فيما عبر الأخيرون الذين تم إجلاؤهم، وربما يكونون آخر من يجري إجلاؤه، من خرائب ماريوبول إلى الأمان النسبي في زابوريجيا التي لا تزال تحت سيطرة الأوكرانيين، كان هناك ضيق، وارتياح، ومرونة، بنسب متساوية تقريباً. كان لدى بعض الوافدين الجدد طاقة كافية ليرفعوا أيديهم بإشارة النصر ويصرخوا "سالفا أوكرايني" (المجد لأوكرانيا). بيد أن معظمهم كانوا هادئين. غلبت قلة منهم عواطفهم، وراحوا يتحدثون بأقل التفاصيل عن الجحيم الذي تركوه خلفهم.
تحدثوا عن أسابيع قضوها في الظلام الدامس، في متاهة الملاجئ الواقعة تحت مصنع آزوفستال الشاسع للفولاذ، وعن المجازفات المميتة بالصعود فوق الأرض حتى لدقائق قليلة نحو الضوء والهواء. كما تحدثوا عن أصدقاء وأقرباء غابوا إلى الأبد، وقد انتهت حياتهم، القصيرة أو الطويلة، كما يبدو بشكل عشوائي. وعندما تستمع إلى هذه الروايات البسيطة الواقعية، ليس بإمكانك إلا أن تتعجب من قبول المتحدثين الهادئ لما حصل، وتشعر بشيء من الامتنان لمجرد كونك على قيد الحياة.
لم يتحدثوا عن الأسوأ من ذلك، على الأغلب، وربما لن يتحدثوا عنه على الاطلاق. وبين أكثر سمات الحرب استثنائية هي الطريقة التي يبدو أن الكثير من الناس يستطيعون استجماع قواهم والمضي إلى الأمام، بمجرد انتهاء الفظائع، ومن دون أن يذكروا ما تعرضوا له من همجية وحرمان.
يبدو هذا صحيحاً اليوم كما كان في الماضي. فلم يتحدث غالبية أولئك الذين نجوا من معسكرات الموت النازية نهائياً عن تجاربهم، وينطبق الأمر نفسه على اليابانيين الذين كانوا يوماً أسرى حرب. خذ على سبيل المثال بريطانيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كم من الآباء كشفوا لأطفالهم على الإطلاق كيف كان الاحتشاد في دنكيرك [لقوات الحلفاء الذين تم إجلاؤهم بعدما حاصرهم الألمان] أو يوم النصر، أو عندما كانوا يتعرضون للقصف خلال الغارات الخاطفة؟
تمّ نقل والد زوجي ووالدته، كاثنين من عمال السخرة من أوكرانيا إلى ما هو اليوم جمهورية التشيك، وقد سردا أبسط الذكريات وأقلها وضوحاً عن رحلتهما عبر أوروبا كجزء من ذلك المد البشري الكبير المتجه غرباً فيما كانت الحرب العالمية الثانية تشارف على نهايتها. وبالنسبة إلى الظافرين، فإن حقائق تلك الحرب سرعان ما تم تخفيف قسوتها بشكل كبير من خلال حكايات بطولية وعن هزيمة الشر أمام الخير. يكفي القول إن والد زوجي كان ينام وبجوار سريره فأس إلى آخر أيام حياته، وحتى مع أنه كان ينعم بالأمان في الولايات المتحدة.
إن إرث الحرب معقد؛ وهي تعبر عن نفسها على نطاقات زمنية مختلفة ومستويات عديدة الوقت. وستبقى بعض عناصر ذلك التعقيد في أوكرانيا، حالما تنتهي الأعمال العدائية. وفي هذه الأثناء، يمكن العثور على مؤشرات إلى عدد من الأماكن الأخرى التي مرت بتجارب مشابهة لهذا النوع من الحرب التي تشهدها أوكرانيا اليوم.
