في مقالي الأسبوع الماضي، ناقشتُ سيطرة مجموعة صغيرة من الشركات العملاقة مثل "غوغل" و"آبل"، على الاختراقات العلميّة في مجال جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها. ماذا لو أخبرتكم أنّ شركتي "غوغل" و"آبل" ستصنعان الأفق المقبل في مجال الطب أيضاً؟
في مايو (آيار) 2019، أظهرت دراسة أميركيّة أنجزها باحثون من "غوغل" بالتعاون مع عدد من المراكز الطبيّة، أن آلات الذكاء الاصطناعي تساوَتْ مع الأطباء (أو تفوّقت عليهم) في التعرّف على الأورام السرطانيّة الصغيرة في صور المسح المقطعي الإشعاعي بالكومبيوتر (="سي تي سكانز" CT Scans). وكذلك عمل فريق من باحثي "غوغل" في الهند بالتآزر مع نظرائهم في معاهد علميّة، على تدريب منظومة من الذكاء الاصطناعي عِبْرَ قراءة الآلاف من صور شبكيّة العين عند مرضى السكري. استطراداً، تقع منطقة الشبكيّة في مؤخرة العين، وتضمّ الأعصاب المسؤولة عن حدوث الرؤية عند الإنسان، وتصاب بأنواع من التآكل والتلف عند شرائح واسعة من المُصابين بالسكري. ويقدر أنّ 90 مليوناً من البشر يعانون تلك الحالة التي تُصنّف في مقدمة أسباب العمى لدى البالغين عالميّاً. وبعد أن دُرِّبَت منظومات الذكاء الاصطناعي على التدقيق في صور الشبكيّة، تمكّنت من تشخيص التغييرات المرضيّة المتّصلة بالسكري فيها بدقّة تساوي مهارة الأطباء المتخصصين في تشخيصها. وحاضراً، تعمل "غوغل" على استنباط طُرُق لإدراج تلك المنظومات الذكيّة في الممارسة الطبيّة اليوميّة في عدد من مستشفيات العيون في الهند.
وكذلك استُخدِمَت منظومات الذكاء الاصطناعي المتّصلة بقراءة صور الأشعة، في ملاحظة أنماط من التغييرات في صور الأشعة التي تتعلق بمجموعة من أمراض القلب والأوعية الدمويّة. ويلفت أيضاً أن تلك الأنماط لم يكن ممكناً ملاحظتها في السابق، وكانت تلك المنظومات أسرع من الأطباء البشر في التوصل إلى تلك الملاحظات، بقرابة 200 مرّة!
وفي السياق عينه، لا يغيب عن الذهن حقيقة أنّ 32% من صور الأشعة التي يُخطئ الأطباء في تشخيصها ويعتبرونها سليمة، يكون فيها مؤشّرات على وجود أمراض. وعلى نحو مماثل، يفوت على المتخصصين في أمراض الجهاز الهضمي ملاحظة الأورام الصغيرة في صور الأشعة للأمعاء، على الرغم من أنّ علاقتها مع الإصابة بسرطانات الأمعاء ليست أقل من علاقة الأورام الكبيرة بتلك السرطانات. واستناداً إلى تلك المعطيات وما يشبهها، يكون من غير المبالغة القول بأن الآمال معقودة على الذكاء الاصطناعي في إحداث القفزة العلميّة المقبلة في الطب.
وحاضراً، يقف الطب الحديث أمام مفترق طرق يتقاطع فيه مساران أساسيّان. يتمثّل الأول في مسار صيرورة الطب نموذج عمل فاشل، وهو أمر يفوق المدى المباشر لهذا المقال. وفي المسار الثاني، تجري مراكمة كميّات ضخمة من البيانات والمعلومات الطبيّة والعلميّة، تأتي من مصادر متنوّعة تشمل التصوير الطبي الفائق الدقة، والمجسّات الطبيّة التي ترصد الأحوال الفيسيولوجيّة للجسم، والتعرّف إلى التراكيب التفصيليّة للجينات، والملفات الطبيّة الإلكترونيّة.
ويفتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام اكتشافات جديدة، إذ يستطيع التهام كميّات هائلة من المعلومات التي تأتيه من العلوم الطبيّة بحدّ ذاتها، والمرضى أيضاً. وغني عن القول أنّ التعامل مع كل تلك البيانات والمعلومات، أمر مرهق بالنسبة إلى العقل البشري.
ثمة خبرة آخذة في التراكم بشأن استخدام منظومات الذكاء الاصطناعي في العمل الطبي. ويشمل ذلك استخدامها في تسهيل التعامل مع السكتة الدماغيّة، وتشخيص حالات الإصابة بمرض التوحّد، وقراءة التخطيط الكهربائي للدماغ بشكل يساعد المتخصصين في علوم الأعصاب على تشخيص أمراض كثيرة، وإعطاء تشخيص أولي لطواقم الإسعاف الطبي في حالات السكتة القلبية، وتحديد الظروف الفضلى للدراسات المتّصلة بالسرطانات، واختيار الأجنّة القابلة للحياة كي تُزرع في الرحم في حالات التلقيح الاصطناعي، والتوصّل إلى تشخيص أمراض خلقيّة عبر التعرّف إلى أعراضها في الوجه، وتحديد الوقت الملائم لإجراء عملية استئصال مبكّرة في سرطانات الثدي وغيرها.
