مثّل فضّ الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم في فجر 3 يونيو (حزيران) نقطة تحول فارقة في مسار ثورة ديسمبر (كانون الأول) السودانية ضد نظام الإخوان المسلمين المتمثل في حكم الجبهة الإسلامية. فما بعد فضّ الاعتصام يمثّل بلا شك مرحلة مختلفة عما قبله، وهذا التأثير لا يقف عند هذا الحدّ، بل يمتدّ إلى تفاعلات المشهد السوداني كله واتجاهات تطوره، ومستقبل السودان ليس فقط كعملية سياسية ونظام حكم، وإنما أيضا كدولة وكوطن، ويطرح العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام عن الاستقرار في مقابل الانزلاق إلى الفوضى، وعن التفكك في مقابل التماسك والحفاظ على الوحدة والبحث عن مستقبل مشترك.
أجواء ما قبل فضّ الاعتصام
إذا نظرنا إلى الأجواء السياسية التي أحاطت بالاعتصام الذي كان قد بدأ في 6 أبريل (نيسان)، تيمناً بذكرى انتفاضة 6 أبريل (نيسان) 1985 التي أطاحت الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، يمكننا أن نلاحظ بيسر أنه قد تحوّل إثر إطاحة عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) إلى ساحة واسعة، ليس فقط لرفع المطالب السياسية، وإنما تحوّل إلى "كرنفال" واسع مارست فيه فئات عديدة من الشعب السوداني كل ما حُرمت منه من حرية طوال ثلاثة عقود، وأفرزت أيضا إبداعات شتى من خلال القدرات التنظيمية والمنصات الخطابية وورش الفنون المختلفة، وبدا كأن هذه الساحة قد تحولت إلى بوتقة تفاعل وانصهار جديدة لكل مكونات التعددية السودانية، وكأنها تبشّر بسودان المستقبل المأمول الذي تطمح إليه هذه الثورة الشعبية بعد قهر ممتد وظلام حالك، وخطابات زائفة وشائهة جثمت على صدور السودانيين لعقود.
كان تحالف الحرية والتغيير قد حرص على إبقاء جذوة الاعتصام متقدة، بل وعمل على رفدها باستمرار بأعداد كبيرة من المعتصمين من خلال الدعوة إلى تسيير المواكب والمسيرات والتوافد إلى الاعتصام كلما طرأ طارئ في عملية التفاوض مع المجلس العسكري. كما استطاعت قوى الحرية والتغيير أن تنتزع من المجلس العسكري الاعتراف بأنها ممثل الثورة السودانية، وحصلت بهذه الصفة على مكاسب كبيرة، تمثلت في الموافقة على تشكيل التحالف لحكومة مدنية تدير البلاد، باستثناء وزيري الداخلية والدفاع اللذين يُتركان لترشيحات المجلس العسكري، وكذلك الحصول على 67% من المجلس التشريعي للفترة الانتقالية، مع مدّ المرحلة الانتقالية إلى 3 سنوات بدلا من اثنتين. وبقي الخلاف على لِمَنْ تكون الأغلبية والرئاسة في مجلس السيادة؟
خلال هذه الفترة التي امتدت لنحو خمسة أسابيع، كان الاعتصام أداة الضغط الرئيسة لدى تحالف الحرية والتغيير، وكان موقف المجلس العسكري في الاحتفاظ بأغلبية مجلس السيادة ورئاسته، يستند إلى أنه شريك في الثورة، إذ إنه من أزاح البشير من السلطة، بعد أن بات واضحاً أن صلاحيته السياسية قد انتهت وأن استمراره في السلطة أصبح يشكل حمولة زائده، ليس على السودان كدولة ووطن فحسب، بل على نظامه نفسه.
