كادر بشري منهك من الانهيار، وطلاب خارج الصفوف، ومبانٍ مقفرة بسبب سوء الخدمات، ودولة عاجزة عن الدفاع عن مؤسسة تشكل الملاذ الأخير لتعليم أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة. هكذا تختزل الجامعة اللبنانية واقع التعليم العام في لبنان، فالمؤسسة التي وُلدت مع استقلال البلاد استجابة لفلسفة جامعة لكل الوطن، تُركت اليوم وحيدة في ساحة الدفاع عن حق مواطنيها في الحصول على المعرفة والبحث العلمي بنوعية جيدة، في زمن تشعبت الجامعات الخاصة بين المحافظات وتلوّنت طائفياً وسياسياً.
كتلة من المعاناة
يفتخر جيل الحرب من طلاب الجامعة اللبنانية بأنهم خلال الحرب الأهلية كانوا ينتظمون في صفوف، وخلال أوقات الهدنة يتابعون تحصيلهم العلمي، بحيث ينتصرون على لغة الرصاص والمعابر. لكن لم يتوقع أحد أن يحمل زمن السلم البارد ما هو أشد على الطالب اللبناني، إنه الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يتمدد ويهدد مظاهر الحياة كافة بالدمار.
زينة طالبة في كلية العلوم الجامعة اللبنانية تؤكد أنها لم تتعرف إلى كليتها إلا مرتين: الأولى عند تقديم طلب التسجيل، والثانية عندما تقرر إجراء امتحان فصلي لهم بالمقررات التي تابعوها عبر تطبيق الفيديو، وما بين هذا وذاك، تتابع محاضرات معقدة في الأحياء عبر الشاشة، ولا تتمكن من فهم كثير من مضامينها بسبب عدم وجود اتصال مباشر مع الأساتذة المحاضرين. كما تشكو من التأخير الكبير في إتمام الفصول الدراسية مقارنة برفاقها في التعليم الخاص، لافتةً إلى أنها "فقدت الشغف بالدراسة"، وهي تخشى من أنها أضاعت سنة من حياتها الدراسية. ومن هنا، دخلت في حيرة من أمرها، إما تغيير الاختصاص في العام الدراسي المقبل واختيار "مجال تخصص سهل"، أو اللحاق بجامعة خاصة، وهو أمر متعذر حالياً بسبب اشتراط دفع جزء من الأقساط بالدولار.
هذه المعاناة ليست إلا واحدة من عشرات القصص التي يمكن سماعها يومياً على لسان طلاب الجامعة اللبنانية، إذ يعجز كثير من أبناء مناطق الأطراف عن التوجه إلى الكليات في مراكز المحافظات أو العاصمة لمتابعة بعض الصفوف التطبيقية، أو تأدية الامتحانات، ذلك أن "كلفة الانتقال باتت عالية جداً" من دون أن ننسى الشكوى من عدم القدرة على تأمين المقررات الدراسية وعبء طباعتها ورقياً، وكلفة الاتصالات المرتفعة لمتابعة المحاضرات من بعد، وغيرها من المشكلات التي يصعب إحصاؤها.
استقالة الأساتذة
خلال العامين الماضيين فقدت الجامعة اللبنانية كثيراً من كادرها البشري، إما بسبب الاستقالة أو مغادرة المتعاقدين لكلياتهم من أجل العمل في الخارج، حيث العروض المادية والمهنية أفضل. وفقد أستاذ الجامعة الشغف بالعمل، لأن ساعة المتعاقد تبلغ 65 ألف ليرة (حوالى دولارين فقط) للمعيد، و83 ألفاً للأستاذ المساعد، و100 ألف ليرة للأستاذ.
ولا تقتصر الشكوى على الشق المادي وإن كان أمراً أساسياً، بل انتقلت إلى الاحتجاج على إعادة النظر في المناهج وتوزيع المحاضرات، فبدا أن قرار الاستقالة جريء من قبل بعض المتفرغين والمتعاقدين. وخالد كموني (قسم الفلسفة) واحد ممن قرر المغادرة، لأن "المناهج لم تعُد تراعي تطوير شخصية الطالب، ولا كفاءاته العلمية"، كما أن "حقوق الأستاذ المتعاقد مهدورة بالكامل بسبب عدم إقرار ملف التفرغ، واعتبارهم بمثابة المياومين الذين ليست لهم حقوق على الجامعة. يتهم كموني الطبقة السياسية بـ"نية إقفال الجامعة لصالح دكاكينها الخاصة"، قائلاً، "الجامعة ليست فقيرة بل أُفقرت، وليست فاسدة بل أفسدت".
أمام هذا الواقع، قرّر كموني الاستقالة، مبرراً ذلك بعدم "خسارة شخصيتنا العلمية" في ظل الظروف القائمة التي لا تدعم التعليم بشقَّيه الحضوري والأونلاين. ويلفت إلى أثر غلاء المحروقات في الطالب والأستاذ، معطياً مثالاً من حياته المهنية الحالية، "تخيل أن أنتقل من بيروت إلى طرابلس في ظل صفيحة بنزين تتجاوز 600 ألف ليرة من أجل تنفيذ حصة بـ80 ألف ليرة وسط رفض تعديل ثمن الساعة".