وهناك سوابق كثيرة للاختيار منها، حتى وإن حصرتها جغرافياً بأوروبا وروسيا. يمكنك أن تبدأ في آرنم [هولندا] أو فردان [فرنسا] في الغرب، وأن تسافر حتى ستالينغراد (باتت حالياً فولغوغراد) في الشرق، متوقفاً في الطريق في بعض المدن نفسها في أوكرانيا التي هي موضع نزاع اليوم أو يمكن أن تصبح كذلك قريباً. ويمكنك عندها أن تضيف بعض المدن التي دمرتها صراعات أحدث، مثل ساراييفو في الدولة التي كانت تسمى يوغسلافيا، فيما تضع جانباً صراعات أخرى، من نوع ناغورنو قره باغ وترانسنيستريا، التي تعود إلى انهيار الاتحاد السوفياتي لكنها لا تزال من دون حل.
وكما قلت، إن هناك خيارات كثيرة، فالحرب للأسف، قد تركت بصماتها في أنحاء أوروبا كلها. لكن صدف أن حملتني أسفاري الأخيرة إلى مدينتين يبدو أن الحرب تحدد بشكل خاص هوية كل منهما في القرن الحادي والعشرين، وهما تمثلان جيداً بعض آثارها الدائمة. المدينة الأولى هي أراس في شمال فرنسا، أما الثانية فهي موستار الكائنة حالياً في دولة البوسنة والهرسك المستقلة.
ومن المؤكد أن الحربين كانتا مختلفتين تماماً من حيث أصلهما وزمن وقوعهما، غير أنهما كادتا تدمران كلتا المدينتين. وربما كان من المهم أو لا، أن كلتا المدينتين شأنهما شأن العديد من الأمكنة التي وجدت نفسها في قلب قتال شرس ومديد، تتوزع أجزاؤهما على جانبي نهر بمقدوره أن يوحد أو يقسم. والذي تشترك به المدينتان أيضاً يتمثل في إمكان محاكاة أوكرانيا في وقت وشيك عملية إعادة إعمارهما، وبقائهما حتى يومنا هذا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد مرّ أكثر من قرن حتى الآن على صمت المدافع في الحرب العالمية الأولى بعد الهدنة، التي تمت الموافقة عليها في منطقة على بعد ساعتين فقط عن أراس، في غابة كومبيين، ودخلت حيز التنفيذ في الساعة 11 من اليوم الـ 11 في الشهر الـ 11 من عام 1918. وأراس هي اليوم مدينة ذات سوق مزدهرة بكنائسها التاريخية وساحاتها الفلمنكية الكلاسيكية المكتملة بكل فخامة، وتبدو وكأن الصراع المسلح لم يمسسها. إلا أن ذلك قد يكون هو النقطة المهمة تقريباً.
إن وسط مدينة أراس سليم تماماً مثلما يبدو اليوم، ليس على الرغم من الحرب، لكن ربما بسببها، كما يمكنك أن تقول. مع انتهاء القتال، كان ما يقدّر بثلثي المدينة قد أصبح عبارة عن أنقاض. فقد دُمرت دار بلديتها الشهيرة وبرج الجرس فيها خلال الأشهر الأولى؛ كما دُمرت الكاتدرائية في العام التالي. وبين عام 1914، حين احتلها الألمان لوقت قصير، وحتى اندلاع المعارك الحاسمة في 1917، كانت أراس على بعد 10 كلم فقط من خط الجبهة الأول.
علاوة على ذلك، وبالتوازي المباشر مع ماريوبول، والملاجئ تحت الأرض في مصنع آزوف للفولاذ هناك، كانت الأقبية والأنفاق الواسعة (التي تعود إلى العصور الوسطى) تحت أراس هي التي ساعدت على إنقاذ المدينة، إذ سمحت لمعظم أوجه الحياة فوق الأرض بأن تنتقل إلى تحتها، ووفرت ملجأ للقوات البريطانية لكي تصمد في المدينة ضد الهجمات الألمانية خلال 1917.