على الناحية الأخرى، كان تحالف الحرية والتغيير -أو في الأقل القوى النافذة داخله- يرى أن الجيش قد انحاز لمطالب الشعب، وأن السلطة كاملة من حقّ ممثلي الثورة لإنفاذ المطالب التي خرجوا من أجلها، بإزالة كل النظام الإخواني برموزه ومؤسساته وتوغله في دواليب الدولة وفي الحياة الاقتصادية، وطيّ صفحة "الإسلام السياسي" ككل، متجاهلا أن النظام السابق لا يزال قائما ومتغلغلا في كل أجهزة ومؤسسات الدولة بلا استثناء، وأن هناك قوى سياسية واجتماعية كانت متحالفة معه أيديولوجيّاً ومصلحيّاً، وأن هذه القوى تشعر بخوف كبير من التعرض لمحاكمات ومطاردات تقصيهم وتسلبهم ما جمعوه في العهد الماضي.
غير أن التطمينات المتكررة التي دأب المجلس العسكري على إطلاقها بأنه لن يلجأ إلى فض الاعتصام بالقوة، أدت إلى حالة من الاطمئنان والتراخي لدى المعتصمين، وأيضا لدى تحالف الحرية والتغيير المعبر عنهم. وقد انعكس ذلك بلا شك على سلوكهم التفاوضي المتشدد، وربما أسهم في ذلك أيضا، كون الاعتصام قد اجتذب اهتماما إعلاميا ودبلوماسيا عالميا واسع النطاق، وقام عدد من السفراء الأوروبيين بجولات داخل الاعتصام والتحاور مع المعتصمين، وسادت حالة من الشعور العام بأن الاعتصام محصّن ضد الفضّ بالقوة، رغم الشكاوى المستمرة من المجلس العسكري بأن هناك تعطيلاً للطرق وتأثيراً على حياة الناس، ووقوع أكثر من حالة للصدام بهجمات مسلحة راح ضحيتها عدد من القتلى والمصابين.
المفاجأة والقوة المفرطة
حين وقعت عملية الفضّ فجر الثالث من يونيو (حزيران) الموافق 29 رمضان، كان وقع هذه العملية صادماً ومربكاً إلى حدّ بعيد. فقد كانت عملية الفضّ المفاجئة خارجة عن الأجواء التي سادت قبلها، لأنه تم أيضا باستخدام عنف مفرط وبإطلاق الذخيرة الحيّة وإحراق الخيام في مقر الاعتصام بمن فيها، كما أفادت العديد من التقارير بوقوع حالات اغتصاب وإلقاء العديد من الجثث في النيل، وشمل أيضا مطاردات واسعة للمحتجين إلى مناطق ومسافات بعيدة عن مقر الاعتصام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا العنف المفرط والوحشي ضد سلميين عزل، أشار إلى أن أهداف عملية الفض لم تقتصر على الأهداف السياسية التي يمكن تصورها، وهي إجهاض ونزع أداة الضغط التي كان يتكئ عليها تحالف الحرية والتغيير، ولكنها أظهرت بوضوح وجود روح غلّ وانتقام وتصفية حسابات من القوات المشاركة في الفض، واشتدّ الجدل حول هوية المشاركين فيها بالتحديد، رغم الاتفاق العام على نسب العملية برمتها إلى قوات الدعم السريع التي يقودها الفريق حميدتي.
وتجمع الروايات على أن هناك عددا هائلا من العربات المسلحة والجنود الذين يقدر عددهم بعشرة آلاف، دخلوا إلى محيط ساحة الاعتصام من اتجاهات عدة، بزيّ قوات الدعم السريع، وقد تم استخدام الذخيرة الحية والعصيّ والضرب بالسياط، وإحراق الخيام والمنصات. وبيّنت تقارير لجنة الأطباء المركزية أن معظم الوفيات نتيجة الإصابات بعيارات نارية، وأن بعض الجثامين تشوهت ولم يتم التعرف عليها، كما تم استخراج عدد من الجثامين من النيل. وتقول إحصاءات لجنة الأطباء أن عدد المتوفين بلغ 218 شخصا، بالإضافة إلى مئات المصابين وأعداد من المفقودين، بينما يصرّ المجلس العسكري على أن إحصاءات وزارة الصحة السودانية هي الصحيحة، وأن عدد القتلى لا يتجاوز 60 شخصا.
