يبدأ البث في ساعة متقدمة من الليل، ويضم رسائل من الروس تشجع الجنود الأوكرانيين على الاستسلام، تتبعها تهديدات بالموت إذا رفضوا ذلك، ومن ثم موسيقى موكب جنائزي. وتأتي بعد ذلك فترة من الصمت، ثم دوي القصف المدفعي.
هذا هو النموذج السائد في معارك عدة تدور في دونباس [منطقة حوض نهر الدون] شرق أوكرانيا، التي تعتبر حالياً ساحة الحرب الأكثر شراسة. وتلفت الحكومة الأوكرانية إلى أن المنطقة تتعرض لأكبر هجوم بري تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو هجوم من شأنه أن يقرر مصير البلاد.
وأعلن فولوديمير زيلينسكي أن "روسيا تريد أن تدمر دونباس" وأن حملة موسكو تؤدي إلى إصابات مروعة في أوساط المدنيين والعسكريين، مع وصول عدد القتلى الجنود إلى أكثر من 100 يومياً. وإذ يبقى عدد المصابين مجهولاً، فإن إجراء حساب تقريبي باستخدام المعدل الوسطي المتعارف عليه للضحايا في ميدان المعركة - يتمثل في أن عدد الجرحى يبلغ ثلاثة أضعاف القتلى – يدلّ على وجود أعداد كبيرة للمصابين.
وبعدما أخفقت القوات الروسية في الاستيلاء على العاصمة كييف، وعلى خاركيف ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، أخذت تركز جهودها على الإقليمين الانفصاليين، دونيتسك ولوغانسك. وقد يتيح الاستيلاء على أراضٍ في هذه المنطقة، إضافة إلى احتلال ماريوبول، لفلاديمير بوتين أن يدعي تحقيق النصر في ما يسمّيه "عملية عسكرية خاصة".
ويُظهر ما يجري هنا على خط المواجهة مدى القوة النارية التي استثمرها الكرملين في دونباس، من مدفعية وصواريخ وطائرات حربية. ومع أن القوات الأوكرانية تبدي مقاومة عنيدة، فإنها تجد نفسها بشكل متكرر أمام عدو يفوقها تسليحاً بكثير. لقد سقطت سلسلة من البلدات والقرى في يد الروس، ومنها على سبيل المثال سفيتلودارسك، حيث تقع محطة طاقة حرارية، ما يزيد احتمال انقطاع التيار الكهربائي عن الشطر الأكبر من دونباس.
ويقول بوغدان، وهو عريف في مشاة البحرية، "القصف وحشي. وهم يركزون على هدف ويواصلون استهدافه بموجة من القذائف تلو أخرى؛ إن مواجهة هذا صعب للغاية". ويضيف "إنهم يقصفون مواقعنا بشكل جماعي قبل أن يتقدموا. ببساطة ليس لدينا ما يكفي من الأسلحة لمواجهة ذلك، ولهذا فإننا نتكبد كثيراً من الخسائر، من قتلى وجرحى".
والعسكري الذي يبلغ 19 سنة، هو واحد من الجرحى الذين أصيبوا إصابات أقل خطورة نسبياً ولا يزالون قادرين على السير، إذ تلقّى شظية في ظهره خلال اشتباكات عنيفة وقعت في الغابات بالقرب من قرية بوهوروديتشني، التي لقي فيها عدد من رفاقه مصرعهم.
وكانت تلك هي المرة الثانية التي يتعرض فيها لإصابة في شهرين ونصف الشهر. فهو أصيب بشظية في صدره خلال معركة إيزيوم، وهي مدينة يجري القتال من أجل السيطرة عليها بسبب أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى منطقة دونباس. ويقول الأوكرانيون إن الجنرال الروسي أندريه سيمونوف سقط خلال القتال هناك.
ويشير بوغدان إلى أنه رغب بالعودة إلى الخط الأول في أسرع وقت ممكن بعد إصابته الأخيرة، وذلك لأنه عسكري نظامي مدرب. إن عدداً من كتائب المتطوعين سارعت بالانتقال إلى خط المواجهة بعدما خضعت لقدر أقل بكثير من التدريب [المعتاد] بسبب ضيق الوقت.
