تحرص "جائزة البوكر الدولية" منذ أن تأسست العام 2005، على استكشاف حكايات مغايرة من ثقافات مختلفة ووجهات نظر جديدة، وليس أدل على هذا مما تضمنت قائمتها القصيرة هذا العام من روايات آتية من كوريا واليابان وبولندا وإسبانيا والنرويج وشمال الهند. تنافست هذه الروايات في ما بينها تنافسا شرساً إلى أن حُسم الصراع لمصلحة الكاتبة الهندية جيتانجالي شيري بروايتها البولفونية "ضريح من رمال"، لتصبح المرة الأولى في تاريخ الجائزة التي تفوز فيها رواية مكتوبة في الأصل باللغة الهندية.
تقول شيري (64 عاماً)، "كم هو جميل أن يفوز كتابي بجائزة البوكر، لكن خلفي تراث أدبي وافر باللغة الهندية ولغات أخرى في جنوب آسيا بوسعه أن يثري الأدب العالمي ويضاعف مفردات الحياة".
تكتب شيري منذ أكثر من 30 عاماً، وقد ترجمت لها ثلاثة كتب إلى اللغة الإنجليزية، كما ترجمت معظم أعمالها إلى الفرنسية والألمانية والصربية والكورية، لكن روايتها الفائزة تتميز بكرنفالية لا مثيل لها من حيث الشخصيات وتعدد الأصوات في العالم، فضلاً عن لغتها المبتكرة والطريفة في الآن ذاته.
وصفها فرانك وين، أول مترجم يترأس لجنة التحكيم، بأنها رواية مضحكة وممتعة للغاية، حتى إن لجنة التحكيم المؤلفة من الكاتبات، ميرف إمري وبيتينا غاباه ووفيف غروسكوب والكاتب والمترجم جيريمي تيانغ، ما إن جاءوا على ذكر رواية شيري بعد أن استغرقهم النقاش في العناوين المدرجة، حتى وجدوا أنفسهم يصوتون لها بالأغلبية.
الحدود لا تقبل التسييج
ما الذي يعني أن تستهل شيري روايتها بموت الجد واستسلام الجدة البالغة من العمر 80 عاماً ليأس لا سبيل إلى البرء منه، كما أرادت أن تخدع القارىء برقدتها على فراش الموت لما يقرب من 200 صفحة مديرة وجهها للحائط؟ لكن اللافت حقاً في هذا الاستهلال أن الكائن المتواري بوجهه عن أعيننا الراصدة هو الشخصية المركزية في الرواية على الرغم من غناها بالأصوات واشتباكها بوفرة من الحكايات، ومنها حكايات عائلة الجدة "ما" المكونة من أولادها، "بادي" وزوجته وأطفالهم، و"بيتي" الابنة العصرية وابن آخر لا يظهر إلا لماماً في السرد بصوته من وراء البحار، عبر مكالمات تنم عن قلقه البالغ على أمه كما حال أفراد عائلتها، بينما تلف الجدة نفسها في لحافها بإصرار مولية ظهرها للجميع من غير اكتراث.
نحن لا نتوقع بالطبع من شخص في هذا السن أدنى قدرة على المقاومة، ناهيك عن التغيير، لا سيما لو كانت امرأة، لكن كلارسيا بنكولا في روايتها "الركض مع الذئاب" تحث كل أنثى على أن تنطلق الآن، الآن التي لا تعني زمناً محدداً أو سناً بعينه، لأنها تواجه ظروف الزمان كافة ولديها القدرة على التجدد من تلقاء نفسها بمجرد انفلاتها من بين أصابعنا.
هكذا يمكن للنار أن تندلع من تحت الرماد وتنشط "ما" وتغادر فراشها ونتبعها في رحلة تحول عظيمة لإعادة تقويم ما يعني أن تكون أماً وابنة وامرأة، لدرجة أن تخوض علاقة مع امرأة متحولة جنسياً، وهو ما يربك ابنتها البوهيمية التي اعتادت على التفكير في نفسها على أنها الأكثر "حداثة"، مما يقلب العلاقة بين الأم وابنتها رأسا على عقب.
