دفعت تحذيرات أطلقتها رئيسة البعثة الأممية إلى العراق جينين بلاسخارت، من "مخاطر انهيار" كيان إقليم كردستان العراق، القوى الكردية إلى الجلوس على طاولة الحوار للبحث في حلول للأزمة السياسية، فيما يستعد برلمان الإقليم لعقد أولى جلساته بعد تعطيل دائم لنحو شهرين، للبحث في الخلاف على الانتخابات النيابية المقررة مطلع أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وسط تحذيرات من تمديد الدورة النيابية الحالية.
وأشرفت بلاسخارت على اجتماع عُقد في 26 من مايو (أيار) الحالي في مكتب البعثة بأربيل، بحضور قيادات وممثلين عن القوى السياسية الكردية، ضمن ما وصف "بوساطة" تقوم بها البعثة للبحث في أزمة الانتخابات في الإقليم و"المخاطر المحدقة بكيان الإقليم"، وحثت بلاسخارت القوى على "وقف الخلافات وخوض انتخابات شفافة، ومواصلة الجهود للتصدي للتحديات المتعددة التي يواجهها الإقليم".
جاء ذلك في أعقاب اجتماعات عقدها رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني مع زعماء القوى السياسية بمدينة السليمانية، تمخضت عن عقد اجتماع بين الحزبين الرئيسين "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني"، و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني، حيث ينظر للخطوة بكونها مفتاحاً لانفراج في أزمة تشكيل الحكومة الاتحادية المستمرة منذ نحو ستة أشهر نتيجة لصراع محتدم نشب بين الحزبين الكرديين على منصب رئيس الجمهورية بعد انشطار تحالفهما، حيث دخل "الديمقراطي" مع تحالف "إنقاذ وطن" ويضم التيار الصدري، مع كتلتي "تقدم" بزعامة محمد الحلبوسي و"عزم" بزعامة خميس الخنجر، فيما انحاز حزب طالباني لتحالف "الإطار التنسيقي" الذي يضم قوى شيعية مقربة من إيران.
كيان على الحافة
وكشف زعيم "جماعة العدل" الإسلامية المعارضة على بابير في كلمة أمام أنصار حزبه بأربيل عن مضمون مباحثات القوى مع المبعوثة الأممية بالقول، إن الأخيرة "حذرت من عدم إجراء القوى المتنفذة إصلاحات لأن الإقليم بذلك سيواجه مخاطر حقيقية وقد لا يستمر هذا الكيان"، كما أعلن زعيم "الاتحاد الإسلامي" المعارض صلاح الدين بهاء الدين في ختام لقاءات أجراها مع القوى السياسية في بغداد أن "أي مخاطر يواجهها طرف سياسي أو حكومي في الإقليم ستنعكس سلباً على الجميع شعباً وأحزاباً، لذا على كل الأطراف أن تتوحد لمواجهة التحديات".
لكن كبير مستشاري رئيس الإقليم قال، خلال مؤتمر صحافي، إن "رئاسة الإقليم مستمرة لتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية وخلق أرضية مشتركة لتحقيق تفاهم لحل جميع الإشكالات". أضاف أن "مسألة الانتخابات أصبحت سياسية، وهي الآن لدى البرلمان، وهناك اتصالات بين الكتل النيابية، ورئاسة الإقليم تتابع التطورات من قرب، وتبذل قصارى جهودها للمساعدة في التقريب بين الأطراف"، مشدداً على أن "الأهم هو في كون الأطراف متفقة على إجراء الانتخابات في موعدها، ولا تراجع، ويجب التوصل إلى نتيجة"، واستدرك "لكن إلى الآن لم يحدد موعد لعقد اجتماع يجمع كل الأطراف لدى رئاسة الإقليم".
وكانت بلاسخارت حذرت خلال الإحاطة الخاصة التي قدمتها أمام مجلس الأمن الدولي أخيراً من تعمق "الانقسام السياسي في الإقليم"، ودعت إلى إنهاء "حالة الانقسام المناطقي في الإقليم بين منطقة خضراء وأخرى صفراء"، في إشارة إلى الانقسام الإداري بين الحزبين، وتزامن موقف بلاسخارت مع تصريحات للسفير الأميركي ماثيو تولر حذر فيها الأطراف من "أخطار تهدد كيان الإقليم".
ملفات شائكة محلياً ودولياً
ويرجع مراقبون هذه المخاطر إلى أزمات متتالية يتعرض لها الإقليم منذ عام 2014 في اتجاهات عدة، يتصدرها ملف الفساد وتصاعد النقمة الشعبية على السلطة جراء عجزها عن تأمين الرواتب وتردٍّ في الخدمات، في ظل "تراجع في مسار الديمقراطية وغياب للعدالة"، مع توجه بغداد للسيطرة على إدارة ملف النفط الكردي، فضلاً عن مساعي الإقليم للدخول في سوق الطاقة العالمية ليكون جزءاً من الخيارات البديلة لتعويض بلدان الاتحاد الأوروبي عن الغاز الروسي، ما يجعله نقطة خلاف إقليمية ودولية.
