هناك في التاريخ الحديث للصين في القرن العشرين إمبراطور وإمبراطورة يوصف كل منهما بأنه "الأخير". أحدهما كان إمبراطوراً حقيقياً بدأ حياته حاكماً طفلاً عند بدايات القرن الماضي، لينهيها عامل حدائق يدور بائساً صامتاً في طرقات بكين وساحاتها حيث يقوم بعمله المتواضع بكل دأب وأناة، بعد أن "أدبته" و"كيفته" ثورة ماوتسي تونغ الثقافية الصينية جاعلة منه مواطناً صالحاً، ليأتي المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي ويحقق عنه فيلماً ملحمياً رائعاً سماه في عنوانه "الإمبراطور الأخير". أما الثانية، فلم تكن في الحقيقة إمبراطورة بل زوجة لمؤسس الصين الحديثة الرئيس تشانع كاي تشيك، هي التي ستنهي حياتها في منفى ذهبي في نيويورك وتتصرف كحاكمة وامرأة قوية حتى أيامها الأخيرة. وعلى ذلك كان من الطبيعي للباحثة المؤرخة الأميركية هانا باكولا أن تلقبها بـ"الإمبراطورة الأخيرة" في كتاب سيرة أصدرته عنها قبل عقد ونصف عقد من الآن، أثار سجالاً، لكنه أعاد تلك المرأة إلى الواجهة فارضاً نوعاً من المقارنة بينها وبين صنوها في الإمبراطورية، وهي التي أتت من الأسفل لتصل إلى الأعلى، وهو الذي أتى من أعلى الذرى لينتهي في الأسفل. ومن خلالهما عاد تاريخ الصين إلى الواجهة أيضاً، بل لعل في مقدورنا القول إن تاريخين متضاربين وإن كانا متكاملين للصين قد عادا معاً. واللافت في الحالين أن من أرخ لهما كان غربياً ولم يخلُ منظوره من تعاطف، بل من محاولة الإيحاء بالإطلالة من خلالهما على مصير إنساني ما.
فاتنة صينية من أميركا
مهما يكن، ما يهمنا هنا هو تلك السيرة التي كتبتها هانا باكولا لامرأة انطلقت حياتها أصلاً من أميركا مغمورة بإعجاب بكل ما هو غربي، لتحط يوماً في وطن جدودها الصيني وتصبح، بفعل ظروف تاريخية كان من الصعب توقعها، سيدة الصين الأولى. وكان يصعب توقعها خصوصاً بالنسبة إلى ذلك الصيني المهاجر، والد سونغ ماي لينغ، الذي بدأ حياته في الهجرة مكافحاً من أجل حياته وحياة أسرته حتى اللحظة التي عاد فيها إلى الوطن ليضحى بعد أن كان اعتنق الديانة البروتستانتية الميثودية على الطريقة الأميركية، بائعاً للكتاب المقدس في مناطق عدة من الصين. وكان الوالد قد تعلم، وعلم بناته، ولا سيما منهن تلك التي سيصبح اسمها "الشرعي" لاحقاً "مدام"، أن يولعوا بكل ما هو غربي ينتمي إلى الحضارة الأميركية. ولقد تربت سونغ لي على ذلك الولع وأتقنت الإنجليزية إلى درجة أنها ما إن بدأت حياتها العملية في الصين حتى صارت مستشارة ومترجمة لذلك الجنرال الثائر الذي سيصبحه تشانغ كاي تشيك الذي سيتزوجها في عام 1927، فيما كانت أختها الكبرى قد اقترنت قبلها بسن يات سن الذي سيصبح حين انتصار الثورة الوطنية أول رئيس للجمهورية الصينية. علماً بأن أختهما الصغرى تزوجت من واحد من كبار مصرفيي الصين. وهكذا، شعر الوالد أن بركة بيعه للأناجيل قد حلت عليه، ولكن إلى حين، أي حتى يقوم ماوتسي تونغ بثورته الشيوعية الكبرى على الضد من أولئك الذين كانوا حلفاءه من قبل.
مستشارة ورئيسة ظل
في تلك الأثناء كان تشانغ قد خلف سن يات سن. ولئن كان ذلك العسكري الذي لا يرحم معروفاً بوهن ممارساته السياسية كان من الطبيعي لـ"مستشارته" التي وجدت تقديراً كبيراً من الغربيين الذين التقوا بها بوصفها زوجة الرئيس الجديد، أن تأخذ عنه تلك المهمة وهي التي عرفت بكياستها وذكائها ناهيك بانفتاح على العالم كان ينقص زوجها. وهكذا، في نظر الغربيين في الأقل، صارت هي الحاكمة الفعلية للأجزاء التي يسيطر عليها زوجها من الأراضي الصينية الفسيحة. أو هذا في الأقل ما تحاول تبيانه مؤلفة كتاب "الإمبراطورة الأخيرة" التي تقول عن تلك السيدة إنها تميزت بأناقة مفرطة ودقة في اختيار عباراتها ووعودها، وكذلك كانت، بحسب الكاتبة، "ذات قدرة في مجال ممارسة نوع من التنويم المغناطيسي على الرجال جاعلة إياهم يفتنون بها ما إن تتبادل الحديث معهم". وهنا سيبدو طريفاً أن تفيدنا الكاتبة، مثلاً، بأن الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور كان دائماً ما يتجنب الجلوس قريباً منها في السهرات والمآدب الرسمية، لماذا؟ بكل بساطة، لأنه كان يتفادى كما تؤكد باكولا، الوقوع تحت تأثير سحرها الطاغي!
