياً، فبعدها بأيام أعلنت إسرائيل أن بوتين اعتذر مما قاله وزير خارجيته في شأن "دماء هتلر اليهودية"، لكن روسيا لم تتطرق رسمياً إلى أي اعتذار، والمثير أن مقالة رأي نشرت على موقع "روسيا 24" بعد يومين من حديث الاعتذار بعنوان "بوتين لا يعتذر" وأن لافروف لم يخطئ، حيث "دماء هتلر اليهودية محل بحث وجدل بين مؤيد ومعارض، وبين ابتزاز سياسي لهتلر في عشرينيات القرن الماضي أشعله خصومه السياسيون، ثم تعززت الرواية بوصوله إلى السلطة عام 1933، وبين مذكرات هانز فرانك الذي كان برتبة حاكم في الحزب النازي ولقب بـ "جلاد بولندا" وحملت عنوان "مواجهة المشنقة" والمنشورة عام 1953.
وكتب فرانك في مذكراته أن الزعيم النازي هتلر استدعاه، وأنه كان يعتبر نفسه ضحية ابتزاز بغيض على يد قريب له وذلك لوجود "دم يهودي يسري في عروقه"، وأن هتلر طلب منه أن يحقق في أصوله سراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير فرانك إلى أنه اكتشف أن جدة هتلر آنا شيكلغروبر أنجبت ولداً اسمه ألويس وقت كانت تعمل طاهية لدى عائلة يهودية اسمها فراكنبرغر في مدينة غراتس النمساوية.
وتمضي قصة فرانك لتشير إلى أن رب العمل كان يدفع مبالغ مالية لجدة هتلر سماها "نفقة غذائية" إلى أن بلغ الصغير سن 14 عاماً، لكن قصة أخرى وردت في المذكرات أيضاً تشير إلى أن الأم وزوجها المستقبلي يوهان هيدلر أقنعا رب العمل بأنه الأب ليحصلا منه على المال كاختيار مدروس منهما.
حمض نووي وصور غير مؤكدة
في العام 2010 اختارت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن تنشر خبراً مفاده أن صحافياً أجرى اختباراً علمياً قائماً على اختبارات الحمض النووي وخرج منه بنتيجة مفادها أنه من المحتمل أن الزعيم النازي أدولف هتلر كان لديه أسلاف يهود وأفارقة، وذلك بناء على عينات مأخوذة من أقارب له، ووقتها لم تقم الدنيا في إسرائيل أو غيرها جراء نتيجة الاختبار "غير الموثقة"، ومرت كما يمر غيرها من الأخبار المثيرة والصور الغريبة.
صور غريبة مأخوذة من مواقع غير محددة ومقاطع فيديو غير موثقة وتغريدات وتدوينات غير مؤكدة أشارت يوم 20 أبريل (نيسان) الماضي الذي وافق ذكرى ميلاد هتلر الـ 133 إلى احتفالات أقامها بعضهم بهذه المناسبة. أطفال أوكرانيون يحتفلون في مدرسة، وجنود روس يحتفون بعيد ميلاد "الرفيق والصديق" هتلر، معتبرين إياه نموذجاً يحتذى في الإصرار على تحرير كل شبر من أرض بلاده وغيرها، غزت منصات التواصل الاجتماعي على مدى أسابيع وعلى وقع الحرب الدائرة.
المؤكد أن تلك الحرب الدائرة تصر على إبقاء أدولف هتلر حياً يرزق وتراشقاً متبادلاً ووصمة تلحق بالجميع، مرة بإطلاقها وأخرى بتلقيها، والغريب والمثير والطريف أن عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأميركي هو فرانك نايسلي كان يناقش مشروع قانون يفرض عقوبات جنائية على أولئك الذين يقيمون في الممتلكات العامة قبل أيام، فما كان منه إلا أن طالب المشردين "الاقتداء بهتلر الذي قرر عام 1910 أن يعيش في الشوارع بعض الوقت"، مشيراً إلى أن هتلر "عاش في الشوارع ومارس خطابه ولغة جسده وكيفية التواصل مع الجماهير، ثم واصل حياته بعد ذلك، وهي الحياة التي أدخلته التاريخ".