بدأ معظم التونسيين، في الأشهر الأخيرة، يلمسون تأثير تدني العملة الرئيسة (الدينار) أمام بقية العملات، وبخاصة الدولار من خلال الارتفاع الكبير للأسعار في معظم المواد، ولا سيما المنتجات الاستهلاكية والأساسية. ويدرك التونسيون أن قيمة الدينار تعرف انحداراً كبيراً بإنصاتهم المتواصل بتمعن لمختلف التحاليل الاقتصادية ومتابعتهم الشأن المالي للبلاد الذي أضحى شغلهم الشاغل.
ويشهد الدينار التونسي تراجعاً قياسياً أمام الدولار، إذ جاء على الموقع الرسمي للبنك المركزي التونسي أن دولاراً واحداً كان يعادل بتاريخ 19 مايو (أيار) 2022 قيمة ثلاثة دنانير و128 مليماً في أعلى مستوى له، بينما كان يساوي في الفترة نفسها من السنة الماضية تقريباً دينارين و761 مليماً، والمؤلم في المسألة أن أهم واردات تونس تتم بالدولار باستيراد القمح والنفط والمواد الأولية.
ارتفاع فاتورة الواردات
المتخصص في الأسواق المالية الاقتصادي معز حديدان، أكد أن هذا الانخفاض في قيمة الدينار مقابل الدولار، يفسر بالسياق الاقتصادي العالمي الذي اتسم بارتفاع الدولار أمام غالبية العملات في العالم، إذ يقوم المستثمرون ببيع اليورو لشراء العملة "الخضراء" أو الملاذ الآمن، في ظل التخوف من الحرب الروسية – الأوكرانية، وتوقع هبوط النمو الاقتصادي في أوروبا. وأوضح أن هذه الزيادة في قيمة الدولار تأتي مدفوعة بتغيير السياسة النقدية الأميركية للبنك الاحتياطي الفيدرالي لمحاربة التضخم القياسي، إذ سيقوم بتنفيذ زيادات متتالية في أسعار الفائدة، ما يشجع المستثمرين على تحويل المستثمرين اليورو إلى دولارات من أجل خفض قيمة اليورو والعملات الأخرى لاحقاً مقابل الدولار. وتابع أن تونس شهدت في السنوات الـ10 الأخيرة نزولاً للدينار، بخاصة بين سنوات 2015 و2018، حيث نزل بصفة كبيرة بأكثر من 30 في المئة.
أضاف حديدان، "تواصل عدم توازن الاقتصاد التونسي، وتحديداً قيمة الدينار الذي تأثر بعجز الميزان التجاري الذي زاد تعمقه في الثلث الأول من السنة الحالية بـ40 في المئة"، وفسر تراجع قيمة الدينار، أيضاً، بارتفاع فاتورة الواردات من الطاقة والحبوب، مؤكداً أن العجز الطاقي ارتفع بأكثر من 70 في المئة، كما ارتفع عجز الحبوب مليار دينار (322 مليون دولار)، واصفاً هذا الرقم بالقياسي.
وأرجع حديدان تراجع قيمة الدينار مقابل الدولار لأسباب خارجية أيضاً تتمثل في ارتفاع سعر الدولار أمام كل العملات في العالم، وتوقع انخفاض النمو الاقتصادي في أوروبا، إضافة لتوقع رفع نسب الفائدة من قبل الخزانة الأميركية.
قوة الدولار ستضاعف عجز الموازنة
وكان محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي قد كشف عن أن عجز الموازنة التونسية سيزيد إلى 9.7 في المئة هذا العام مقارنة مع توقعات سابقة عند 6.7 في المئة بسبب قوة الدولار والزيادة الحادة في أسعار الحبوب. أضاف العباسي في مؤتمر اقتصادي في محافظة صفاقس (وسط) أن تونس بحاجة إلى تمويل إضافي للميزانية يبلغ خمسة مليارات دينار (1.6 مليار دولار) هذا العام بسبب آثار الحرب في أوكرانيا، وسيرفع هذا احتياجات التمويل هذا العام إلى 25 مليار دينار (ثمانية مليارات دولار)، ما يزيد من الضغوط على المالية العامة للبلاد.
وقال العباسي، إن من المتوقع أن يتسع عجز الحساب الجاري إلى نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، مقابل 6.8 في المئة بحسب التوقعات الأولية، كما انخفض الدينار بنسبة سبعة في المئة أمام الدولار.