بيد أن الذي حصل بعد ذلك هو ما يميز أراس اليوم. فمع نهاية الحرب، مضت تعيد الإعمار بهمة ونشاط، ولم تكتفِ بإعادة البناء بل قامت قدر الإمكان بإنشاء نسخ جديدة لما تعرض للتدمير، وإجراء تحسينات على ما تبقى. وكانت النتيجة بعث المدينة القديمة من الموت بكل تفاصيلها تقريباً من الخارج، ولكن مع تعزيزها في الداخل بما كان في تلك الأيام أحدث تقنيات البناء ووسائل الراحة.
وبدا أن أراس كانت محظوظة في مهندسيها المعماريين ووجوه مجتمعها، الذين يجري حالياً إحياء ذكراهم على لوحات تجدها في أنحاء وسط المدينة كلها، كما تمّت إعادة تسمية "الساحة الصغيرة" سابقاً لتصبح "ساحة الأبطال" تكريماً للقوات البريطانية التي كان لها الفضل بالدفاع الناجح عن المدينة. وهناك مقبرة حرب تابعة للكومنولث نظيفة على نحو لافت بالقرب من طريق دائري تضم ما يزيد على 2500 قبر.
إنها مفارقة قاسية أن إعادة إعمار المدينة قد استكملت في عام 1938، أي قبل عام من عودة الحرب من جديد إلى فلاندرز، وقبل سنتين من وقوع أراس نفسها تحت الاحتلال الألماني. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحرب العظمى هي التي تميز أراس، وبعد ما يزيد على قرن من إبادتها تقريباً، فقد تسامت المدينة بشكل كبير في معاناتها، من خلال ثروة من الأساطير المدنية والوطنية.
ولعل هذا هو السبب الذي جعلني أرى أثناء تجوالي في أنحاء أراس أنها نموذج أولي معقول، لبعض مدن أوكرانيا المتضررة والمدمرة، إن لم يكن لها كلها، يقدم الأمل الواقعي في إمكانية انعاشها، بالشكل السريع والكامل نفسه كما كانت الحال مع أراس في ذلك الوقت. وفي الواقع، إن في كييف عاصمة أوكرانيا سلفاً ساحة الاستقلال الخاصة بها لإحياء ذكرى "المئة المقدسون" الذين سقطوا في ظروف لم تتضح تماماً بعد خلال الاحتجاجات في عام 2014. ومنذ فبراير (شباط) 2022 وطالما بقيت الحرب دائرة، سيكون هناك الكثير من الشهداء الذين سيجري إحياء ذكراهم في البلدات والمدن في أنحاء أوكرانيا كافة.
كما لا يمكن الشك في أن الأوكرانيين سيكونون مصممين بشكل لا يقل عن أبناء أراس على استعادة نماذج العمارة التاريخية التي فقدوها. وأتذكر متطوعةً شابةً وهي تقول لـ "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، من دون أي مسحة عاطفية، حتى فيما كانت الصواريخ الروسية الأولى تسقط على ضواحي خاركيف، بأن الحرب يمكن أن توفر فرصة ممتازة لاستبدال بنايات يسر منظرها العين أكثر وملاءمة لأوكرانيا بشكل أكبر بالعمارات القبيحة التي ترجع إلى الحقبة السوفياتية. ومما لا شك فيه أن العديد من مواطنيها سيعربون عن اتفاقهم الشديد معها حول ما ذكرته.
من الممكن أن تكون التكلفة بطبيعة الحال حجر عثرة، كما كانت بالفعل في أراس، نظراً لنطاق التدمير في أوكرانيا وللحاجة العاجلة إلى بيوت جديدة. ولكن، قد تقدم أراس، من نواح عدة، بعد قرن من الزمان، نوعاً من التشجيع لأوكرانيا والأمل الخاص لمدينة مدمرة مثل ماريوبول. إن الحرب تخرب، غير أنها قادرة على توفير حافز من أجل إعادة البناء، وإذا تم ائتمان الأيدي الصحيحة عليها، ستؤدي إلى مستقبل أفضل له جذور عميقة في الماضي الذي يبعث على الرضا.