ومن وجهة نظري، الأرجح أنّ الشيء الأكثر أهمية يتمثّل في تلك الجهود المبذولة من قِبَل شركات ناشئة واخرى عملاقة، بهدف تطوير طُرُق للتعامل مع اللغة الطبيعيّة العادية كي تصبح طريقة لإدخال المعلومات إلى منظومات الذكاء الاصطناعي، بدلاً من لوحات المفاتيح الإلكترونيّة والأشخاص المُدرّبين على صنع الملفات الإلكترونيّة للمرضى في العيادات والمستشفيّات. تشمل قائمة الشركات الناشطة في ذلك المجال "ميكروسوفت" و"غوغل" و"سوكي" و"روبن هيلثكير" و"تِنور.إيه إي" و"سايكارا" و"سوبريس هيلث" و"كيرفويس" و"أوربيتا" و"نوتابل" و"سينسلي" و"أوغمِديكس".
في سياق متصل، يفسح تبني منظومات الذكاء الاصطناعي من قِبَل الأطباء ونُظُم الرعاية الصحية، المجال أمام الأطباء لتقديم رعاية تتلاءم مع كل مريض على حِدَة (ما يسمّى تقنيّاً "الطب المُشخصَنْ" Personalized Medicine ، بمعنى التعامل مع كل شخص على حِدَة)، ما يعمّق إنسانيّة الطب.
في المقابل، تعتمد كفاءة الذكاء الاصطناعي على المُعادلات الرياضيّة والأساليب المنطقيّة (تُجمع اختصاراً تحت مسمّى "خوارزميّات" Algorithms) التي استُعملت في إنشائه. وتُصنع تلك الخوارزميات بأيدي بشر، ما يعني وجود كميّة ضخمة من العمل المُتوجّب إنجازه في ذلك المجال، ولعلنا مازلنا في بداية الطريق.
يُضاف إلى ذلك أنّه كلما ازداد اعتمادنا على الكومبيوتر في الطب، نصير أكثر عرضة للاستهداف بالجرائم الإلكترونيّة، مع ما يرافق ذلك من زيادة الأخطاء في التشخيص وربما فشل في معالجة مرضى. ثمة مثل عن ذلك تمثّل في دراسة جرت في ابريل (نيسان) 2019، أنجزها "المركز الجامعي لبحوث الأمن السيبراني" في إسرائيل. وفي تلك الدراسة، صنع الباحثون برامج كومبيوتر خبيثة بهدف إظهار مدى الهشاشة الأمنيّة لشبكات التصوير الطبي وأجهزتها. وتضمّنت تلك البرامج إعطاء مهاجمين افتراضيّين القدرة على إدخال صور توحي بوجود أورام خبيثة كي تصير جزءاً من الصور الإشعاعيّة المقطعيّة ومسوح الرنين المغناطيسي ("إم أر آي" MRI)، أو (على العكس من ذلك) إزالة أدلة عن وجود أورام سرطانيّة في تلك الصور. وتمكّنت تلك البرامج من تضليل أطباء الأشعة في 99% من الحالات. واعتُبِرَ ذلك شكلاً جديداً من فيروسات المستشفيّات.
وصار ممكناً استعمال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً الشقّ المتعلّق بالتعلّم العميق للآلات Deep Machine Learning، بالاستناد إلى الاستعمال المتزايد في القطاعات الطبيّة كلها، لتقنية البيانات الضخمة (خصوصاً تلك التي يجري تصنيفها بعد تجميعها)، إضافة إلى الاستفادة من التقدّم في زيادة قوّة الحوسبّة في الآلات، وكذلك الحال بالنسبة إلى تقنية "حوسبة السحاب" Cloud Computing التي ينتشر استعمالها في تخزين المعلومات على الشبكات.
في الطب، تمثّل تلك الأمور نقطة البداية في توليد تأثير على ثلاثة مستويات، يظهر أولها في تسريع قراءة الصور الطبيّة الفائقة الأهمية بالنسبة للطب العيادي، ويتصل ثانيها بالنُظُم الطبيّة عبر تحسين مسار العمل وإمكانية تقليل الأخطاء الطبيّة، ويتعلق ثالثها بالمرضى الذين يصيرون قادرين على التعامل مع بياناتهم بطرق تخدم تعزيز صحتهم.
يتوجّب على الأطباء التأقلم مع أدوارهم الجديدة التي قد تتطلب منهم أن يعملوا أيضاً بوصفهم محلّلين للمعلومات ومتمرسين في تقنيات التكامل بينها، ومُفسّرين للمعلومات بالنسبة للمرضى مع تقديم دعم مناسب لهم. وكذلك يتوجب على نظام التعليم الطبي أن يقدم للأطباء وسائل وأدوات تمكّنهم من النهوض بتلك الأدوار أيضاً.
اختتم المقال بطرح سؤالين. من سيتوصّل في نهاية المطاف إلى السيطرة على عمليات تبني الذكاء الاصطناعي والمصادقة عليه والاستفادة منه؟ من سيتولى إجراء التوازن بين قوى السوق من جهة والتشريعات القانونيّة المُنظّمة لمسار تبني الذكاء الاصطناعي في الطب، بما يضمن أن تُعطى أولوية قصوى لاستفادة المرضى منه؟