في قصيدة "المواكب" لجبران خليل جبران التي غنت منها السيدة فيروز مقطعاً بعنوان "أعطني الناي وغن"، كانت جملة "هل فرشت العشب ليلاً وتلحفت الفضا" استكمالاً لمعنى القصيدة العام الذي يطلب التعامل مع الحياة بقناعة ولامبالاة ما دمنا ننشد الحب والخير والسلام. وفي هذه الجملة ما يشي بالحرية والراحة والتخلص من الهموم، عبر افتراش العشب والنوم تحت النجوم والتخلص من الوسائد والأسرة، بالتالي البيوت والاختباء فيها.
هذا ما بات يبتغيه كل إنسان ينام ثلث يومه بينما يحاول في الوقت المتبقي تأمين ما يساعده على تمضية الثلثين الباقيين. لكن من دون نوم أو راحة لن يستطيع المرء أن يعمل من أجل حياته المعيشية أو أهدافه الأكبر من الحياة اليومية. فالنوم بحسب كل العلوم اليوم حاجة أساسية ومهمة للعيش مدة أطول ولدرء أمراض جسدية ونفسية كثيرة، بينما المصاب بالأرق وقلة النوم بسبب عمله فإنه يتعرض لكل أسباب المرض والتعب والانهيار والموت في النهاية، فأهم أسباب الجلطات القلبية والدماغية المفاجئة هو السهر الطويل وقلة النوم.
تطور الوسادة وتطورنا
النوم عنصر مهم من عناصر الحياة، ومن أهم عناصر النوم الوسادة. هذه التي شغلت حتى الآن الفنانين والأدباء والكتاب والروائيين، وكذلك العلماء الذين يبحثون عن الوسادة الأكثر راحة للنائم في زمن بات النوم صعباً بسبب مشاغل الحياة الكثيرة، وكذلك بسبب الإدمان على مشاهدة التلفزيون وشاشات التلفون المحمول ذات اللون الأزرق، وهو اللون نفسه الذي يسبب إدمان المشاهدة، وكذلك منع العينين من الوصول إلى مرحلة النعاس، ما يخلق بشراً يبدون من خلال عيونهم وكأنهم يعانون قلة النوم. والأرق مرض المراهقين في عصر الإنترنت والتواصل الاجتماعي.
رافقت الوسادة البشر في تطورهم فصنعوها من الحجر والعشب والريش والقماش حتى وصلت إلى ما هي عليه حالياً، أي أكياس من القماش المحشوة بالقطن وريش الطيور التي كلما كانت أنعم وأخف دل ذلك على مكانة صاحب الوسادة. وتطورت من مراحل التنقل والهجرات والبحث عن الماء والكلأ إلى مراحل الاستقرار والثبات والانتقال إلى المجتمع الزراعي المستقر، ومن ثم إلى بشر العصر الصناعي ومنه إلى عصر الإنترنت.
في كل هذه الأزمنة والحقب رافقت الوسادة البشر ما داموا ينامون، وهنا لا مجال لعرض فوائد النوم وأضرار قلته، لكن أهمية الوسادة تأتي من أهمية النوم. واليوم ترافق الوسادة الشخص الواحد بعينه، فهناك كثيرون لا ينامون إلا على وسائدهم التي اعتادوا عليها، فيحملونها معهم أينما حلوا، كما لو أنها حيوان أليف. وفي ناحية أخرى باتت الوسادة من صلب ديكور المنزل الحديث، ولم تعد للنوم فقط، بل ولتزيين الصالونات وغرف الجلوس ولإضافة جمال على المكان عبر تصميمها وألوانها وزركشتها وزخرفتها، ومن ثم تدل أنواع الوسادات على ثقافة معينة عبر المادة التي تحشى بها وسمكها وطولها وزركشتها وألوانها، وبعد الانفتاح العالمي تبينت الفروق بين وسائد الثقافات العالمية. وبات للوسادة ألعاب رسمية مثل القتال بالوسادة، المأخوذة من التسلية المنزلية في التضارب بواسطة الوسائد، التي باتت تقام لها مباريات حول العالم وفيها رابحون وخاسرون جميعهم يحصلون على وسادة كهدية وكأس على شكل وسادة.