ولكن قرناً من الزمن، أو حتى نصف قرن، وهي المدة التي استغرقتها أراس حقاً كي تخرج من حالة التكون المبكرة في زمن الحرب، تعتبر فترة طويلة بالنسبة للأوكرانيين الذين أنهكتهم الحرب أو لأي شخص آخر، كي يقضيها بالانتظار. وحتى إذا أُخذت إعادة البناء المادي وحده في الاعتبار، فقد استغرق ذلك عشرين عاماً، أي جيلاً كاملاً. والآن، وحتى مع طرق الإنشاء الحديثة، من الصعب أن تجد مدينة تعرضت إلى الدمار الذي شهدته ماريوبول تنتهي عملية إعادة بنائها في زمن أقل من ذلك بكثير.
وقد يقدم إرث الحرب في موستار أيضاً عزاءً في جوانب أقل، مع بعض التحذيرات، لأوكرانيا في فترة ما بعد الحرب. فقد مرّ 27 عاماً فقط على توقيع اتفاقيات دايتون التي وضعت إطار عمل من أجل إنهاء الحرب البوسنية التي اندلعت كنتيجة لتفكك يوغسلافيا في أعقاب الحرب الباردة ولأطماع صربيا الإقليمية. إن الحرب هنا لا تزال تماماً ضمن الذاكرة الحية، في الأقل بالنسبة لأي شخص يزيد عمره على 40 سنة. وهي لا تزال تتمتع إلى حد ما بحضور مظلم مخيف.
تتمتع المدينة بموقع دراماتيكي في وادٍ صخري شديد الانحدار بمحاذاة نهر نيريتفا ذي اللون الأزرق الفيروزي، وفوقه جسرها الذي يعود إلى القرن السادس عشر، وهو يعطي المدينة اسمها، ويعتبر معلماً معروفاً في أنحاء العالم كله. وصار تدميره في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1993، على أيدي قوات كرواتية رمزاً للانقسامات التي تسببها الحروب، تماماً كما أن إعادة بنائه على نحو يجسد بالقدر الممكن تصميمه الأصلي، والعبور الأول عليه في يوليو (تموز) 2004 كانا موضع ترحيب باعتبارهما يرمزان إلى السلام والتصالح.
لكن، وكما في أمكنة عدة، يجب أن يُقال إن بينها إيرلندا الشمالية، لم يجلب السلام بالضرورة المصالحة، وهذه هي الحال في موستار. إن ما يزيد على أربعة أخماس المدينة قد لحق بها الضرر أو تم تدميرها بين عامي 1992 و 1996، وهذه نسبة دمار أكبر حتى من ساراييفو، التي تحملت حوالى أربع سنوات من الحصار الذي ضربته حولها قوات صربية وتصدّر عناوين الأخبار حول العالم. واليوم، تم ترميم مدينة موستار القديمة، بشوارعها المرصوفة بالحجارة وأسقفها الحجرية، بشكل كامل تقريباً، وبالدقة نفسها التي أجريت بها عمليات ترميم أراس في أيامها. والشكر موصول في هذه الحالة إلى حد كبير للتمويل والإشراف من جانب اليونسكو.
ومع ذلك، ليس عليك أن تتجول بعيداً حتى تجد المباني المدمرة أو التي أصيبت بأضرار والشوارع المتداعية. لقد تأذت العمارات السكنية وتعرضت جدرانها للتشويه برسوم غرافيتية وكتابات سياسية، باللغة نفسها، ولكن بالخطين المختلفين اللذين يستعملهما الصرب والكروات. يعرف الجميع أين كانت الجبهة خلال الحرب (وهي لم تكن قريبة من النهر بل على بعد عمارتين) ويعرف الجميع أيضاً أن المدينة مفصولة عن بعضها بعضاً بشكل فعلي على طول خط الجبهة القديم، وأن هناك مدرسة وحيدة مختلطة بين الكروات (الكاثوليك بشكل أساسي)، والبوشناق (وأغلبهم من المسلمين)، والقليل من الصرب (الأرثوذكس بشكل أساسي) الذين بقوا هناك. وكان الصراع المسلح الثلاثي الصريح قد تحول إلى صراع ثنائي في السر بين الكروات والبوشناق، والذي قد يحل نفسه، أو قد لا يفعل، في الوقت المناسب. وربما تسمع أجراس الكنائس والأذان من المساجد مع بعضها بعضاً في أوقات معينة من اليوم. غير أن أي إحساس بالانسجام يبقى خادعاً.