يدعو كموني الأساتذة إلى الإضراب المفتوح وتقديم استقالات جماعية حفاظاً على مكانة الجامعة اللبنانية وكرامة الأساتذة والطلاب، وعدم العودة إليها إلا متفرغين وباحثين، وتأمين جو عام داعم للبحث العلمي، وتقديم المراجع وتجهيز المختبرات لـ86 ألف طالب في الجامعة اللبنانية.
في مواجهة الانهيار
تشير الظروف المحيطة كافة إلى أن الجامعة اللبنانية ليست في أحسن حالاتها بعد 80 عاماً على تأسيسها الذي جاء في 1951. يتحدث بسام بدران، رئيس الجامعة اللبنانية، إلى "اندبندنت عربية" عن صعوبات كبيرة تعانيها الجامعة. يقول، "إذا لم تُتّخذ خطوات إنقاذية جدية، فإن المؤسسة ذاهبة نحو الانهيار، لأنه لكي تستمر، لا بد من تأمين مقومات الاستمرار"، مشيراً إلى ضرورة إنصاف الكادر البشري المؤلف من الأساتذة والموظفين والمدربين، ومن ناحية أخرى تأمين التكاليف التشغيلية للجامعة، وهذا يتطلب الأموال، وهي غير موجودة في موازنة الجامعة المرصودة بالعملة الوطنية التي فقدت قيمتها". كما يلفت إلى ضرورة تأمين وصول طلاب الجامعة اللبنانية إلى قاعاتهم لأن دور الجامعة تأمين التعليم لكل أبناء المجتمع اللبناني.
تبلغ موازنة الجامعة 364 مليار ليرة لبنانية، وكان هذا المبلغ يشكل حوالى 230 مليون دولار، وتراجعت قيمته إلى حوالى 14 مليون دولار، لذلك فإن الجامعة، بحسب بدران، تعاني للاستمرار، وتحتاج إلى قرابة 12 مليون دولار كنفقات تشغيلية أولية، وستسوء الخدمات باستمرار، مُقرّاً بوجود صعوبات في المجالات كافة من المختبرات إلى القرطاسية.
هل سيتم فرض الدولار الفريش؟
خلال الفترة الماضية، سرت شائعات عن إمكانية فرض مبالغ إضافية على طلاب اللبنانية كما حصل مع طلاب الجامعات الخاصة. يجزم بدران أنه لا وجود لطرح كهذا مطلقاً، لأن الجامعة اللبنانية لا تتقاضى أقساطاً، وإنما رسم تسجيل 250 ألف ليرة لطلاب الإجازة، و750 ألفاً لطلاب الماجستير والدكتوراه، و200 ألف شهرياً للسكن الجامعي، علماً أن كلفة الخدمات تحتاج إلى أضعاف ذلك وبالدولار الفريش لتأمين الماء الساخن والتبريد والصيانة. ويلفت إلى أن "الجامعة اللبنانية يمكن أن تنتقل إلى تنظيم أطر تدريبية وتأهيلية جامعية لكوادر الجهات الخاصة لقاء الدولار في بعض المجالات التي تنمي الخبرات والقدرات للموظفين، لكنها لن تفرض على طلابها الدفع بالدولار". ويؤكد أن رسوم التسجيل لن تُزاد تحت أي ظرف إلا إذا تم استنفاد سبل الحل كافة لإبقاء الجامعة اللبنانية على قيد الحياة، لافتاً إلى أن "الأمر ليس على بساط البحث حالياً".
يتوجه رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران بنداء إلى خريجي الجامعة اللبنانية العاملين والمقيمين في الخارج للوقوف إلى جانب زملائهم الذين يعانون، ودعمهم المباشر وغير المباشر من أجل تجاوز هذه المرحلة الصعبة من خلال المبادرة إلى مساعدة الجامعة الوطنية "كُلٌ بحسب قدرته، وللفرع الذي يريد، كتأمين أنظمة الطاقة الشمسية". كما يُطالب بتأمين الدعم من الجهات المانحة والدول الصديقة التي تساعد القطاع التربوي في حال تأخر إقرار الموازنة العامة. كما يلفت بدران إلى السعي لاستعادة 50 مليون دولار هي حق الجامعة اللبنانية لقاء فحوص كورونا PCR في المطار، وهذه المبالغ في ذمة الشركات المشغلة MIG وLAB، وجاءت قرارات ديوان المحاسبة والمدعي العام المالي علي إبراهيم لتؤكد على أحقية الجامعة اللبنانية بتلك المبالغ.
