شكّلت التغريدة التي أطلقتها خبيرة العمارة والفن البريطانية ديانا دارك، غداة احتراق كاتدرائية نوتردام الفرنسية الشهيرة في 15 أبريل (نيسان) 2019 وما أثارته من ردود فعل، الشرارة التي حدت بها إلى وضع كتابها المتعلّق بالعمارة الشرقَوَسطية، المسيحية والإسلامية، موضع التنفيذ. ذلك أنها ما أن أطلقت تغريدتها التي تشير فيها إلى استلهام الكاتدرائية الفرنسية هندسة كنيسة "قلب لوزة" الكائنة في محافظة إدلب السورية، والعائدة إلى القرن الخامس الميلادي، عندما جلب الصليبيون أسلوب "البرجين المتماثلين على طرفي النافذة الوردية" إلى أوروبا في القرن الثاني عشر، حتى انهالت عليها عاصفة من ردود الفعل المستنكرة، فما كان منها إلاّ أن انتصرت للحقيقة التاريخية، وحوّلت المادة المعرفية المتراكمة لديها طيلة عقود أمضتها في استكشاف العمارة الشرقَ أوَسطية، إلى كتاب العمر بعنوان "السرقة من المسلمين (السّاراسِن)/ كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا"، وهو الصادر مؤخّراً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، في طبعة أنيقة فاخرة، بتعريب عامر شيخوني.
ديانا دارك خبيرة ثقافية في تاريخ العمارة وفنّها، دفعها اهتمامها بالحضارة الإنسانية المبكرة وأبنية العالم الأولى إلى دراسة اللغة العربية في جامعة أكسفورد، واقتفاء أثر المعالم العمرانية الدينية الشرقية لا سيما في سوريا التاريخية، طيلة عقود بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، ما تمخّض عنه هذا الكتاب. وهو تعبير عن اهتمام بعمارة الشرق الأوسط استغرق حياة كاملة أُتيح لها فيها استكشاف الكثير من النماذج العمرانية، راكمت فيها الكثير من الملاحظات، وعقدت الكثير من المقارنات، وخلصت إلى نتائج مهمة تنصف فيها العمارة العربية، الإسلامية / المسيحية، وتضعها في نصابها التاريخي. وهي أرادته "تصحيحاً ضرورياً مهماً" بعد عكوف الذهنية الأوروبية المعاصرة على داخلها، وعدائيتها القوية ضد المهاجرين الهاربين من بلدانهم، كما تشير في مقدمة الكتاب (ص 19). وبذلك، تنتصر دارك للحقيقة التاريخية على حساب الاعتبارات القومية، مما يجعل منها مؤّرخة فنية نزيهة. وانطلاقاً من هذه النزاهة، هي لا تهدف "أبداً إلى تشويه سمعة العمارة الأوروبية وإنجازاتها البراقة الكثيرة"، بل إلى "تبيان أن أحداً لا يستطيع إدعاء "ملكية" العمارة، مثلما لا يستطيع أحد ادّعاء "ملكية" العلم"، على حد تعبيرها (ص 529).
اعتراف مزدوج
ينطوي العنوان على اعتراف مزدوج بتأثير المسلمين في فن العمارة، من جهة، وتأثر الغربيين بهم، من جهة ثانية. وإذا كانت كلمة "الساراسن" (Saracen) الواردة فيه والمتحدّرة من مفردات "السرقة"، "السارقين"، "السرّاقين" العربية، قد سقطت من الاستعمال اللغوي اليومي هذه الأيام، وأطلقها الأوروبيون في العصور الوسطى على المسلمين نقداً لهم وتعبيراً عن اتهامهم بالسرقة، فإنّ كلمة "السرقة" الواردة في العنوان تشكّل اتهاماً صريحاً للأوروبيين بارتكاب هذا الفعل ممّن ينسبونه إليهم. وهو اتهام صادر عن باحثة أوروبية لم يمنعها اشتراكها معهم في القومية دون انتصارها للحقيقة التاريخية. على أن الكلمتين، الساقطة والباقية، تنطويان على معنى مجازي يتعلق بالتأثر والتأثير بين الحلقات المترابطة في سلسلة الحضارة الإنسانية.
ثمّة إجابة طويلة، تتوزّع على عشرة فصول وتمتد على خمسمائة وخمسين صفحة، على السؤال الذي يطرحه العنوان الفرعي "كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا؟". وهي ترصد العمارة الإسلامية/ المسيحية بدءاً من مرحلة ما قبل الإسلام، مروراً بالمراحل الإسلامية والأموية والعباسية والفاطمية والأندلسية، وصولاً إلى المرحلة العثمانية. وتفعل ذلك من خلال الاتكاء على آراء مختصين في العمارة من جهة، ومعاينة الآثار المعمارية بالعين المجردة خلال عقود أمضتها في سوريا التاريخية، من جهة ثانية. وتخلص من خلال القراءة والمعاينة إلى نتائج مهمة لخصتها التغريدة التي جعلتها ردود الفعل عليها تسارع إلى وضع مشروع كتابها موضع التنفيذ. وقد جاء فيها: "تصميم نوتردام المعماري، مثل جميع كاتدرائيات أوروبا، قد استلهم من كنيسة القرن الخامس "قلب لوزة" السورية عندما جلب الصليبيون أسلوب "البرجين المتماثلين على طرفي النافذة الوردية" إلى أوروبا في القرن الثاني عشر. وما زالت تلك الكنيسة قائمة في محافظة إدلب." (ص 14).
