مر ما يربو على مئة عام منذ أن اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية العالم. اقترن هذا الداء مع جائحة كورونا، بمعنى أنه قصة تحذيرية عن الدمار الذي يستطيع أحد فيروسات الإنفلونزا أن يلحقه بسكان المعمورة، ولكن هل تعلم أن الإنفلونزا الإسبانية ليست إسبانية في الواقع، وذلك المرض نفسه لم ينشأ على الأرجح في إسبانيا؟
في الحقيقة، أطلق على الداء اسم الإنفلونزا "الإسبانية" لأن وسائل الإعلام الإسبانية أبلغت عن هذا المرض الجديد [آنذاك] والمميت، خلافاً لبلاد أخرى منيت بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وآثرت رفع روحها المعنوية.
بطبيعة الحال، لم تكن إسبانيا سعيدة جداً بكونها مثقلة "بملكية" الفيروس الفتاك. وقد ردت بأن أطلقت تسميات محلية على وباء سلالة إنفلونزا "أتش 1 أن 1" [المسمى العلمي للإنفلونزا الإسبانية] أسماء كـ"الإنفلونزا الفرنسية" و"جندي نابولي"، لكن الاسم بقي، لمجرد أن وسائل الإعلام آنذاك كانت تستخدم اختصاراً "سهلاً" في وصف مرض معقد.
ربما يبدو منطقياً الالتجاء إلى تلك الاختصارات البسيطة عند الإبلاغ عن ظهور مرض ما، لكنها لم تخل من عواقب تكررت على مر تاريخنا. ننتقل سريعاً إلى ثمانينيات القرن العشرين، وظهور فيروس نقص المناعة البشرية "أتش أي في"، إذ أشير إليه أساساً في وسائل الإعلام والمجتمع الطبي باسم "غريد" GRID، اختصاراً لـ"نقص المناعة المرتبط بالمثليين" Gay-Related ImmunoDeficiency، أفضى المعنى الأصلي لتسمية المرض إلى أمرين مهمين تاريخياً. وتجسد أولهما، وصم فئة سكانية موصومة أصلاً، عبر تصنيفها بأنها حاملة للمرض المميت وناقلة له.
وقد تمثل ثانيهما في أن تلك التسمية ["نقص المناعة المرتبط بالمثليين"] بعثت رسالة خطيرة مؤداها أن ذلك المرض يطال مجموعة محددة من الأشخاص فحسب، بمعنى أنه ما لم تكن من مثليي الجنس، فليس عليك أن تقلق بشأنه. اليوم، ندرك أن تلك الرسائل الإعلامية تكبد خسائر في الأرواح، ذلك أن رهاب المثلية والتمييز، اللذين أشعلهما وصف فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز بأنه مرض "مثليي الجنس"، يستمران في وضع مثليي الجنس ومزدوجي الميول الجنسية قيد خطورة الإصابة بالعدوى والموت أكثر من أي مجموعة سكانية أخرى معرضة لخطر الإصابة بذلك الفيروس.
إذاً، تؤدي وسائل الإعلام دوراً مهماً في ترسيخ أصل المرض. وفي السنوات التي أعقبت جائحة الإنفلونزا عام 1918، عمدت تلك الوسائل إلى تبسيط الحالات المرضية الرئيسة جميع بطريقة تؤدي إلى تشديد التركيز على البلد أو الناقل المزعوم للمرض.
فمثلاً، من المستطاع أن نفكر في إنفلونزا "الطيور" و"الخنازير". حتى إن "مناورة البجعة" Exercise Cygnus الشهيرة الآن استخدمت إنفلونزا "البجعة" السوداء المتخيلة [في الإشارة إلى صعوبة التنبؤ بالحوادث المفاجئة] كي تختبر مدى جاهزية المملكة المتحدة في التصدي لجائحة إنفلونزا. ويبدو الأمر سيان بالنسبة إلى الجائحة الحالية [كورونا]. ففي بدايتها، تحدثت تقارير إعلامية عن الفيروس "الصيني" وفيروس "ووهان" في إشارة منها إلى "كوفيد- 19"، وأطلقت على المتحورات الجينية من الفيروس أسماء البلاد التي رصدت فيها أولاً. إن كل واحدة من تلك التصنيفات والتسميات التي كرستها قطاعات معينة في وسائل الإعلام، مردها مجدداً إلى ممارسة التمييز ضد المجموعات "المسماة".