وعن دوافع تحذيرات بلاسخارت يرى المحلل السياسي جمال بيره، أن "البعثة الأممية كلفت بمهامها عام 2003، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1500، استجابة لطلب من بغداد، من أجل مساعدة العراق على تجاوز آثار الحرب وتقديم الدعم في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وعندما تحذر بلاسخارت فإن ذلك يمثل الدعوة لإيقاظ القادة السياسيين، والبعض يفسر دعوتها الصريحة بكونه إعلاناً أممياً يكشف في مضمونه عن إخفاق الأطراف السياسية في إدارة البلد". وقال إن "كلام بلاسخارت كان دقيقاً وواضحاً، إذا لم تجرِ القوى الكردية إصلاحات فإن الإقليم سيواجه خطراً حقيقياً ومصيراً مجهولاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن طبيعة تلك المخاطر يوضح بيره، أنها ترتكز "على الخلاف مع بغداد في المقام الأول الذي زاد من ضغوطها في الإقليم خصوصاً في مجال ملفه النفطي، فهي تدفع باتجاه سحب هذا الملف من تحت السلطة الكردية المطلقة وإخضاعه لسلطة شركة النفط الاتحادية، وهذا قد يمتد إلى مؤسسات أخرى، إذا لم يتوصل الطرفان إلى حلول"، مبيناً أن "التوصل إلى اتفاق يبدو صعباً في ظل استمرار الخلاف بين أربيل وبغداد، وكذلك بين الحزبين الكرديين الحاكمين، وما يحصل من تفاهمات داخل البيت الكردي أشبه ما يكون بحل دراماتيكي شكلي لإظهار موقف موحد تجاه بغداد، وتقديم صورة مرضية للمجتمع الدولي".
وبعد مرور نحن شهرين على تعطيل جلسات البرلمان، من المقرر أن تستأنف يوم الخميس المقبل، وفقاً لما أعلنته عضو اللجنة القانونية النيابية روباك أحمد، قائلة إن "الجلسة ستناقش نحو 32 مذكرة مقدمة من النواب والكتل، خصوصاً المواضيع التي تتعلق بالقضايا المعيشية والخدمية للمواطن".
تراكمات الصراع
وتلقي قوى المعارضة وبعض المراقبين مسؤولية تلك المخاطر القائمة على الصراع الدائر بين الحزبين الحاكمين، إذ يؤكد الباحث السياسي كامران منتك، في قراءته لتحذيرات بلاسخارت قائلاً، "سبق أن حذرنا من هذه المخاطر، فالإقليم تشكل على وقع حصول توازن بين القوى الإقليمية والعالمية، وهذا التوازن قد يتغير ويوشك أن يعاد تشكيله بصيغة جديدة، لذا فإن الكرد قد يخسرون كل شيء في حال لم يدركوا ذلك بوعي ويقظة". وأوضح أن "نظرة سطحية للمتغيرات الحاصلة في السياسة الدولية، فإن وجود الأخطار أمر طبيعي، ولكن ما يثير الاستغراب بعد صدور محاذير عن المبعوثة الأممية والسفير الأميركي، بعدها وجه القادة والقوى الكردستانية، الذين لا يمكن أن نعرفهم سواء كسلطة أو معارضة، نداءاتهم إلى العائلتين الحاكمتين لأخذ هذه المحاذير على محمل الجد، لكن في الواقع أن هذه المواعظ والنصائح أصبحت منتهية الصلاحية، وتعكس عدم فهم صلب هذه القوى التي تحكم الإقليم، الذي بات يتهدم يوماً بعد يوم".
وحمّل الباحث السياسي الحزبَين الحاكمين المسؤولية قائلاً إن "نظرة إلى عمر هذه السلطة والبالغ ثلاثة عقود يتأكد لنا أن الحزبين التقليديين هما السبب الأول للمخاطر المحدقة بالإقليم، لقد استهان قادتهما بكل شيء، وباعوا كل شيء بذريعة تطبيق نظام الاقتصاد الحر، ودمروا هذا الإقليم الذي كان أمل الكرد والمناضلين من أجل الحرية، لذا نجد أنهما غير مهتمين بالحفاظ على هذا الكيان ولا يأخذان المحاذير على محمل الجد، فقد ضمنوا لهم الثروات التي تؤمن لهم ولأسرهم في حال خروجهم من هذه البلاد مستقبلاً". أضاف أن "هؤلاء بدلاً من أن يعملوا على تغيير هذا الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يتهربون من مسؤوليتهم التاريخية".
ويتمسك حزب بارزاني مع بعض القوى الصغيرة باعتماد نظام الدائرة الانتخابية الواحدة المعتمد في قانون الانتخابات الحالي، بينما يطالب حزب طالباني ومعه حركة "التغيير" المشاركة في الحكومة، فضلاً عن قوى المعارضة بإقرار نظام الدوائر المتعددة، إلى جانب مطالب بخفض مقاعد نظام "كوتا" الخاص بالأقليات "لعدم وجود إحصائية سكانية دقيقة" فضلاً عن "استغلالها من قبل القوى الكبيرة".