قرارات استثنائية
حتى اليوم، ما زال عالقاً ملف تفريغ 1520 أستاذاً متعاقداً في الجامعة اللبنانية، وشكل قرار الحكومة تفريغ الوزير علي حمية صدمة لزملائه الـ1519 الذين ينتظرون تفريغهم في الجامعة بعد أعوام من الانتظار. وأعاد القرار الصادر عن حكومة ميقاتي إلى الذاكرة قرار حكومة حسان دياب بإدخال الوزيرين آنذاك لميا يمين وحمد حسن إلى ملاك الجامعة اللبنانية ليصبحا موظفين عموميين.
يشير بدران إلى أن مشروع التفرغ، أي الانتقال إلى نظام العقود السنوية مع الأساتذة، ما زال عالقاً لدى الحكومة، مؤكداً حاجة الجامعة اللبنانية إلى الكفاءات لسد الفراغ، "إلى ذلك الحين، سيبقى الأساتذة متعاقدين بالساعة، ويعيشون في ظروف صعبة فأجورهم تتراوح بين 2 و3 دولارات، ونتمنى بقاؤهم معنا"، مضيفاً، "البعض منهم استقال، فيما يستمر آخرون ممن لديهم مصدر دخل آخر من خارج الجامعة". ويعلّق بدران على قرار تفريغ د. علي حمية، "اتخذته الحكومة قبل دخولها مرحلة تصريف الأعمال، وليس لرئاسة الجامعة أي علاقة أو علم بهذا القرار المنفرد إلا من خلال الإعلام"، كما يشير إلى قرار آخر خاص بـ"تفريغ أستاذ بعد نيله قراراً قضائياً، بسبب سقوط اسمه من قرار التفرغ الصادر في 2008، الذي حفظ له الحق بالتفرغ، ولم يتم تفريغه في 2014، فاتجه إلى القضاء الإداري المتمثل في مجلس شورى الدولة الذي أصدر قراراً قضائياً بتفريغه، وصولاً إلى إقرار الأمر من قبل مجلس الوزراء في آخر جلساته". أما في ما يتصل بالأستاذ حمية المتعاقد ضمن الجامعة اللبنانية، "فقد كان ضمن ملف 2008، ومن ثم 2014، ولم يتم تفريغه، وهو في مكان ما يظلمه" بحسب بدران الذي يشير إلى ظلم عام لاحق بـ1519 الباقين ضمن الملف العالق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ماذا عن المستوى التعليمي؟
يجيب بدران عن السؤال حول تراجع المستوى التعليمي في لبنان بالإشارة إلى أنها مشكلة عالمية، وهي أثر من آثار جائحة كورونا، وحول النموذج اللبناني، فإن هناك مشكلات إضافية ناجمة عن الأزمة الاقتصادية. ويخلص بدران إلى إعلان التمسك بالحفاظ على الجامعة وتأمين حاجات أكثر من 80 ألف طالب في الفروع كافة وكليات الجامعة اللبنانية، وعن الحاجة إلى إنشاء فروع في بقية المناطق اللبنانية، ويؤكد أنه "لم تعُد هناك إمكانية لإنشاء فروع للجامعة في غياب وجود مجمعات جامعية، لاستفادة كل الكليات من الجامعات وتخفيف النفقات، وهذا غير مؤمن إلا في مجمعي المون ميشال في الشمال، ومجمع الرئيس رفيق الحريري في الحدث".
معاناة الأساتذة مستمرة على الرغم من الإضراب
يؤكد عامر حلواني، رئيس رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية أن الجامعة انعكاس لما يجري في البلاد، كما أنها لم تعُد تُعتبر أولوية ضمن السياسات الحكومية على الرغم من إضراب الهيئة التنفيذية للأساتذة. كما يأسف لهجرة الأساتذة الشبان لأن الأجور زهيدة، ما يؤدي إلى خسارة الجامعة لكفاءاتها في ظل غياب بديل عالي المستوى.
يأمل الحلواني في أن تنصف الموازنة المقبلة الجامعة، لأن الموازنة الحالية لا تكفي لشراء المازوت لإضاءة الكليات. ويشكك في إمكانية تنفيذ قرار الجامعة بالعودة إلى التعليم الحضوري بدءاً من العام الدراسي المقبل لأن دونه تحديات بسبب عدم قدرة الأساتذة والطلاب نتيجة غلاء البنزين، إضافة إلى تأخير دفع الأجور للأساتذة.
يستنكر حلواني الكيل بمكيالين في إقرار تفرغ الأساتذة، منتقداً منح الأستاذ علي حمية قراراً استثنائياً دون بقية الأساتذة ضمن الملف، لافتاً إلى أن "المشكلة ليست في الأستاذ وإنما في إعطاء انطباع للأساتذة بأن التفرغ هو فقط للمحظيين". وعن تدخل السياسة في الحركة النقابية، لا ينكر حلواني وجود ميول سياسية للأساتذة والممثلين النقابيين، إلا أنه في المقابل يتحدى وجود أي تأثير في قرارات الرابطة التي تعطي الأولوية لأهداف نقابية لمصلحة الأستاذ وتطوير الجامعة اللبنانية والحفاظ عليها كمكان جامع للبنانيين كافة، مستشهداً بالإضراب والتوقف القسري عن التعليم بخلاف آراء الأحزاب السياسية.