كريستوفر رن
هذا الاستلهام سبقها إليه السير كريستوفر رن أعظم مهندس معماري بريطاني منذ أكثر من ثلاثة قرون، بقوله: "من الأصح أن يُسمّى أسلوب العمارة القوطي بأنه أسلوب الساراسن الإسلامي" ( ص 16). وهو الذي "اعترف في مذكراته اثنتي عشرة مرة بدين الأوروبيين لما سمّاه هندسة "الساراسن" المعمارية. وفصّل نظرياته في العمارة في ما يعرف بالمسار الثاني في كتيّب التأبين البارنتاليا حيث يفسّر أن دراسته للكاتدرائيات القوطية الأوروبية قادته إلى الاعتقاد بأن العمارة القوطية كانت نمطاً اخترعه العرب، واستورده الصليبيون العائدون، ومن خلال اسبانيا المسلمة قبل ذلك"، على حد تعبير دارك (ص 57). ولكي تتأكد من صحة اعترافاته، تفرد له الفصل الأول من كتابها، وتدرس البيئة المعمارية التي عاش فيها، ما يكسب متّكأها المتانة والقوة. وترجح أن يكون لنشأته صبياًّ وحيداً في أسرة كبيرة لأبٍ من كبار الملكيين اهتم بتعليمه تعليماً شاملاً، ولنشأته شاباًّ في معهد وادام التابع لجامعة أكسفورد، الأثر في وضع نظريته عن استلهام الساراسن. وتخلص من هذه الدراسة إلى أنه كان "صاحب رؤية، عالماً وفيلسوفاً يتمتع بالقدرة على إدراك الصورة الشاملة" (ص 25)، وكان "صانعاً غريزياًّ للأفكار والتقنيات" (ص 26). وتذكر أن إنجازه الأهم يتمثل في بناء كاتدرائية سانت بول في قلب لندن، طيلة ستة وثلاثين عاماً، حرص خلالها على استشارة تجار ورجال أعمال إنكليز سافروا إلى آسيا الصغرى بشأن تقنيات بناء القباب وتغطيتها بالرصاص، ما يقدم دليلاً آخر على استلهامه العمارة الإسلامية في إنجازه. وتحدّد مواضع الاستلهام بالقول: "من الواضح أن رن قد استنتج أن طريقة "الساراسن" في تصميم السقف باستخدام شكل أنصاف الكرات هي الأكثر كفاءة والأخف وزناً بالاستناد إلأى فهمهم المتطور للهندسة المتعلقة بذلك. بالإضافة إلى أنه نسخ طريقتهم في القبة المضاعفة..." (ص 46).
زيارات ميدانية
وإذا كانت دارك تتكئ في الفصل الأول على ما كتبه رن في مذكراته لتضع نظريتها، فإنها تُفرد الفصول الأخرى من الكتاب لمصدر معرفي أكثر موثوقية يتمثّل في الزيارات الميدانية التي تقوم بها إلى المواقع العمرانية خلال عقود إقامتها في سورية التاريخية، وفي الزيارات السياحية لهذه المعالم في الأندلس وسواها من المناطق التي حكمها العرب عبر المراحل التاريخية المختلفة. وهي في هذه الزيارات تدرس المواقع المزارة، وتضعها في إطارها التاريخي، وتصف اقسامها، وتعقد المقارنات بينها وبين تلك الغربية، لتضع اليد على مكامن التأثير والتأثر. ونذكر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، قيامها بزيارة الكنائس العائدة للمسيحية الأولى في المدن الميتة في الشمال السوري، وتلمّس تأثيرها في العمارة الأوروبية الدينية، وقيامها بزيارة المدن القديمة في الجنوب السوري وفعل الشيء نفسه. وبذلك، لا يكون كلامها على التأثير الشرقي في العمارة الغربية مجرّد كلام يتكئ على ما قرأته المؤلفة بل يتعدّاه إلى المعاينة والخبرة الطويلة في تاريخ الفن والعمارة. وهي تخلص إلى أن العمارة السورية هي الحلقة المفقودة بين النماذج المعمارية القديمة لا سيما البيزنطية منها والنماذج القوطية الغربية.
سمات معمارية
في الفصل العاشر والأخير من كتابها، تذكر الكاتبة السمات المعمارية الإسلامية الشرقَوَسطية التي انتقلت إلى الغرب بوسائل مختلفة، وتركت تأثيرها في العمارة الغربية؛ بدءاً من البرجين التوأمين على جانبي المدخل المقنطر، مروراً بالحنية والمنور والمنصة والدير والقوس المفصّص والقوس المدبّب والثُّلَم وقوس حدوة الحصان وشبكات النوافذ الرخامية والمئذنة والبرج المدبّب والسقوف المضلّعة وتلك المتصالبة، وصولاً إلى الأروقة المعمّدة المزدوجة والقوس المسدود والنافذة الوردية والزجاج الملوّن وغيرها. وهي تحدّد المعلم العمراني التي شوهدت فيه كل من هذه السمات للمرة الأولى، ما يمنح الكتاب مصداقية تاريخية / فنية كبيرة، وتأتي عشرات الصور عالية الجودة للمعالم العمرانية وسماتها التي تزيّن بها الكتاب لتعزّز من هذه المصداقية المركّبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعلّ الدرس الأهم الذي يخرج به القارئ من "السرقة من المسلمين (الساراسن)" هو نسف المركزية الحضارية وما تستبطنه من استعلاء عنصري وإقصاء قومي؛ فالحضارة نتاجٌ إنساني عالمي تسهم فيه القوميات المختلفة عبر التاريخ، ولكل منها حلقتها الخاصة في سلسلة الحضارة الإنسانية، على أن هذه الحلقة لا تعني الصفاء الحضاري العرقي بل هي متأثرة بما سبقها ومؤثرة في ما يليها، ما يجعل الحضارة إرثا عالمياًّ مشتركاً يعصى على الحصر والاستحواذ.