وقد يعتمد استمرار السلام الهش جزئياً على حظوظ المدينة الاقتصادية. لقد هيمنت السياحة على الاقتصاد في أعقاب الحرب وبدت مساراً واعداً حين تفشت الجائحة. وقد بدأ الزوار يعودون للتو. وثمة بين السكان ما يصل إلى 4 عاطلين من العمل من أصل كل 10؛ والأجور بخسة، ويتدبر كل من يستطيع أمر الحصول على جواز سفر أوروبي لتسهيل الفرار. الفقر شيء واحد: إنه دليل على أن أي تعافٍ من الحرب لن يكتمل في وقت قريب. ومع ذلك، فإن الأمر الذي يكشف بشكل مساوي عن جوانب مهمة، هو أين يجري إنفاق المال الموجود وأين يتركز الاهتمام. ويتم صرفه، على مستوى سطحي مرئي، في الأقل، بما يتعلق بالذاكرة، أي المتاحف والنصب التذكارية والمقابر.
تضم موستار ثلاثة متاحف معنية بالمدينة نفسها، وكل منها يقدم منظوراً مختلفاً. ولا يمكنك أن تسير في وسط المدينة القديم من دون أن تمر بقبور صغيرة، لكل منها شاهدته البيضاء الجديدة، وبين الفينة والأخرى ترى بعض الزهور أو الأوراق على جذع واحد، ومجموعة من الزوار يبحثون عن الأسماء. ربما كانوا من أقرباء أو أصدقاء أو من رفاق السلاح السابقين.
ثم، حين تنحني لقراءة النقوش، فإنك تجد أن نسبة من ماتوا في سني المراهقة وفي العشرينيات والثلاثينيات من العمر بين عامي 1993 و 1995، لافتة للنظر حتى أكثر من الخليط الإثني والديني، إذ تجد بعض الأسماء المسيحية أو الكرواتية أو الصربية بشكل واضح، والأسماء الأخرى الإسلامية والبوسنية بشكل واضح. ومن الصعب تخيل الآن أن وسط هذه المدينة كان منطقة حرب وأن هذه الأمكنة كانت مقابر في حالات الطوارئ.
إن الصراع في أوكرانيا قد يبدو مختلفاً تماماً من الحرب البوسنية باعتبار أنه بدأ بغزو من نمط تقليدي قامت به دولة ضد أخرى، وإن أحد وجوه الإرث الذي سيتركه، واضح سلفاً وهو إحساس تم تعزيزه بشكل كبير بالتضامن الوطني وبالأمة، والمدعوم بمجموعة جديدة كاملة من الذكريات الملهمة والأساطير المحلية والوطنية الجديدة. وبالروح نفسها، فإن الأبطال الجدد سيجري تذكرهم بكل تأكيد من خلال أسماء الشوارع والساحات والأبنية. وإذا كان من الممكن القول إن الحرب البوسنية قد تركت هذا الجزء من البلقان منقسماً تقريباً كما كان، فإن أوكرانيا مرشحة لإنهاء الحرب مع روسيا وهي أكثر اتحاداً مما كانت عليه في الماضي.
بيد أن هناك إرثين اثنين قد تشترك بهما موستار مع مناطق الحرب الراهنة في أوكرانيا. الأول هو الضرر الاقتصادي. وتوحي توقعات حديثة للبنك الدولي أن الاقتصاد الأوكراني يمكن أن ينكمش بنسبة كبيرة هي 4 في المئة هذا العام نتيجة للحرب. وفي مقابل ذلك، بمجرد أن تنتهي الحرب يجب أن تجد أوكرانيا التعافي أسهل. ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى الدعم الدولي السخي الذي من المرجح أن يكون حينذاك وشيكاً، وسيشتمل على ما يشبه خطة مارشال من دون أن يتعداها، وبتمويل من الولايات المتحدة، وكندا والاتحاد الأوروبي. لكن ذلك يرجع بشكل جزئي إلى أن العنصرين الأساسيين لاقتصاد أوكرانيا، هما الزراعة والموارد المعدنية، اللذين يمكنهما أن ينتعشا بسرعة نسبية حالما تتوقف الأعمال العدائية.
