عندما رحل السينمائي الإيطالي روبرتو روسيليني عن عالمنا عند بدايات عام 1977، شعر كثر بأن السينما الإيطالية قد فقدت واحداً من كبار الذين صنعوا لها مجدها خلال النصف الثاني من القرن الـ20، كان ذلك في الزمن الذي راحت فيه السينما الإيطالية تفقد كبارها واحداً بعد الآخر، حتى كان رحيل روبرتو روسيليني مستبقاً رحيل الكبار من زملائه، تالياً لرحيل لوتشينو فيسكونتي: فيديريكو فليني، وفيتوريو دي سيكا، ومايكل أنجلو أنطونيوني، لكن رحيل روسيليني كان له طعم آخر، طعم أكثر مرارة لأن الرجل عرف بشكل أو بآخر بأنه كان وفنه وجرأته في بداية أشياء كثيرة من تاريخ "الفن السابع" وعلاقاته المتشعبة بعديد من السجالات والتجديدات التي عرفها ذلك التاريخ.
فروسيليني كان أحد المؤسسين الكبار والمبادرين للواقعية الجديدة في السينما الإيطالية ولا سيما بثلاثيته عن الحرب العالمية الأولى، ولسوف يكون بعد حين "الصوت الخفي في خلفية تأسيس الموجة الفرنسية الجديدة" كما يقول أحد كبار صانعيها جاك ريفيت، ولاحقاً أكثر، سيكون واحداً من أول مبدعي السينما الذين رأوا من الطبيعي أن يخوضوا العمل التلفزيوني مستبقاً سجالات حول هذا الموضوع لا تزال صاخبة حتى اليوم.
من الواقعية إلى ما بعدها
وإلى ذلك، ربما يمكننا أن نعتبر روسيليني أول مبدع سينمائي تحول من الواقعية الخالصة ("روما مدينة مفتوحة"، و"باييزا")، إلى السينما الميتافيزيقية، ولعله كان أول المخرجين "الماركسيين" الذين خاضوا السينما الدينية (في أفلامه، التلفزيونية على أية حال، عن "السيد المسيح"، و"أعمال الرسل")، والفنان الذي فتح عيون السينمائيين الأوروبيين على الهند وامتلائها بالمواضيع، وكذلك على الفلسفة التي شكلت بالنسبة إليه موضوعاً حياً لعدد لا بأس به من أفلامه (أيضاً التلفزيونية هنا)، حول سقراط وباسكال وديكارت... إلخ. ولن ننسى في خضم هذا أنه كان أول سينمائي أوروبي يقصد ألمانيا بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر ليحقق عنها ما اعتبر فيلم العام الألماني الصفر مكملاً به ثلاثيته عن تلك الحرب، فهل نستكمل نحن هذه اللائحة بالحديث عن المبدع - الفيلسوف الرصين الذي يحدث له يوماً أن يتزوج واحدة من كبيرات نجمات السينما فيدجنها فنياً، ويعطيها بعض أروع الأفلام التي مثلت فيها ونقلتها من "عالم الغلامور" إلى عالم الفن الكبير، كما فعل من قبله أورسن ويلز مع مارلينه ديتريش، ومن بعده آرثر ميلر مع مارلين الأخرى: مونرو؟
50 عاماً من الانتصار
ولكن لماذا ترانا نذكر هذا كله الآن ونذكر به على الرغم من إدراكنا أنه معروف؟ ببساطة لأن كل تلك المسيرة الكبيرة في تنوعها الفكري والسينمائي والحياتي وجدت خاتمتها الكبرى في عام 1972 أي قبل 50 عاماً تماماً من يومنا هذا حين عرض روسيليني، وفي وقت واحد تقريباً ثلاثة من تلك الأفلام التي اشتغلها تلفزيونياً، إنما بلغة سينمائية بدت حينها "مقحمة" ومثيرة للسجالات على ألسنة وأقلام كثر من سينمائيين متحمسين كانوا قد راهنوا على "فشل تجربة روسيليني التي لن يكون لها مستقبل". فحينها، وبعد أن حقق المخرج، الذي كان يقترب من عامه الـ70 فيلماً غريباً عنوانه "نضال البشرية من أجل بقائها"، انصرف إلى تحقيق فيلمه الكبير عن "سقراط" ثم ألحقه بشريط لا يقل أهمية وجرأة عن "القديس أغسطينوس"، وتالٍ له ربما يكون الأفضل في تلك السلسلة عن "سقراط". وهذه الأفلام التي عرضت متتالية حققت من النجاح ما جعل الناقد الإيطالي الكبير غويدو آريستوركو، الذي كان في بداية الأمر مناوئاً في هذا الصدد لروسيليني وتجربته. يقول خلال مؤتمر سينمائي عقد بعد حين في فارنا (بلغاريا)، "لقد أثبت روسيليني قبل رحيله أنه كان محقاً وكنا على خطأ!". لقد رحل روسيليني في عام 1977 ولم يسمع ما قاله آريستوركو يومها، ولكنه كان واثقاً من أن يوماً سيأتي سيعترف له كثر بأنه كان مصيباً.