وتطالب مفوضية الانتخابات الكردية برلمان الإقليم بالإسراع "إما في تمديد ولايتها، أو انتخاب مفوضية جديدة، قبل الخوض في مسألة تعديل قانون الانتخابات، نظراً إلى الحاجة إلى وقت كافٍ لإجراء التحضيرات وتأهيل الموظفين واتخاذ اللازم في ما يتعلق بالشؤون الإدارية والمالية". وشددت على أن "جميع القوى تصرح على أنها مع إجراء الانتخابات، لكنها تدرك جيداً أن من دون مفوضية الانتخابات لا يمكن ذلك"، وتؤكد أهمية "تنظيف سجل الناخبين الذي يعود إلى عام 2018، أو اعتماد سجل نظام البايومتري الاتحادي".
انتخابات مختلفة
وأظهرت بيانات أعدتها دائرة الانتخابات في حركة "الجيل الجديد" المعارضة بزعامة رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد "وجود إجماع بين القوى السياسية على أغلب الخلافات السياسية باستثناء الحزب الديمقراطي". وقالت إن "الخلافات تتمحور حول سبع قضايا رئيسة، منها أن كل القوى متفقة على أن تجري الانتخابات تحت إشراف سواء مفوضية الانتخابات الاتحادية أو مفوضية الإقليم"، مشيرة إلى أن "كتلة الجيل الجديد كانت الوحيدة التي تؤيد أن تكون مفوضية انتخابات الإقليم في حال إشرافها على الانتخابات بإشراف من قضاة لا عناصر حزبية".
وحول الخيار بين اعتماد سجل ناخبي الإقليم أم بغداد، أو اعتماد نظام الدائرة الواحدة أم الدوائر المتعددة، وكذلك الخلاف المتعلق بين توزيع مقاعد كوتا الأقليات على المدن أم السماح للأقليات بالمنافسة عبر قوائم خاصة بهم، قالت إن "الحزب الديمقراطي يخالف الجميع، وهو مع اعتماد سجل ناخبي الإقليم ونظام الدائرة الواحدة، كما رفض المقترحين المتعلقين بمقاعد الكوتا".
من جهته، توقع عبد الواحد أن تكون الانتخابات المقبلة "مختلفة تماماً عن سابقاتها". وقال خلال مؤتمر صحافي عقده في السليمانية، إن "هناك توجهات فعلية من المجتمع الدولي لمتابعة ما يجري في الإقليم، خصوصاً أن رئيسة البعثة الأممية اجتمعت مع القوى الكردية وستواصل اجتماعاتها، ولا ننسى أن مراقبة منظمة الأمم المتحدة للانتخابات الاتحادية الأخيرة كانت إيجابية وفازت خلالها وجوه جديدة"، مهدداً "بتنظيم تظاهرات واسعة بالتعاون مع قوى كردية في حال تأجيل الانتخابات".
توقعات بالتأجيل
لكن النائب البارز عن كتلة "التغيير" على حمه صالح، كشف في تصريحات لإذاعة "صوت أميركا"، عن أن "الحزبين الحاكمين متفقان وفق خطة لعدم إجراء الانتخابات في موعدها، وإلا لماذا لم يناقشا هذا الأمر قبل سنة من الآن"، وأردف "كما أنهما متفاهمان حول المقترحات المتعلقة بتعديل قانون الانتخابات، وأن يجري هذا التعديل باتفاق لأن هناك خلافات عديدة بينهما في هذا الملف"، في حين أكد ملا بختيار القيادي المخضرم في حزب "الاتحاد" خلال مؤتمر صحافي أن "تحرك المنظمة الدولية أسهم بتهدئة الأوضاع في الإقليم، خصوصاً بعد تحذيرات بلاسخارت، فالإقليم ليس بمعزل عما يجري في العالم وعلى القيادات أن تدرك جيداً أهمية التوقف عن المناكفات"، وأردف أن "من يقلل من شأن المخاطر في الإقليم لا يفهم شيئاً في السياسة".
إلا أن السياسي محمد رؤوف يعتقد أن الحوار الدائر يفتقر إلى استراتيجية ورغبة حقيقية لتجاوز الخلافات. وقال إن "الحزبين سيتفقان في النهاية على تهدئة الأوضاع، لكن لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، لأنهما سبب في إضاعة وخسارة الكثير، سيتفقان على الانتخابات وآلية إدارة دفة الحكم في الإقليم، والعلاقة مع بغداد، لكنهما في الواقع مضطران وليس نابعاً من دهاء واستراتيجية بهدف تحسين الوضع القائم"، مبيناً أن "الحزبين على صعيد وضعهما الداخلي ليسا على ما يرام، وكذلك علاقتهما بالشارع ومع القوى السياسية في أسوأ حالاتها، وهو ما دفعهما إلى القبول بالحوار، وهذا يعني أنه ليس حلاً استراتيجياً بل تكتيك لن يخدم مستقبل الإقليم وملف العلاقة مع بغداد".