ومع ذلك فالصورة ليست وردية على الإطلاق. ويمكن أن يكون حجم الأضرار التي تسببها الحرب، ولا سيما للبنية التحتية، مثل النقل وتوليد الطاقة، هائلة في حد ذاتها ويعيق أي انتعاش في مجالات أخرى. وهناك أيضاً مسألة القوة البشرية، فكم من هؤلاء الذين غادروا البلاد سيعودون إليها، وكم منهم سيكونون أشخاصاً أصغر سناً، وأفضل تعليماً، [إلى حد يجعلهم] ضروريين من أجل تعافي أوكرانيا.
والإرث الثاني للحرب الذي يمكن أن تشترك فيه أوكرانيا والبوسنة يتصل بالعلاقات المجتمعية. في حين أن الغزو الروسي قد عزّز من دون شك بشكل كبير إحساس أوكرانيا بنفسها وكثف الولاء الوطني، الأمر الذي يمكن أن يساعد الأوكرانيين على تحمل التقشف المرجح في أعقاب الحرب، فإن نزعتين أخريين يمكن أن تدفعا في الاتجاه المعاكس. تتمثل الأولى في احتمال حصول أعمال انتقامية من أولئك الذين يُشتبه في أنهم يضمرون تعاطفاً مع روسيا، أو في أنهم يتعاونون في بعض المناطق التي احتلتها روسيا. وهناك بعض الأدلة على أن هذا الأمر يحدث سلفاً.
أما النزعة الثانية فهي الوجه المناقض للتضامن الجماعي الذي تشكل في ظروف الحصار. لقد سمعت روايات شبه متطابقة عن كيفية مشاركة الأساسيات عن طيب خاطر مثل الطعام وشواحن الهواتف في الملاجئ تحت الأرض في ماريوبول وخاركيف، ومن ذكريات زمن الحرب في موستار. غير أنه كلما كان الإحساس بالتضامن الجماعي عظيماً، كلما زادت حدة الكراهية للعدو. هذه الكراهية موجهة في القسط الأكبر منها في موستار ضد الصرب، لكنها تبقى أيضاً حاضرة بين البوشناق والكرواتيين. وهي موجهة في أوكرانيا ضد الروس.
يمكن بطبيعة الحال، تفهّم كراهية الروس بشكل كامل في ظروف الحرب الراهنة. لكن يفيد عمال الإغاثة بأنهم سمعوا حتى الأطفال الصغار يعربون عن رغبتهم في الانتقام من الروس، ما يوحي أن النفور من روسيا والروس سيكون متأصلاً لجيل واحد في الأقل، والأرجح أنه سيكون راسخاً لوقت أطول من ذلك، مع ما يترتب على هذا من تداعيات أوسع نطاقاً على العلاقات الشخصية والسياسية.
كان تأسيس ما أصبح في ما بعد السوق المشتركة إحدى الطرق لتعزيز المشاعر المعادية لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ولا يزال العديد من الأعضاء الأصليين لما يُعرف حالياً بالاتحاد الأوروبي ينظرون إليه على أنه مشروع سلام ناجح إلى حد بعيد، تماماً بقدر ما هو مشروع اقتصادي والآن سياسي. وسواء كان [السبب هو] تأثير الاتحاد الأوروبي، أو مرور 50 أو 100 عام، فمن غير المألوف أن تسمع أي شخص يعبر صراحة عن مشاعر معادية لألمانيا، وكان ذلك صحيحاً بالتأكيد حين زرت أراس، وكانت تعجّ بالكثير من الزوار الألمان.
وإذ تمضي أوكرانيا وروسيا في اتجاهين معاكسين سياسياً فيما تبقى تجربة الحرب التي لا بد أن تكون قاسية للغاية، من الصعب تصور حتى اقتراح أي شيء مثل هذا النوع من مشاريع السلام بين أوكرانيا وروسيا في المدى المنظور، ناهيك عن ترسخه، في الأقل من دون تغير النظام في روسيا.
