عرفت موريتانيا صناديق الاقتراع في خمسينيات القرن الماضي، إذ تنافست شخصيات موريتانية على التمثيل في البرلمان الفرنسي الذي خصص مقاعد لما كان يُعرف بـ"فرنسا ما وراء البحار". في هذه الفترة، لعب الشعر دوراً كبيراً في الدعاية للمرشحين، كما لعب المطربون دوراً لا يُستهان به في تمجيدهم والترويج لهم.
بعد استقلال البلاد، أصبح التنافس أقل حدة، إذ تجري الانتخابات بين مرشحين من الحزب ذاته: حزب الشعب الموريتاني الذي يحكم البلاد وحده، بعد حظر جميع التشكيلات السياسية الأخرى بخاصة "حزب النهضة" المناوئ للقوى الفرانكفونية والوجود الفرنسي عموماً. وتراجعت سخونة الحملات السياسية في هذه الفترة بسبب غياب التنافس الحقيقي على المقاعد وبالتالي تراجع نوعاً ما دور الشعر والموسيقى في الدعاية السياسية.
وعندما قام الجيش الموريتاني بانقلاب عسكري ضد نظام الرئيس المختار ولد داداه عام 1978، توقفت جميع مظاهر الانتخابات لأكثر من عقد من الزمن. وبالتالي، توقف استخدام الشعر والموسيقى في الدعاية السياسية أكثر من عشر سنوات.
وفي عام 1992، أعلن الرئيس معاوية ولد الطايع عن انفتاح ديمقراطي عبر دستور جديد يجيز الانتخابات على مستوى البلديات والبرلمان والرئاسة. فبدأ شعر المناسبات السياسية وموسيقى المهرجانات الدعائية يعودان إلى الواجهة بقوة.
أيقونة الأغنية السياسية
كانت الفنانة المعلومة بنت الميداح (التي أصبحت في ما بعد عضواً في مجلس الشيوخ) أبرز من أشعل التظاهرات السياسية بالموسيقى الدعائية لصالح حزب "اتحاد القوى الديمقراطية" المعارض بزعامة أحمد ولد داداه أو "حبيب الشعب"، كما لقبته الفنانة في إحدى أشهر مقطوعاتها الغنائية.
وبسبب أغانيها السياسية الممجدة للمعارضة والمنتقدة للنظام، تعرضت هذه الفنانة لكثير من المضايقات والإقصاء. تقول بنت الميداح "مُنعت من المشاركة في كثير من المهرجانات الغنائية في الخارج، كما حُظر بث أعمالي في التلفزيون والإذاعة الرسميين على مدى أكثر من 15 سنة". وفي فترة الرئيس المنتهية ولايته، مُنعت بنت الميداح من السفر وتعرضت لبعض المضايقات والسبب بحسبها يعود إلى أغانيها المناوئة لتعديل الدستور وحل مجلس الشيوخ الذي كانت عضواً بارزاً فيه. في المقابل، كان نظام ولد الطايع يجد السند الكبير في أشعار كثيرين من مناصريه فور الإعلان عن انطلاق الحملات الانتخابية.
رئاسيات 2019
تشهد العاصمة الموريتانية نواكشوط، شأن كل المدن الموريتانية، سهرات شعرية وموسيقية تدعو إلى انتخاب هذا المرشح أو ذاك. واعتاد الموريتانيون على تركيب الخيام في الشوارع الكبيرة ومكبرات الصوت لإسماع دعايتهم لمرشحيهم.
وتكاد لا تخلو أي خيمة من سهرة موسيقية ينعشها مطربون من كل الاتجاهات ويرقص الشباب على أنغامها وتتجمع الجماهير للاستماع والتعبير عن المناصرة. هذه السهرات تنتهي عادة في وقت متأخر من الليل. سهرات يرى الشاعر محمد المامي ولد حميدي أنها قد حركت الراكد على الصعيد الثقافي، ممتدحاً دورها على صعيد الفضاء الشعري والأدبي والموسيقي.
سجال شعري
سهرات تمخضت مساجلات شعرية غصت بها مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية. ومن ذلك، قول أحدهم "عاتبني في هجر كالمجافي/ خليل في مودته مصاف/ فقلت له وأي جنى جاه/ قبيلي منه غير أذى الخلاف؟". وعلّق آخر على عشرية الرئيس المنتهية ولايته الثانية محمد ولد عبد العزيز "أيدعوني إلى عشر عجاف/ خليل بالتزلف ذوات صاف/ فما أنا بالذي يسعى لنفع سريع لو أسيق إلى المنافي".
فردّ ثالث "عرفنا من تلونكم صنوفا/ كحرباء تزين في لحافي/ دعوا قصر الرئاسة ودّعـوه/ فهذا الشعب يطمح للتصافي/ فقد سئم العساكر مذ زمان/ وما لاقاه في العشر العجاف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المدون والأكاديمي الشيخ سيدي عبد الله، فتحدث عن السجال الشعري، قائلاً "منذ القصيدة الهندية في مهرجان المدن القديمة، مروراً بسخرية الرئيس عزيز من الشعر والشعراء، واحتقاره لشعراء البلاط، والمشاهِد والشعر المتسيس (نفاقاً وتملقاً وتزلفاً) ينحدر في هوة الانحطاط والرداءة. مات الجمال في حناجرنا وعيوننا، وأضحى القبح يقضم وجودنا الإبداعي... عشرية جنت على كل شيء، حتى الكلمة الشعرية الشريفة، حتى التعبير الشعري الأنيق...".
وكان شعراء موريتانيا كتبوا العام الماضي، معلقة زادت على 100 بيت تنتقد موقف الرئيس الذي وُصف بأنه "معاد للشعر والشعراء"، الأمر الذي نفاه عدد من مستشاريه والمقربين منه.
الشعر والفن أولوية
ويرى أنصار الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز أنه قدم اهتماماً بالشعر والأدب أكثر ممن سبقوه. ثمة وعود من محمد ولد الغزواني الذي يترشح لخلافة صديقه ورفيق دربه أنه سيعطي مكانة خاصة للأدب والفن، إن فاز في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 22 يونيو (حزيران) الحالي.
يأتي ذلك في وقت تنتعش أيضاً أوضاع ممتهني فن الخط والرسم بعد فترات من الكساد. ويقول الشيخ محمد وهو خطاط وفنان تشكيلي "فن الخط على تميزه وجماله أصبح شبه مهجور... شخصياً، تركته وآثرت العمل سائقاً منذ نحو ثلاثة أعوام... لكنني عدت إليه مع بداية الحملات الانتخابية، إذ وجدنا فرصة، نعلم أنها مؤقتة. فالحملات لا تستقيم من دون اللافتات والواجهات الدعائية ولذلك يُقبل علينا الزبائن هذه الأيام".