توابل لا بد منها
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن كثراً من المعلقين من الصحافيين الأميركيين الذين تناولوا كتاب "الإمبراطورة الأخيرة" شككوا في تأكيدات مؤلفته هذه. ولكن، هل يهم هذا التشكيك حقاً؟ الحقيقة أن في السيرة التي كتبتها باكولا من الجدة والسحر ما يغفر لها هذا النوع من "الشطط" إن كان حقاً "شططاً". فالحكاية جديرة في نهاية الأمر بأن تروى. وها هي ذي ترويها مع توابل تعطيها نكهة لا بد منها، طالما أن تلك الإمبراطورة الأخيرة نسيت من لدن التاريخ طويلاً، ذلك التاريخ نفسه الذي كان قد شهد وقوفها في عام 1943 أمام مجلس النواب الأميركي لتدافع بلغة جذابة ولهجة ساحرة عن قضية الصين الوطنية، فكانت أول شخص أجنبي وثاني امرأة في تاريخ الكونغرس الأميركي تتوجه إليه بخطاب مباشر. في ذلك اليوم الذي قد يبدو اليوم منتمياً إلى عصور ما قبل تاريخ ما، لم يكن أعضاء الكونغرس وحدهم من افتتنوا بـ"مدام" بل كذلك الشعب الأميركي بأسره، ذلك الشعب الذي "اكتشف فيها امرأة آسيوية رفيعة الثقافة تتكلم لغته وتنطق بمبادئه وتعبر عن أفكار هي نفس أفكاره"، فبات من السهل جداً حصولها على التمويل الذي كانت تسعى إلى الحصول عليه من الكونغرس لتمويل سياسات زوجها وحكومته على الضد من شيوعيي ماو تسي تونغ.
ولا بد من نهاية
غير أن ذلك كله كان لا بد له من أن ينتهي ذات يوم، كما يتابع كتاب باكولا راوياً الحكاية، ففي عام 1949 ومع انتصار ثورة ماو تسي تونغ، تراجع الصينيون الوطنيون بقيادة تشانغ كاي تشيك لينحصروا في جزيرة تايوان ومن ثم ليبدأ الغرب والأميركيون خصوصاً بـ"الاستغناء عن خدماتهم ولو بصورة تدريجية" كالعادة. ولقد كان من نتيجة ذلك أن راح تشانغ كاي تشيك بدوره يفقد الاهتمام "السياسي" بزوجته التي ما لبثت أن غرقت في نسيان عام، لتعيش كمجرد ربة منزل و"مدام" بالكاد يهتم بها أحد سوى أفراد أسرتها وخدم القصر الرئاسي. وهي كامرأة آسيوية صادقة مع نفسها هذه المرة، رضيت بذلك المصير، في الأقل حتى عام 1975، حين رحل زوجها عن عالمنا فأحست أنها قد تحررت من جديد حتى وإن كانت قد باتت مكتهلة. وهكذا بارحت تايوان مصطحبة معها من تبقى من أفراد أسرتها وثروة كبيرة كان الراحل قد جمعها طوال سنوات حكمه. وتوجهت إلى نيويورك، مرتع صباها والمدينة التي كانت وتبقى هواها الأول والأخير. وكانت تملك في تلك المدينة بيتاً سرعان ما استبدلت به شقة بالغة الفخامة والأناقة تتألف من 18 غرفة وملحقاتها. وهي عاشت هناك عزيزة مكرمة، برفقة نحو عشرين خادمة وخادماً، إضافة إلى ثلاثة كلاب كانت تعتني بها شخصياً، لتموت وهي في العام الخامس بعد المئة من عمرها، بشكل يتناقض كل التناقض مع تلك النهاية التي كانت للإمبراطور الآخر، الحقيقي هذه المرة، الإمبراطور الصيني الأخير مع فارق لا يستهان به: الإمبراطور الأخير كرس له كبير السينمائيين الإيطاليين الملحميين برتولوتشي فيلماً يليق بالأباطرة ونال إجماعاً لصدقيته من النقاد والمؤرخين. أما "الإمبراطورة الأخيرة" فإنها لم تحظَ إلا بكتاب يقع في أقل من 400 صفحة قرأه كثر بشغف، لكنهم أجمعوا على أنه يحتوي على كثير من أنصاف الحقائق والمبالغات، تماماً كما حال خطابات التأبين التي تلقى يوم دفن الميتين لتكريمهم، حتى ولو كان عنوانه الفرعي يكشف عن طموح كبير "مدام تشانغ كاي تشيك وولادة الصين الحديثة"!