وأخيراً، ثمة جانب سيكولوجي، والصدمة التي تخلفها تجربة الحرب. ولا يتعلق هذا فقط بالأعراض التي يمكن تصنيفها الآن على أنها "اضطراب ما بعد الصدمة"، وهناك بالتأكيد المزيد من الوعي حالياً بهذا النوع من الضرر، بل حول كيفية تصرف الناس حين تضع الحرب أوزارها. من الممكن أن يكون التضامن قد ساد في أقبية موستار، كما يسود حالياً في محطات مترو الأنفاق في خاركيف وملاجئ مصنع آزوف للفولاذ. لكن إلى متى ستبقى مثل هذه الاعتبارات حاضرة؟
يوحي ما رأيته في موستار، وأيضاً في أماكن أخرى لم ينته فيها الصراع منذ مدة طويلة، أن الحرب يمكن أن تغير السلوك نحو الأسوأ، وربما لأن بقاء الأشخاص [على قيد الحياة] يصبح هو الضرورة الملحة قطعاً بالنسبة إليهم. ويمكن للحرب أن تترك بعد نهايتها شكوكاً شائعة حيال الغرباء، فضلاً عن غياب الثقة الاجتماعية، والتعامل مع كل شيء تقريباً على أساس نهج تجاري قائم على الربح أو الفائدة بشكل كبير. ويمكنك أن تلاحظ أيضاً بعض التصلب بدل المجاملة التي كانت في محلها يوماً.
ستنتهي الحرب في أوكرانيا ذات يوم. إلا أنها لن تكون قد انتهت بشكل حقيقي؛ وسيجري تغيير أوكرانيا. فالحرب تُحدث بطرق مختلفة ضرراً أكبر من العدد الإجمالي الواضح للقتلى، والمصابين، والدمار المادي. وهي تترك ندوباً، لفترة أطول مما يدركه أولئك الذين حالفهم الحظ إلى درجة كافية ليعيشوا حياتهم بسلام. إلا أن الآثار أكثر تنوعاً أيضاً.
وإن تداعيات الحرب هي أرض خصبة للدراسة الأكاديمية والعلمية. لكن ما اعتزمت أن أفعله ليس أكثر من تسجيل مجموعة من الملاحظات، استناداً إلى ما رأيته في أماكن أخرى، يمكنها أن تلقي قدراً ضئيلاً من الضوء على ما ينتظر أوكرانيا. قد تضم الجوانب الإيجابية إحساساً متجدداً بالمسؤولية المدنية، وإحساساً أقوى بالانتماء إلى الأمة الأوكرانية، وإحساساً حاداً بالهدف المشترك الذي يعكس رغبة بالتعويض عن الزمن الضائع. وقد يكون الناس أكثر استعداداً مما كانوا عليه للتضحية في سبيل مستقبل أفضل، كما يتجلى في جوانب تتعدى الأشياء المادية.
ولكن، ينبغي ألا يُوضع، في مقابل ذلك، فقط الدمار الاقتصادي للبلاد التي كانت سلفاً فقيرة وفق المعايير الأوروبية. [بل يجب أن تُؤخذ في الاعتبار أيضاً] الآثار السيكولوجية [النفسية] العميقة للحرب على العلاقات الاجتماعية وعلى السلوك في بلاد اعتاد الآن الكثيرون فيها على حمل بندقية وتصفية الحسابات بالقوة. ومع هذا، يمكن أن يكون التغيير الأكبر هو ما توّلد من الكراهية الشديدة، الجماعية والفردية، للجار المتنمر الأخرق الذي أصابه الوهن. يمكن أن تكون هذه الكراهية كافية لزعزعة استقرار المنطقة برمتها لسنوات عدة، ما يضاعف مرات عدة خطر ألا تكون هذه الحرب الروسية – الأوكرانية الأخيرة.
نشرت اندبندنت هذا المقال في 18 مايو 2022
© The Independent