عبر العصور
الوسادة من نوع الاختراعات التي لا يمكن تحديد تاريخ مباشر لها، كما لا يمكن تحديد تاريخ اكتشاف النار مثلاً لدى الإنسان القديم، فلا يمكن أن نعرف بالتحديد متى كان الإنسان يضع تحت رأسه شيئاً صنعه بنفسه لأجل هذا الهدف، لكن من خلال مراقبة الحيوانات الأقرب إلى الإنسان يمكن أن نعرف أن استخدام الوسائد تطور لدى الحيوانات منذ عصور ما قبل التاريخ مثل الزواحف والثدييات التي تريح رؤوسها على جسدها، وطورت الحيوانات بما في ذلك البشر استخدام الأدوات في أعشاشها من الخشب والحجر كوسائد. أما الحيوانات المدجنة في البيوت اليوم فإن الوسادة التي تنام عليها القطط أو الكلاب في المنازل هي جزء من هذا الاستئناس المنزلي لهذه الحيوانات الأليفة.
القردة الكبيرة التي تعيش على الأشجار بنت منصات للنوم بما في ذلك الوسائد الخشبية منذ ما يقرب 25 مليون سنة. وفي الدراسات التي أجريت على الشمبانزي التي تنام ما بين ثماني إلى تسع ساعات في الليلة باستخدام وسائد مصنوعة من الخشب والحديد تبين أنها تمنح القردة فرصة الهروب من اصطيادها من قبل الحيوانات المفترسة الليلية وعدم السقوط من الأشجار أثناء النوم. بل وأسهمت هذه الوسائد المريحة في زيادة ساعات النوم لهذه القرود، ما يعني تضخماً في الدماغ بسبب النوم الكافي والتخفف من الشعور بالخطر، وزيادة في القدرات المعرفية لهذه الحيوانات العليا التي تطور منها الإنسان العاقل.
بعد مرحلة ما قبل التاريخ التي لم يترك فيها البشر مدونات، عرفنا أن أقدم استخدام للوسادة تم تسجيله يعود إلى حضارات بلاد ما بين النهرين، أي إلى حوالى 7000 سنة قبل الميلاد، وهي أول حضارة بدأت التدوين. وفي تلك الحضارة كانت الوسائد للأغنياء فقط، وكلما زاد عدد الوسائد التي يمتلكها المرء كان تعبيراً عن ثرائه.
في مصر القديمة، ارتبط استخدام الوسادة باكتشاف المومياوات خلال الأسرة الحادية عشرة، التي يرجع تاريخها إلى 2055-1985 قبل الميلاد، وكانت الوسائد المصرية القديمة عبارة عن مساند خشبية أو حجرية للرأس. ووضعت تحت رأس الميت لأن رأس الإنسان كان يعد جوهر الحياة ومركزها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسائد الرومان واليونانيين كانت أكثر ليونة بعد قرون على وسادات المصريين والفرس. وهذه الوسائد كانت محشوة بالقصب والريش والقش لجعلها أكثر نعومة وراحة، وسمح لجميع فئات المجتمع الروماني باستخدام الوسائد أثناء النوم أو الاستلقاء أو الجلوس. وفي أوروبا القرون الوسطى استخدم المؤمنون الوسائد في الكنيسة من أجل الركوع أثناء الصلاة ووضع الكتب المقدسة عليها، وما زالت هذه العادة سارية حتى الآن.
عند المسلمين واليهود يستخدم ما يشبه الوسادة على مفرش الصلاة وتسمى "السجدة" إذ يضع المصلي جبهته عليها حال السجود. ويمكنها أن تصنع مما يرغب المؤمن سواء من الطين أو القطن ما دامت تؤدي دورها في السجود أمام الخالق.
وكانت الوسائد الصينية صلبة تقليدياً، على الرغم من تغطيتها بقماش أكثر ليونة. وعلى مدى السلالات الصينية، كانت الوسائد مصنوعة من الخيزران واليشم والبورسلين والخشب والبرونز. وظهر استخدام الوسادة الخزفية لأول مرة في عهد أسرة "سوي" بين عامي 581 و618، بينما ظهر الإنتاج الضخم في عهد أسرة "تانغ" بين عامي 618 و907. وترسم عليها الحيوانات والبشر والنباتات. وتم التخلص منها ببطء خلال سلالات "مينغ" و"تشينغ" بين عامي 1368 و1911 مع ظهور مواد أفضل لصنع الوسائد. لكن الوسائد المصنوعة من حجر اليشم ما زالت تستخدم حتى اليوم، إذ يعتقد أن طاقة حجر اليشم تنتقل إلى الدماغ البشري ما يفيد في علاج الصداع أو الاكتئاب وتحسين الذكاء.