ويصف الجندي الشاب من سلاح مشاة البحرية خلال إخلائه من أجل الحصول على العلاج الطبي بصورة طارئة، كيف أنه شنّ هو وزملاؤه هجوماً مضاداً تلو آخر على المواقع الروسية مسلحين بقذائف "آر بي جي" وحدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر بوغدان "نجحت الآر بي جي في بعض الأحيان [في تحقيق الغاية المرجوة]، بطبيعة الحال، ويبدو الأمر ممتازاً حين تفعل... لكن المشكلة تكمن في أن الروس يستخدمون دباباتهم الحديثة، وتعلموا من أخطائهم. ويصبح الأمر أكثر صعوبة وأشد خطراً لتحقيق الفاعلية المطلوبة عن طريق قذائف آر بي جي وحدها".
ويتابع "يحاول الروس استعمال أمور نفسية، مثل هذا البث قائلين إننا سنلقى الموت. غير أن مصدر القلق الحقيقي هو مدفعيتهم البعيدة المدى. وما لم نحصل على أسلحة لمواجهة الروس، ونحظى بفرصة للقتال، فعندها يجب أن يواجه كثيرون منا احتمال التعرض للقتل، كما أعتقد".
وبدأت إمدادات صواريخ "جافلين" والجيل التالي من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات (N-LAWs) التي زودهم بها الأميركيون والبريطانيون وكانت فاعلة، بالنفاد.
ويردد عدد من الجنود النظاميين الأوكرانيين الذين يقاتلون في دونباس رواية رجل البحرية ذاتها بشأن الخسائر التي يتكبدونها بسبب القوة النارية الروسية، ومدى الإحباط الذي يشعرون به نظراً إلى عدم وجود ما يكفي من الأسلحة للرد.
تعرض فاليري بيسكوفي، 22 سنة، وهو ممن يقومون بتشغيل طائرات مسيّرة، للإصابة بنيران المدفعية الروسية خلال معركة يوم الاثنين، قال إنها "احتدمت أكثر فأكثر فيما واصل الروس إطلاق مزيد من النيران". وقُتل اثنان من رفاقه، بينما أصيب هو بشظايا في ساقه.
ويلفت إلى أن "الروس يستعملون المدفعية الثقيلة وكذلك الغارات الجوية. وإن أحد تكتيكاتهم يبدو وكأنه يتمثل في إجبارنا على الدخول في موقع ما ومن ثم قصفه. وهم يستعملون عدداً من طائراتهم المسيّرة من نوع أورلان [أورلان-10]، التي يمكنها أن تحدد موقعنا... وبالطبع من الأفضل لو كان لدينا مزيد من قطع المدفعية، ومن المؤمل أننا سنحصل عليها. وفي غضون ذلك، علينا أن نبذل أقصى ما نسطيع".
لقد وعد الغرب [أوكرانيا] بأسلحة أكثر تطوراً، وهجومية، وتم تسليم بعضها. غير أن القلق يكمن في ما إذا كانت ستصل في الوقت المناسب، وبكميات كافية، للمساعدة في إيقاف التقدم الروسي وتقليل العدد المتزايد من الخسائر بالأرواح في دونباس. وصرح الرئيس زيلينسكي بأن الأسلحة الروسية تفوق مثيلتها الأوكرانية في منطقة دونباس بنسبة 20 إلى واحد.
التوفر المفترض لأسلحة موردة من قبل دول أجنبية لا يترجم دوماً إلى واقع على الأرض. ومن الأمثلة على ذلك مدافع "الهاوتزر M777" عيار 155 ملم، التي أمدتهم بها الولايات المتحدة أخيراً، وتم تقديمها على أنها ستكون عاملاً مغيّراً لقواعد اللعبة في الصراع. غير أن مسؤولين أوكرانيين يشيرون إلى أنه قد جرى تسليم 90 نظاماً فقط حتى الآن. ويعتقد أنه لم يصل إلى الجبهة من ذلك العدد سوى 12 منها.