بعد مقتل رفيقتها تقرر "ما" السفر إلى باكستان لتواجه صدمة مرحلة لم تحتملها وهي بعد مراهقة، لتطرح من خلالها إشكال الحدود والانقسامات بين الأديان والأجناس والأمم، لا سيما بين الهند وباكستان نتيجة التقسيم الجائر عام 1947. شيري التي ولدت بعد 10 سنوات من هذا التاريخ تقول إنه على الرغم من أن جيلها لا يتذكر التقسيم، "فنحن نعيش معه كثيراً، لا سيما الأيديولوجيا التي انبثقت منه والتي تفترض أن هذين المجتمعين الرئيسين في شبه القارة الهندية لا يمكنهما العيش معاً". ولدت شيري باسم جيتانجالي باندي لكنها غيرت لقبها إلى اسم والدتها الأول، بعد أن لاحظت أن اسم أمها لا يظهر في أي مكان، "وهي التي لعبت دوراً كبيراً في تربيتنا" كما تقول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تتناول شيري مأساة الهند بجدية، بل فضلت النبرة المرحة والتلاعب بالألفاظ في احتجاجها مع الأجيال من بعدها على الأثر المدمر للحدود سواء بين الأديان أو الدول أو بين الجنسين، ومن المفارقات أن روح الدعابة المنتشرة على طول السرد عملت على تضخيم معنى الحدود والتقسيم على نحو لا يصدق.
تقول: "ما الحدود. الحدود؟ هل تعرف ما هي الحدود؟ ما هي الحدود؟ إنها بمثابة شيء يؤطر الوجود، إنه محيط الشخص. أياً كانت كبيرة أم صغيرة. حافة المنديل وحافة المفرش، التطريز حول الشال. حواف السماء. أصص الزهور في هذا الفناء. حدود الحقول. الحاجز حول هذا السقف. إطار الصورة. كل شيء له حدود. ومع ذلك، لا حد أقيم من أجل إزالته، بل من المفترض أن يبرز كلا الجانبين. لقد تمت إزالتي. هل يجب عليّ المغادرة؟ لا، الحدود لا تقبل التسييج بل تترك مفتوحة".
المترجم كشريك في النص
يعتبر فوز شيري بالبوكر الأول لدار النشر" تايتلد آكسس بريس"، وهي من دور النشر الصغيرة المستقلة التي لعبت دوراً في تشكيل قائمة البوكر هذا العام، ويصرح فرانك وين رئيس لجنة التحكيم بأن الناشرين المستقلين قاموا "بعمل هائل في توفير الأعمال المترجمة للقراء، ولا يزال أمامهم المزيد، ولا يزال هناك شعور بأن نشر الترجمات أمر صعب. إنه ليس أكثر صعوبة من نشرأي كتاب آخر".
ويطمح وين إلى أن يؤدي فوز "ضريح من رمال" إلى تشجيع مزيد من ترجمات الكتب من لغات غير أوروبية، فعلى الرغم من حقيقة أن لبريطانيا علاقة طويلة جداً مع شبه القارة الهندية، فإن ما تمت ترجمته من اللغات الهندية والأردية والمالايالامية والبنغالية يعد قليلاً جداً.
وتتمثل إحدى ميزات البوكر في اعترافها بالترجمة كشريك في النص، بحيث تتقاسم شيري الجائزة البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني مع مترجمتها دايزي روكويل، وهي رسامة وكاتبة ومترجمة تعيش في فيرمونت - الولايات المتحدة، وقامت بترجمة العديد من الأعمال من الأدب الهندي والأوردو. وانضمت روكويل إلى شيري على خشبة المسرح لتتسلم جائزتها عن ترجمة الرواية التي وصفتها بأنها "رسالة حب إلى اللغة الهندية"، ووفقاً لـ "وين" تمكنت ترجمة روكويل بشكل مذهل من التقاط النص على الرغم من تلاعبه بالألفاظ واعتماده على أصوات وإيقاعات اللغة الهندية.
وبصفتها مترجمة نشأت في بيت فني، ترى روكويل أنه لا ينبغي للمرء أن ينظر إلى الترجمة على أنها تمثيل ناقص لأصل متفوق وغير قابل للتحقيق، وأن علينا أن نقرأ الترجمات على أنها أعمال أصلية لنستمتع بها أكثر، فدائماً ما يهتم القارئ بما يضيع في الترجمة حتى أصبحت كليشيهات. وبالطبع فهناك ما يضيع في الترجمة، لكن هل هذا سيء؟ ربما لم تكن حتى أشياء جيدة، بينما يكتسب النص كثيراً في الترجمة، فالترجمة تفسير وانعكاس وإعادة صياغة، وبالتالي فهي كما تحتوي على شيء قديم لا تخلو في المقابل من شيء جديد يتمثل في روح المترجم.