من قام بعملية الفض؟
مِن المسلّم به أن هذا العدد الضخم من القوات والآليات لا يمكن أن يتحرك من دون موافقة مسبقة من المجلس العسكري بكامله، فتحريك مثل هذه القوات يحتاج إلى تنسيق مسبق من جهات عدة، الأمر الذي لا يمكن السماح به في مثل هذه الظروف التي يمر بها السودان، إلا من خلال القيادة العليا التي تتمثل في المجلس الانتقالي. غير أن المتحدث باسم المجلس خرج في ذلك اليوم نافيا فضّ الاعتصام، وقال إن التحرك كان يستهدف تنظيف منطقة "كولومبيا" باعتبارها تشكل وكرا للممارسات السالبة وتهديدا للمارة، وإن هناك خطأ وقع بمطاردة بعض الفارين إلى ساحة الاعتصام، وأكد أنه قد ترتب على هذا خروج عدد من المعتصمين من ساحة الاعتصام، ولكنها مفتوحة ويمكن العودة إليها لمن يريد.
بطبيعة الحال لم تكن هذه الإفادة صحيحة، بل كانت تسعى إلى امتصاص الصدمة والتخفيف من ردّ الفعل الإعلامي، حيث تم قطع الإنترنت استباقا لعملية الفض، وبالتالي كان من المتصور أنه يمكن تقديم رواية تهوّن من الحدث وتحاصره. ورغم ذلك خرجت العديد من التقارير والفيديوهات المصورة التي تشير إلى حجم ما جرى.
تعددت الروايات التي أشارت إلى أن هناك عناصر من جهاز الأمن والدفاع الشعبي والأمن الطلابي قد شاركت في عملية الفض مرتدية زي الدعم السريع، ومعروف أن هذه المنظمات الأمنية تتكون من عناصر النظام السابق وعضوية "الإسلامويين"، وأن هذا ما قد يفسر العنف المفرط والإصرار على تصفية عدد كبير من المعتصمين للانتقام والتشفي، وكذلك لبث الخوف والرعب، حيث كان قد تم أيضا استهداف شخصيات محددة من المعتصمين كانت مسؤولة عن منصات الخطابة وعن الترتيبات الفنية والتنظيمية داخل الاعتصام.
تصريحات المجلس العسكري، وما أعلنه المتحدث باسم لجنة التحقيق العسكرية، أشارت إلى أن اللجنة توصلت إلى ضلوع عدد من الضباط من الرتب المختلفة وثبوت مسؤوليتهم عن إخلاء منطقة ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة دون أن يكونوا ضمن القوة المختصة بتنظيف منطقة كولمبيا، وأن دخولهم إلى ميدان الاعتصام تم دون تعليمات من الجهات المختصة. وكانت تقارير سابقة قد أشارت إلى أن عدد هؤلاء يتراوح بين 700 و1100 ضابط. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه الحالة: هل هناك حالة من عدم السيطرة وعدم الانضباط داخل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية تصل إلى هذا المستوى الخطير الذي ينذر بفوضى شاملة؟ وكيف يمكن للمجلس العسكري أن يدعي أن مسؤوليته هي الحفاظ على الأمن، بينما تتحرك قوات بهذا العدد دون علمه أو موافقته؟ بل كيف يستمر المجلس دون أن تتم إزاحته بسهولة عبر انقلاب من مثل هؤلاء؟ ربما نتلمس بعض المؤشرات من أن مليشيات النظام السابق المتمثلة في "الدفاع الشعبي" و"الأمن الشعبي" وغيرها، كان قد تم حلها عقب سقوط البشير مع ضمّها إلى القوات المسلحة.