يشار إلى أن آخر بيان لمجلس إدارة البنك المركزي التونسي اعتبر أن انتقال الضغوط التضخمية المتأتية من الخارج إلى الأسعار المحلية، من جهة، وتداعيات التعديلات المنتظرة على الأسعار المؤطرة في إطار إصلاح منظومة الدعم، من جهة أخرى، من شأنها الإبقاء على التضخم في مستويات عالية، سواء خلال سنة 2022 أو سنة 2023.
وعلى مستوى القطاع الخارجي، سجل المجلس اتساع العجز الجاري الذي بلغ 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2022 مقابل 1.7 في المئة في سنة 2021 جراء تدهور الحاصل التجاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي جانب آخر، بلغ مستوى احتياطيات الصرف 23.6 مليار دينار (7.6 مليار دولار) أي ما يعادل 124 يوماً من التوريد بتاريخ 16 مايو 2022 مقابل 23.3 مليار دينار (7.5 مليار دولار) و133 يوماً من التوريد في نهاية سنة 2021. وشدد المجلس على أهمية تنسيق السياسات الاقتصادية لتجنب أي انزلاق تضخمي قد يزيد من حدة مواطن الضعف ويعوق انتعاش النشاط الاقتصادي.
وخلص محافظ البنك المركزي بالتشديد على أن التحكم في العملة من شأنه أن يسهم في تحسين القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية بالأسواق الداخلية والخارجية.
ويهدد تراجع الدينار التونسي بتآكل احتياطات النقد الأجنبي خلال أزمة مالية حادة تواجهها البلاد.
مسار سلبي
وانطلق المسار السلبي للدينار التونسي منذ 2011، بعد أن كان سعره لا يتجاوز 1.33 دينار مقابل الدولار في يناير (كانون الثاني) 2010 وتراجع إلى 1.51 دينار في مارس (آذار) 2012، ثم إلى 1.66 دينار في ديسمبر (كانون الأول) 2013، وصولاً إلى 1.72 دينار في يوليو (تموز) 2014، ليأخذ منعرجاً لافتاً منذ عام 2015، إذ تهاوى إلى 1.93 دينار في فبراير (شباط)، ثم 2.2 دينار في أغسطس (آب) 2016، و2.42 دينار في يوليو 2017، ليصل إلى السعر الأدنى التاريخي، وهو 3.02 دينار في أبريل (نيسان) 2019، ما مثل دافعاً للمخاوف الحالية 3.1 دينار مقابل الدولار في الوقت الراهن.
وتخضع تونس لضغوط من جانب المانحين بهدف تعويم الدينار من أجل تصحيح الاختلالات في ميزان المدفوعات، ويتمثل ذلك في إخضاع سعر الصرف لآليات السوق، ومنها العرض والطلب، لكن يؤدي ذلك آلياً إلى تهاوي العملة المحلية، لأن الطلب على العملة الأجنبية يفوق العرض في سوق الصرف التونسية، في حين أن عرض الدينار التونسي يفوق الطلب، ما أدى إلى انخفاض سعر الصرف.
تداعيات وخيمة
من جانبه، قال عز الدين سعيدان، المتخصص في الشأن البنكي والمحلل الاقتصادي، إن الانخفاض الكبير الذي شهده الدينار التونسي مقابل الدولار له انعكاس خطير وتداعيات سلبية على الاقتصاد التونسي، باعتبار أن كل الموارد بالدولار سترتفع ما سيغذي التضخم المالي. وأشار أيضاً إلى أن تراجع الدينار التونسي مقابل الدولار من شأنه أن يسهم في ارتفاع المديونية في تونس، بالتالي السير بالبلاد إلى طريق مجهول المخاطر.
وعن تحديده أهم عوامل انحدار الدينار التونسي أمام الدولار، أشار إلى وجود أسباب داخلية وخارجية أدت إلى انهياره، منها ارتفاع قيمة العملات خارجياً على غرار الدولار واليورو والجنيه الاسترليني، إضافة إلى ارتفاع قيمة السلع وتكلفة الديون الخارجية لتونس، وتواصل الاضطرابات الاجتماعية والأمنية، الأمر الذي أدى إلى رفع نسبة التضخم في البلاد.
واعتبر سعيدان أن ارتفاع سعر الدولار مقابل الدينار التونسي، سيزيد في نسبة التضخم المالي فيصبح ما يعرف بـ"التضخم المستورد"، كما أنه سيضعف القدرة الشرائية للمواطن التونسي ويضر بالتوازنات الاقتصادية والمالية بصفة عامة، وسيسهم في الترفيع في قيمة الدين العمومي بالدينار، وخلص بالتحذير إلى أن تونس لديها 15 في المئة من الدين العمومي الداخلي بالدولار الأميركي، وعندما يرتفع سعر الدولار سترتفع ضرورة قيمة الدين العمومي.