في محاولة للانفكاك من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي وتطبيق القواعد الأولى لحلم إقامة الدولة، يدرس القطاع المصرفي الفلسطيني تدشين أول عملة رقمية يجري تداولها في قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء، وتكون خاضعة للمعاملات الرسمية الداخلية والتداول المحلي فقط، في خطوتها الأولى قبل تداولها في التجارة وأسواق المال.
بدأت فكرة تدشين عملة رقمية عند الفلسطينيين عام 2018، وكانت حينها مجرد اقتراحات من الاقتصاديين، لكن عام 2019 تبنتها الحكومة الفلسطينية، وقال حينها رئيس الوزراء محمد أشتية إن "حكومته تعمل مع سلطة النقد على إطلاق عملة رقمية وتدرس خيارات ذلك مع جهات الاختصاص في العالم". وعام 2021، تحدثت سلطة النقد بشكل رسمي عن مناقشتها لاقتراحين حول نقود رقمية خاصة للفلسطينيين.
خاضع لرقابة حكومية
تتمثل فكرة تدشين عملة فلسطينية في إعادة إحياء الجنيه الفلسطيني، لكن بصورة رقمية فقط، من دون طباعته ورقياً، على أن يكون خاضعاً لرقابة حكومية، وليس تابعاً لسياسة التشفير الكامل، وكذلك يجري العمل به ضمن سياسات تداول سلطة النقد الفلسطينية التي تعتمد حالياً بشكل رئيس على عملة الشيكل الإسرائيلي، إلى جانب أوراق نقدية من الدولار الأميركي والدينار الأردني كعملات مساندة بديلة.
يوضح محلل السياسات المالية إبراهيم الشقاقي أن "العملة الرقمية تختلف عن تلك العملات المشفرة، فالأولى صالحة للتداول الرسمي، لأنها صادرة عن جهات حكومية وبنوك مركزية، وهناك خطط حكومية في أوروبا بهذا الشأن، بينما تلك المشفرة لا تستند إلى سلطات مالية، وقيمتها لا تستند إلى أساس اقتصادي أو مالي بالمعنى التقليدي".
وبحسب سلطة النقد الفلسطينية (مؤسسة حكومية تحظى ببعض وظائف البنك المركزي)، فإنها تعمل حالياً على الاستقلال النقدي عن إسرائيل، وتعزيز المدفوعات الإلكترونية تمهيداً لإصدار عملة الجنيه الفلسطيني الرقمي.
هدف سياسي واقتصادي
يقول محافظ سلطة النقد فارس ملحم إن "التحول في التبادل المالي للنظام الرقمي يُعدّ حلاً فاعلاً في مواجهة العقبات السياسية والمالية، لذلك نعمل وفق خطط على التقليل من التعامل بالعملة النقدية الإسرائيلية إلى أدنى حد ممكن، وتعزيز المدفوعات الإلكترونية إلى أعلى حد، في إطار إصدار عملتين للنظام المالي الفلسطيني، إحداهما رقمية للتداول اليومي، والأخرى محاسبية (وحدة نقدية تستخدم عند تسجيل المعاملات الرسمية)".
يضيف "نعمل مع الشركاء المحليين على استراتيجية التحول الرقمي، ونسعى إلى إقناع سكان غزة والضفة الغربية باستخدام خدمات الدفع الإلكتروني من دون الحاجة إلى التعامل بالعملة النقدية، من أجل استخدام عملتنا الرقمية في نهاية المطاف، التي نأمل أن توافق إسرائيل وغيرها على استخدامها في المدفوعات الفعلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد خطوة إصدار الجنيه الفلسطيني محاولة سياسية للانفكاك عن إسرائيل، قبل أن تكون فكرة اقتصادية وطنية، يؤكد ذلك حديث أشتية "بأن العملة الرقمية تأتي لتجاوز العراقيل الإسرائيلية، والانفكاك عن التبعية الاقتصادية لتل أبيب"، مشيراً إلى أن "جهات الاختصاص قطعت شوطاً مهماً في الترتيب مع النظام العالمي بشأنها".
