لا تكاد تمر دورة من مهرجان كانّ السينمائي (17 - 28 مايو- أيار) من دون أن يعرض فيها الأخوان داردن جديدهما. هما الإسمان الكبيران في عالم السينما اللذان كانا مئة في المئة من صنيع المهرجان الذي يشاركان فيه منذ أواخر التسعينيات، بدءاً مع "الوعد". ومنذ ذلك اليوم، لم يعرضا في أي مهرجان آخر، لا بل لم ينجزا فيلماً واحداً لم يشق طريقه إلى المسابقة، علماً أنهما نالا "السعفة الذهبية" مرتين في حياتهما، الأولى عن "روزيتا" والثانية عن "الطفل". بشفافية مصحوبة ببساطة تكاد تدخل في مسامات الجلد، يصوّر الأخوان أفلاماً يتعقبان فيها شخصيات تناضل من أجل الحصول على فرصة. إنها المعركة اليومية من أجل البقاء للبسطاء من الناس. هذه حكايات من عمق الواقع الإجتماعي البلجيكي وهو واقع شبيه إلى حد بعيد بالواقع في مجمل أوروبا. دائماً بأسلوب يقتصد في الإمكانات، يصنعان سينما صافية تلاحق فيها الكاميرا المحمولة على الكتف شخصيات في حركة مستمرة. هذا الأسلوب المشبّع بالواقعية بات علامتهما الفنية وعبّرا من خلاله عن رؤيتهما إلى عالم يرزح تحت المعاناة ولا حلول تلوح في الأفق لهؤلاء الذين تستضعفهم الأنظمة، وتنتصر لهم إنسانية المخرجين المنتفضين ضد كل أشكال الظلم. يصنع الأخوان أفلاماً سياسية لا تتضمن أي مواقف سياسية وخطاباً وتدليساً، فهما يرويان تداعيات السياسة على الناس. لا يصدر منهما أي حكم بالمسميات حيال واقع تنتصر فيه الحاجة المادية على كل شيء آخر. من دون نوتة موسيقية واحدة أو حركة كاميرا تأتي خارج سياقها الجمالي، تشق هذه السينما طريقها نحو الصراع من أجل الكرامة والبقاء من دون أن يتحول الواحد منا إلى شخص لا يريد أن يكونه.
الطفلان المشردان
في "توري ولوكيتا" الذي ينافس على "سعفة" ثالثة في تاسع مشاركة لهما داخل المسابقة، يعود الأخوان إلى الأطفال الذين لطالما وقفوا عندهما أمام الكاميرا، وكان آخرهم الفتى أحمد الذي وقع في فخ التطرف الديني. الفيلم يصوّر تشرد طفلين (من دولة بنين)، في بلجيكا المعاصرة، مع كل ما يعني ذلك من وجهة نظر سياسية وإقتصادية واجتماعية في موضوع الهجرة الذي يضرب أوروبا منذ سنوات. هي (لوكيتا) مراهقة، وهو (توري) لا يزال قاصراً، هو حصل على أوراق شرعية، أما هي فلا تزال تخضع للإستجواب لطلب اللجوء. معاً، سيتوجب عليهما اجتياز كل العقبات التي توضع أمامهما، من الإتيان بالإثباتات التي تؤكد أنهما شقيقان فعلاً.
الفيلم عن هذه العلاقة غير الواضحة بين طفلين لا يملكان أي مرجعية يستندان إليها. يدعيان أنهما شقيقان، لكن السلطات تطلب منهما أن يثبتا بأنهما شقيقان فعلاً، وهذه معطيات كافية للداردن ليستوحيا منها فيلماً. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فالتتمة سلسلة من التحديات التي سيمر بها توري ولوكيتا ليستحقا مكانهما في الجنة الأوروبية. لا يتوانى الفيلم عن إدانة نزعة مجتمعية إلى استعباد الطبقات الأكثر ضعفاً وهشاشةً. الفيلم يتوجه بالنقد أيضاً إلى نظام الترحيب الأوروبي. في الخلاصة، سيتعرض الطفلان للإستغلال للحصول على أبسط الأشياء، وعندما تُرفض الأوراق الرسمية سيجدان نفسيهما في ظروف صعبة، حيث الحل هو الخضوع للإبتزاز الجنسي وتجارة المخدرات. يصوّر الأخوان الواقع بيأسهما المعروف، من دون إيمان بأن فيلمهما سيغير أي شيء في العالم. يقول جان بيار داردن في هذا السياق: "أقل ما آمله ألا تكون السينما مجداً باطلاً. اذا كان من الصعب أن نغير العالم، لأننا نضع الشاشة من جانب والعالم من جانب آخر، فعلى الأقل أتمنى ألا يكون مجداً فارغاً. سواء كان الفيلم روائياً أو وثائقياً، عليه أن يتوجه الى المُشاهد في عتمة الصالة، ليحرك فيه شيئاً، ولا أعرف حتى الآن ما هو هذا الشيء".
أسلوب سينمائي
مرة جديدة يفرض الأخوان أسلوبهما السينمائي الذي يركز على شح العناصر السينمائية (غياب الموسيقى وحركات الكاميرا الاستعراضية والأكشن…) والتقليل من الموارد أو الإنتقاص منها إلى حدها الأدنى. هناك عاطفة حقيقية تتسلل إلى المشاهد خلف كل لقطة، برغم أنهما يصران دائماً على بساطة الطرح والتنفيذ. فما هو السر؟ يشرح جان بيار داردن: "السرّ في أن تبقى بسيطاً. بلوغ البساطة المعبرة ليس سهلاً ولا ننجح في الوصول إليه في كل محاولة جديدة. برغم كل ما قيل وسيُقال في أفلامنا، فما يهمنا نحن هو تصوير الشخوص التي أمامنا، وكانت لدينا دائماً تلك الرغبة في أن تكون التقنيات أخف ما يمكن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشدد الأخوان داردن على أنهما يأتيان إلى السينما بأخبار من العالم. وكما يكون العالم، تكون سينماهما التي رغم كل المآسي التي ترينا، هناك دائماً نافذة مطلة على الأمل. والأمل في "توري ولوكيتا" قد يجد تعبيره في الأغاني التي نسمعها والصداقة التي يتم التركيز عليها. في فيلم ينطوي على العديد من مشاهد العتمة، يعتبر الأخوان أن الضوء الوحيد الموجود يتأتى من الإنسان نفسه. هذا الإنسان الذي يؤمنان به رغم كل شيء. يقول الفيلم كلمته عن موضوع خلافي هو الهجرة، لكن الاخوين يستدرجانه إلى عالمهما البصري لا العكس. أي أنهما لا يقدمّان تنازلات. إصرار وتعنت والتزام بما يرانه صح، قد يفتح أمامهما الطريق إلى "سعفة" ثالثة، خصوصاً أن رئيس لجنة التحكيم فنسان لاندون "مسيس" يميل إلى السينما ذات الهم الإجتماعي والمعيشي.