لكننا صحونا من غفلتنا الآن، أليس كذلك؟ لن تطلق وسائل الإعلام الحديثة على حالة صحية ما اسم مرض "المثليين جنسياً". لا تطوف الصحف عادة بين الناس وتروح تنسب ببساطة فيروسات حيادية إلى بلاد أو فئات سكانية حيث نشأ المرض. صرنا نعرف الصواب الآن. لقد استخلصنا الدروس من أخطائنا. أو، هل فعلنا ذلك حقاً؟
يقودني كل ما تقدم إلى جدري القرود. على الرغم من الدعوات أثناء الجائحة إلى وضع حد لهذه الممارسة، لم تمتنع أقسام معينة في وسائل الإعلام من التركيز على المرض بوصفه "أسود" و"مثلي الجنس"، بالتالي طغى هذا الشكل من الصور التي ظهرت في تقارير إخبارية حول جدري القرود بثتها وسائل إعلام عالمية، إلى حد حمل "رابطة الصحافة الأجنبية، أفريقيا" FPAA و"برنامج الأمم المتحدة عن فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز" UNAIDS إلى إصدار بيانات تحث وسائل الإعلام على تفادي التنميط في تقاريرها، بما في ذلك استخدام لقطات محفوظة جاهزة تظهر فيها بشرة سوداء مملوءة بطفح جدري القرود، وصور رجال مثليين. ولنأخذ في عين الاعتبار الأذى التي تسببه تلك الصور، من طريق ترسيخ قوالب نمطية تمييزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما يحاجج البعض أن وسائل الإعلام العالمية جميع لا تملك سوى الصور المحفوظة من أفريقيا كي تستخدمها في الإشارة إلى هذا الداء. وبالنسبة لي، يبدو هذا تصرفاً كسولاً بعض الشيء. ماذا عن إرفاق المقالات الإخبارية التي تتناول جدري القرود بصورة لفيروس عام؟
في جعبة كل وكالة أنباء حول العالم صور توضيحية كثيرة من صنع فنانين متخصصين في التعبير الفني الحديث الذي يظهر عجائب الكون، تفيض ألواناً تبعث على الخدر وتكفيها لتقارير إخبارية لا تنتهي. إذا لم يف هذا الاقتراح بالغرض، فليس إرفاق التقارير الإخبارية عن الحالات الصحية بصورة تظهر فيها لافتة لأحد مستشفيات هيئة "الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس") بأمر غير مألوف لدى وسائل الإعلام في المملكة المتحدة، ولكنها مع ذلك لم تلجأ إلى هذا الخيار في أي وقت أيضاً. أو، وأترك لكم أن تنعتوني بالجنون، ربما صور مرضى حقيقيين هنا في أوروبا؟ (إذا أبدوا استعدادهم لقبول ذلك، طبعاً).
لماذا يعتبر كل ما ذكرناه آنفاً مهماً؟ لأن الطريقة التي تنتهجها وسائل الإعلام في تقديم تقاريرها وتصوراتها عن حالات التفشي ليست مقصورة على اختصارات رديئة فحسب. لقد كشف لنا أحد البحوث أن تصوير الوسائط الإعلامية للمرض يخلق وصمة تمييز ويؤثر سلباً في تصوراتنا الخاصة بشأن المخاطر التي تتهددنا. ويعني ذلك وجود صلة مباشرة تجمع بين أساليب الإبلاغ والتركيز الإعلاميين من جهة، والمدى الذي نجد فيه، نحن القراء، أن الآخرين يشكلون خطراً علينا، من جهة أخرى. هكذا، نتصرف وفق هذا التصور للخطر بغية حماية أنفسنا، ما يجرنا إلى التمييز ضد أبرياء وأحياناً إلحاق الأذى بهم، كي نهدئ مخاوفنا ونقنع أنفسنا بأننا عند ضفة الأمان.
في الحقيقة، ليس جدري القرود سوى الداء الثاني في سلسلة طويلة من حالات تفش مرضية سينجو منها كوكبنا. ومن واجب وسائل الإعلام الترويج للمرض بوصفه عالمياً، والتخلي عن الحاجة إلى المنشأ، والنظر إلى الناس الذين قادهم حظهم العاثر إلى اكتشاف إصابتهم بالمرض أو التقاط عدواه، باعتبارهم ضحايا، بالتالي، عدم اعتبارهم ناقلين مجهولي الاسم كي يصار إلى تسمية المرض بهم والتشهير بهم وإلقاء اللائمة عليهم. لا تحمل الفيروسات عنصرية وكراهية وتحيزاً تجاه مثليي الجنس. بالأحرى، إن الناس هم من يفعلون ذلك. وقد آن الأوان كي ترتقي أقسام معينة في وسائل الإعلام أيضاً، فتنشر تقارير عن تفشي الأمراض تكون خالية من أي تحيز.
* الدكتورة أليكسيس باتون محاضرة في علم الأوبئة الاجتماعية وعلم اجتماع الصحة لدى "جامعة أستون" Aston University. وهي أيضاً رئيسة اللجنة المعنية بالمسائل الأخلاقية في مجال الطب في "كلية الأطباء الملكية" Royal College of Physicians، وأمينة "معهد أخلاقيات الطب" Institute of Medical Ethics.
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 26 مايو 2022
© The Independent