في الواقع، يُعدّ الاقتصاد الفلسطيني جزءاً من نظيره الإسرائيلي، وفقاً لبروتوكول باريس الاقتصادي الموقع بين الجانبين، ويسمح لتل أبيب بالتحكم في الحدود الفلسطينية، ويبقيها من دون وسيلة للتبادل المستقل مع العالم، وكذلك يحدد عملة الشيكل ورقة التبادل والمدفوعات الرئيسة في غزة والضفة، فضلاً عن أنه لا يسمح باستحداث عملة فلسطينية منفصلة.
لن يصلح للتداول العالمي
يقول محلل السياسات المالية رامي عبدو إن "الجنيه الفلسطيني الرقمي فكرة سيئة ولا يمكن أن تقتنع بها دول العالم، في ظل عدم وجود اقتصاد فلسطيني، واعتماد الحكومة على المانحين في توفير أموالها، فضلاً عن عدم وجود سيطرة واضحة على منافذ الأراضي الفلسطينية، التي هي من الأساس غير واضحة الحدود".
يضيف "الأموال تستخدم كمدفوعات وبالعادة تدفق البضائع بنسبة 80 في المئة يكون بواسطة إسرائيل، وهي لن تقبل بالعملة الفلسطينية الرقمية، ويبدو أن المسؤولين الحكوميين لم ينتبهوا لوجود 170 ألف عامل يعملون في إسرائيل ويتقاضون رواتبهم منها ثم يعودون حاملين الشيكل، الذي من الصعب التخلص منه".
ويتساءل عبدو "هل تقوى السلطة على صد الهجمات والقرصنة الإلكترونية التي قد تشنها إسرائيل ضد الجنيه الرقمي؟"، لافتاً إلى أن "نجاح العملة الفلسطينية يكون فقط في أراضي السلطة، هذا إن اقتنع السكان بالتخلي عن الشيكل".
إسرائيل غير المكترثة تلاحق المحافظ المالية
على أي حال، وفقاً للخطة الفلسطينية، فإنها تعمل على ترويج فكرة استخدام المحافظ المالية في عمليات التبادل، إذ بات نحو 32 في المئة من سكان الأراضي الفلسطينية يجرون تداولهم المالي بواسطة المحفظة، ثم يجري بعد ذلك إدراج خاصية الجنيه الفلسطيني في المحفظة الذي يمكن تحويله مقابل الشيكل الإسرائيلي بسعر صرف محدد، وبعدها تطلق الحكومة العملة الرقمية رسمياً، لكن تكون خاصة للتداول المحلي بين السكان، وتشمل قطاع المصارف.
في الحقيقة، إسرائيل تبدو غير مكترثة للقرار الفلسطيني، يقول باري توبف كبير المستشارين السابق لمحافظ بنك إسرائيل، "قد يصدر الفلسطينيون عملة رقمية، لكن من غير المرجح أن تكون عملتهم وسيلة حقيقية للتبادل المصرفي والتجاري، إن هذه الخطوة لن تحل مكان الشيكل الإسرائيلي أو العملات الأخرى المتداولة في مناطقهم، بالتالي لن تكون لها قيمة ولا وحدة محاسبة، والسبب وراء ذلك التداخل الكبير في الاقتصاد وافتقار الفلسطينيين لمقومات تؤهلهم استكمال تنفيذ خطتهم".
وعلى الرغم من اطمئنان إسرائيل بشأن عدم قدرة الفلسطينيين على إصدار الجنيه الرقمي، فإن الجيش بدأ يلاحق العملات الرقمية في قطاع غزة بالتحديد، وأصدر وزير الدفاع بيني غانتس أربع قرارات من شأنها احتجاز عملات رقمية وأخرى مشفرة، من حوالى 30 محفظة مخصصة للتداول في غزة. وكذلك خصص غانتس وحدة من جهاز السايبر لمتابعة المحافظ المالية الفلسطينية والعمل على تحجيم التداول فيها.