في اليابان، استخدمت فتيات "الغيشا" وسائد صغيرة صلبة للحفاظ على شعرهن ثابتاً في الليل. أما في الهند فقد صنعت الوسائد التقليدية من ألياف الفاكهة الناعمة لأشجار "سيبا بنتاندرا". وكانت أوراق أشجار معينة ولحائها تدخل في أكثر الوسائد الهندية، وما زالت حتى الآن في المناطق الشعبية والقرى البعيدة عن مراكز المدن.
في أوروبا، حظر الملك هنري الثامن الوسائد لاستخدامها فقط من قبل النساء الحوامل والملك نفسه، وهنري الثامن معروف بقراراته الغريبة في قرون الازدهار الأوروبي وزمن الفتوحات والاستعمار والثراء المطلق القادم من عالم خلف المحيطات في القرن التاسع عشر، ومع التخفف من ثقل الثورة الصناعية على العمال، بات لدى كل شخص تقريباً في أوروبا وأميركا وسادة ليرتاح رأسه عليها بعد يوم شاق من العمل.
وسائد العصر الحديث
في الزمن الحديث، يمكن وصف الوسادة بأنها أكياس من القماش المصنوع من مواد مختلفة من الكتان والقطن إلى الحرير والمخمل والساتان، ويتم حشوها بالصوف أو القطن أو الريش أو مواد صناعية خفيفة لجعل الوسادة مريحة للظهر عند الجلوس أو للرقبة والرأس والكتفين عند النوم. وجانب واحد منها يمكن فتحة بواسطة سحاب أو أزرار. ويتم اختيار مواد الحشو على أساس الراحة والمرونة والخصائص الحرارية والتكلفة وأيضاً لأسباب طبية وأخلاقية. أما في زمننا الراهن فأكثر الحشوات الاصطناعية شيوعاً هي المواد المصنوعة من ألياف "البوليمر"، مثل "البوليستر" ورغوات الإسفنج المصنعة غير المكلفة.
وعمل الوسائد اليوم هو دعم الرقبة من خلال توفير منطقة يغرق فيها الرأس للراحة ومنطقة داعمة للحفاظ على محاذاة الرقبة مع العمود الفقري أثناء النوم. والأكثر تطوراً بينها هي الوسائد الطبية التي تساعد المرضى في الحفاظ على وضع مريح بعد الإجراءات العلاجية وجراحة العظام والجراحة. وهناك وسائد السفر التي توفر الدعم للرقبة في وضعية الجلوس. ويتناسب شكلها "U" مع مؤخرة العنق وتمنع الرأس من الانزلاق إلى وضع غير مريح وربما ضار أثناء النوم. وهناك الوسائد الدائرية المفرغة في وسطها، وتستخدم لتخفيف الضغط على منطقة عظم الذنب أثناء الجلوس.
هناك وسائد الديكور الزخرفية التي استخدمت قديماً لدى الأثرياء والطبقات الحاكمة وبالطبع لدى الملوك الذين يتم تصويرهم اليوم في السينما بينما يجلسون على أرائك بين وسائد كثيرة ومريحة ويمدون أياديهم وأرجلهم فوقها للدلالة على الراحة والنعمة. واليوم في العصر الحديث تستخدم هذه الوسائد في استكمال تزيين المفروشات المنزلية أو المكتبية أو العيادات الطبية على اختلافها وفي المعارض الفنية وداخل الفنادق المريحة التي تحتفي بأنواع وسائدها على لائحة الخدمات التي تقدمها لزبائنها. وباتت الوسائد الجديدة تتخذ أشكالاً طريفة ومضحكة أو على هيئة حيوانات تبدو أليفة كالدببة والحيتان والأفيال الصغيرة، وبعض الأطفال وكبار السن لا ينامون من دون احتضانها. وتسمى هذه الوسائد في اليابان بوسائد المعانقة، وتهدف إلى تأمين مزيد من الراحة النفسية. أما الوسادة الحميمة، فهي وسادة كبيرة ذات ظهر مرتفع وذراعين. يجلس عليها في وضع مستقيم أثناء التواجد على السرير أو الكنبة أو على الأرض للقراءة أو مشاهدة التلفزيون.