المثير في الأمر هو حالة التضارب والارتباك التي سادت تصريحات ومواقف المجلس العسكري بعد عملية الفض، حيث تم نفي مسؤولية المجلس وأنه لم يتخذ قرارا بذلك، ثم عاد المتحدث الرسمي للمجلس في أول مؤتمر صحفي موسّع عقده في 13 يونيو (حزيران) الحالي، أي بعد عشرة أيام من عملية الفض، وذكر أن المجلس العسكري بكامل هيئته قد انعقد في اليوم السابق على فض الاعتصام وأصدر قرار الفض بحضور رئيس القضاء والنائب العام، وأثار هذا الاعتراف ضجة كبرى، وخرج النائب العام لينفي حضوره اجتماعا بهذا الشأن وأن ما ذُكر أمامه هو تنظيف منطقة كولومبيا بشكل حضاري. وعاد بعدها المتحدث باسم المجلس ليقول إن تصريحاته فُهمت خطأ، على الرغم من أن مؤتمره الصحافي كان مذاعا على الهواء في التلفزيون السوداني الرسمي، وأُعيد أيضا بالكامل بعد عدة ساعات، دون أن تجرى أي عمليات مونتاج للفقرات غير المرغوب فيها، إذا كان هناك تقدير بأنها قد صدرت بالخطأ، أو أن هناك رغبة في التراجع عنها.
ومما يزيد الأمر إرباكا التصريحات التي أدلى بها حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، أخيرا، بأن فض الاعتصام "فخ نُصب لقواته"، فمن الذي نصب له هذا الفخ؟ وكيف له أن يقع فيه؟ وما هو موقع المجلس العسكري من ذلك؟
لجان التحقيق
طالب تحالف الحرية والتغيير بأن تكون هناك لجنة تحقيق دولية تحدد الجناة في عملية الفض، لتقديمهم للمحاكمة، ووضع ذلك شرطا لاستئناف عملية التفاوض.
وقد رفض المجلس العسكري ذلك، وبادر إلى تشكيل لجنة تحقيق عسكرية، وأسند إليها هذه المهمة، في الوقت الذي أعلن فيه النائب العام السوداني أيضا تشكيل لجنة للتحقيق. وفيما بعد أصدر موقفا رسميا بعدم قبول لجنة تحقيق دولية باعتبار أن القضاء والنيابة السودانيين مستقلان، وأن مثل هذه اللجنة تقع في إطار اختصاصاتهما.
اللجنة العسكرية كان من المفترض أن تصدر تقريرها في 16 يونيو (حزيران)، ولكن المتحدث باسمها أعلن أن هناك تأخيرا بسبب عدم وصول العديد من البيانات والإفادات الضرورية من بعض الجهات الرسمية ذات الصلة. في حين أن لجنة النائب العام ما زالت في بدايات عملها، ومن الواضح أنها سوف تستغرق وقتا، وأعلنت أن تحقيق اللجنة العسكرية أمر منفصل ولا يعنيها.
الموقف الأميركي يطالب بلجنة تحقيق مسنودة دوليا، أي أن تحظى بدعم وإسناد دولي فني أو غير فني، مما لا يعني بالضرورة أن يكون فيها أعضاء من خارج السودان، الأمر الذي لا يلبي مطالب الحرية والتغيير.
وهكذا يبدو أن الاتجاه العام في التعاطي مع لجنة التحقيق أو تحديد مسؤولية إصدار القرارات بفض الاعتصام، هو إدخالها في نفق طويل من الإجراءات والتحقيقات، التي يترتب عليها أحكام أو عقوبات لأشخاص ذوي ترتيب متأخر في التسلسل القيادي، مع الاعتماد في الوقت نفسه على أن الأوضاع السياسية سوف تتحرك إلى مواقع وخانات جديدة، سواء عبر التفاوض مع الحرية والتغيير، أو من دون في الأغلب، الأمر الذي سيجعل القضية برمتها تتراجع على قائمة الاهتمامات والأولويات.