وكانت هناك أيضاً تأكيدات على أن النظم ليست مزودة بأنظمة كمبيوتر متقدمة. ولم ينفِ البنتاغون ذلك، لكنه ادّعى أن "ردود فعل إيجابية" جاءته من كييف حول قيمة هذه الأسلحة في القتال.
وبشكل مماثل، أعلن إيمانويل ماكرون أنه سيتم إمداد كييف بمدفعية قيصر ذاتية الدفع، والمزودة بمدافع 155 ملم طويلة المدى. ويتلقى الأوكرانيون الذين سيشرفون على هذه المدافع تدريبات في فرنسا. غير أن قليلاً من هذه الأنظمة موجود حالياً قيد الاستخدام لتلبية أغراض المعركة الحالية في الشرق.
وقال أنطون غيراشتشينكو، وهو وزير سابق ومستشار رفيع المستوى للحكومة الأوكرانية "بالطبع نحن ممتنون لحلفائنا الغربيين على الأسلحة التي أمدونا بها وعلى تلك التي وعدوا بإمدادنا بها"، مضيفاً "السؤال الكبير الآن بالأعداد؛ ليس فقط [بأعداد] الأنظمة، ولكن بكمية الذخائر أيضاً. نريد من حلفائنا أن يزيدوا الإمدادات على وجه السرعة حتى يمكن تمريرها إلى خط المواجهة حيث هناك حاجة ماسة إليها من قبل قواتنا".
وأضاف "أعتقد أن [أفراد] قواتنا أظهروا أنهم قادرون على الدفاع عن [الأراضي بأنفسهم] من دون أن يضطر حلفاؤنا الغربيون إلى نشر قوات على الأرض، إذا كانت لدينا الأدوات [اللازمة] للقيام بذلك. لقد تكبدت روسيا خسائر فادحة في هذا الغزو، لكنها حالياً تدفع بكميات هائلة من الموارد إلى دونباس. هذا وقت حرج بالنسبة إلينا".
وتصرّ عناصر أوكرانية اُصيبت بجروح في الصراع على تصميمها على العودة إلى القتال. غير أن هؤلاء يشعرون بالقلق من أنهم سيستمرون في مواجهة الاحتمالات القاسية ذاتها وإمكانية خسارة مزيد من الأراضي.
تعرّض سيرغي، 26 سنة، وهو من حرس الحدود، لإصابات في ذراعه وساقه حين انقلبت السيارة التي كان على متنها أثناء مهاجمتها. ويقول "نحن نحمل بنادق AK-47 [كلاشنيكوف] ولا شيء أكثر من ذلك بكثير. كان ذلك مناسباً على الأرجح في أوقات السلم، لكنه طبعاً ليس كافياً الآن... سنواصل بالطبع الدفاع عن بلادنا، لكن الوضع صعب للغاية".
وقد أدّت كتائب من المتطوعين دوراً رئيساً في الدفاع عن أوكرانيا خلال هذه الحرب. وفي معظم الحالات، لم يكُن المقاتلون خضعوا لكثير من التدريب الرسمي، وقد قاموا بتدريب أنفسهم بشكل أساسي.
فيكتور أوليسيوك، 33 سنة، أصيب بقذيفة "آر بي جي" خلال قتال التحم فيه الطرفان على مسافة قريبة من بعضهما بعضاً.
ويرى أن "تلقي التدريب على المعركة في معركة [فعلية] ليس فكرة جيدة على الأغلب، لكن لم يكُن لدينا خيار في هذه الحرب... أذاع الروس في الليلة التي سبقت المعركة لحن موكب جنائزي من أجل تخويفنا. حسناً، أنا لست ميتاً، ولذا فهذا انتصار. من الذي سيفوز في نهاية المطاف؟ أعتقد أنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار حين يصبح الطرفان منهكين".
*نشر المقال في اندبندنت بتاريخ 27 مايو 2022
© The Independent