الرجل الذي جرب كل شيء
مهما يكن، لئن كان جمهور السينما العريض قد عرف روسيليني كواحد من أزواج فاتنة السينما إنغريد برغمان، وكمبدع سينمائي وتلفزيوني حقق كثيراً من الأفلام الشعبية والفنية الترفيهية والفكرية على قدم المساواة، فإن هواة السينما ومثقفيها ونقادها عرفوه بكونه الرجل الذي لم يكف، منذ بداياته عن اختراع السينما وإعادة تأسيسها، فهو كان، بين آخرين، ولكن في مقدمتهم دائماً، مؤسس السينما الإيطالية الجديدة، السينما الواقعية المرتبطة بصلب الحياة إلى درجة أن أفلامه الروائية الأولى نفسها، مثل "السفينة البيضاء" (1941)، و"رغبة" (1943 - 1946) وبخاصة "روما مدينة مفتوحة" (1945)، و"ألمانيا، العام صفر" (1947 - 1948)، و"باييزا" (1946)، بدت وكأنها أفلام تسجيلية، لكن روسيليني كان أيضاً في الخمسينيات وراء موجة سينما "الموجة الجديدة" الفرنسية وذلك عبر فيلمه "رحلة في إيطاليا"، الذي، وكما أشرنا، كتب عنه جاك ريفيت، أحد أقطاب ذلك التيار الفرنسي الذي ساد بعد ذلك قائلاً، "إنه الفيلم الذي وجه كل خطواتنا وجعلنا نعيد اكتشاف إمكانات السـينما من جديد"، عندما حقق روسيليني "رحلة في إيطاليا" (1953 - 1954)، كان قد غدا ذا شهرة كبيرة كما كان قد آل على نفسه أن يخرج سينماه، وربما السينما الإيطالية كلها من هوة الواقعية المطلقة التي كان قد استرخى فيها وزملاؤه قبل ذلك.
وفي ذلك الحين، كان قد تزوج من الفاتنة إنغريد برغمان، التي راح يحقق فيلماً بعد الآخر من بطولتها إنما من دون أن يقع في الفخ السهل الذي يقوم في جعل فيلمه يدور من حول نجوميتها، لقد استغل روسيليني إمكانات زوجته التعبيرية، فتمكن في أفلام مثل "سترومبولي"، و"أين الحرية؟"، و"أوروبا 51"، وكلها أفلام حققت أواسط الخمسينيات، تمكن من أن يعيد للنجمة اعتبارها كممثلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان روسيليني، في الدرجة الأولى، فضولياً، وكان يشعر أن السينما وعاء كبير يمكن فيه وضع كل شيء: الدين والتاريخ والفلسفة والاستعراض والفن التشكيلي، وهذا ما جعله، كأفلاطون معاصر، يتجه في أفلام مراحله التالية نحو استخدام للسينما كان وسيظل فريداً من نوعه، فهو، بعد أن قرر الاستغناء عن السرد الروائي في أفلامه، وبعد أن زار الهند وحقق فيها وعنها أفلاماً تجاورت فيها صنوف الفكر مع صنوف التاريخ، وبعد أن خاض تجربة استثنائية، في الفهم الميتافيزيقي للسينما عبر فيلم صور فيه، ودائماً من تمثيل إنغريد برغمان، عذاب جان دارك وهي على المحرقة، انطلاقاً من نص مسرحي لبول كلوديل، وبعد أن خاض في سينما العواطف عبر اقتباسه رواية "الخوف" لشتيفان تسفايغ، في فيلم مشترك مع ألمانيا، ثم أتبع ذلك بفيلم استثنائي، يعتبره كثيرون أحد أهم أفلامه على الإطلاق، عنوانه "جنرال ديلا روفيري"، بدأ سلسلة الأفلام التاريخية الفلسفية التي كان إرهاصها، أولاً موجوداً في "كان ليل في روما" (1960).
حتى "المومياء" مدين له!
ولقد تضمنت تلك السلسلة التي اختلط فيها التاريخ بالفلسفة بالسياسة، أفلاماً مثل "تعيش إيطاليا" (1961)، ثم بخاصة "فانينو فانيني" (1961)، و"الروح السوداء" (1962)، و"فتاة طيبة" (1962 - 1963)، ثم تلتها سلسلة أخرى أكثر "أدبية" و"تاريخية" وابتعاداً عن السرد الروائي، أولها "عصر الحديد" (1964)، ثم "استيلاء لويس الرابع عشر على السلطة" (1967) الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم النموذج الذي يمكن احتذاؤه في مجال صنع الفيلم التاريخي. على أي حال، كان هذا الفيلم بداية علاقة سينما روسيليني بالتلفزيون ينتج له أفضل أفلامه منذ ذلك الحين، حتى وإن كانت تلك الأفلام سينمائية خالصة، وبعد ذلك حقق روسيليني أفلامه التي يغلب عليها الطابع الفلسفي.
وهو إلى جانب تلك التاريخية والفلسفية، حقق ثلاثية دينية لم يكن من قبيل الصدفة أن يختمها بفيلم عن السيد المسيح كان آخر الأفلام الكبيرة التي حققها في حياته، وكان من بينها فيلمه المهم عن "أعمال الرسل"، وهو فيلم صور جزءاً منه في مصر حيث تعرف عليه شادي عبد السلام وتأثر به إلى درجة أنه لم يكف عن نسب سينماه إليه، قائلاً إنه لولا تعرفه بروسيليني لما كان فيلم "المومياء" أبداً، ترى، ألا يكفي هذا كله كي نحتفل هنا على طريقتنا بمرور 50 عاماً على تلك "اللحظة الفلسفية" الكبرى التي حقق فيها روسيليني رهان حياته وأحدث في السينما تلك الانعطافة التي لا راد عنها؟