في الوقت الذي تلهث فيه تونس، عبر حكومة نجلاء بودن، للبحث المضني عن تمويلات خارجية على شكل قروض لتمويل موازنة العام، ترقد البلاد على موارد مالية هامة وكبيرة تغنيها عن إثقال كاهل الدولة بقروض خارجية ستتحمل تبعاتها الأجيال المقبلة.
تونس ترقد على كنز مغمور عجزت عن إخراجه يتمثل في تحصيل عائدات الضرائب وتفاقم ظاهرة التهرب الضريبي، التي أضحت عبئاً ثقيلاً على موازنة البلاد وإرثاً عجزت الحكومات المتعاقبة على مقاومته.
وتواجه الحكومة الحالية صعوبات كبيرة في إقناع صندوق النقد الدولي للدخول في مفاوضات رسمية من أجل الحصول على قرض جديد بقيمة 12 مليار دينار (4 مليارات دولار) مع إعطاء الصندوق الضوء الأخضر لبقية المانحين الدوليين بمساعدة تونس على النفاذ إلى القروض الخارجية المغلقة بوجه البلاد في الظرف الراهن.
ظاهرة تنخر الاقتصاد وتعمق اللاعدالة
ويطفو موضوع التهرب الضريبي على السطح كلما تشتد الأزمات الاقتصادية، خصوصاً المالية المرتبطة بحاجة تونس إلى القروض لتمويل موازنتها، إذ تقدر حاجات البلاد من التمويل الخارجي في موازنة 2022 بـ12.6 مليار دينار (4.2 مليار دولار).
ويقر المتخصصون في المجال الاقتصادي بغياب العدالة الضريبية بين موظفي القطاع العام وأصحاب الشركات، خصوصاً أصحاب المهن الليبرالية، مثل المحامين والأطباء والمهندسين وصغار التجار.
ففي الوقت الذي تفرض فيه وزارة المالية التونسية ضريبة على الأجور تصل إلى نحو 20 في المئة من قيمة أجور الموظفين، فإنها تعجز على تحصيل عائدات الضريبة من أصحاب المهن الحرة أو الليبرالية الذين وبشهادة المتخصصين يعمدون إلى التصريح بمعلومات مغلوطة عن عائداتهم المالية السنوية.
وفي هذا السياق، يقر المستشار الجبائي وعضو المجلس الوطني للجباية (هيئة استشارية)، محمد صالح العياري، بأنه لا توجد عدالة ضريبية في تونس، باعتبار أن هناك من هم ملزمون بدفع الضرائب عن طريق الخصم من الموارد مباشرة والبقية لهم إمكانية إيداع التصاريح من عدمها.
وأوضح المتخصص الجبائي، أن الموظفين بصفة عامة يتحملون الخصم من الموارد مُكرهين باعتبار أن المؤجر يخصم آلياً من المورد لدفعه إلى خزانة الدولة، مشيراً إلى أن من يقعون تحت هذا الإجراء يمثلون 67 في المئة من المعنيين بالضريبة على الدخل، بنحو 7 مليارات دينار (2.3 مليار دولار)، متأسفاً عن عدم ترسيخ عدالة ضريبية.
قيمة التهرب الضريبي
ومن موقعه كعارف بخبايا المسائل الضريبية في تونس، يعتقد العياري أن التهرب لا يقل عن 12 مليار دينار (4 مليارات دولار) كان من الممكن أن تسهم في تمويل ميزانية الدولة، لافتاً إلى أن التهرب الضريبي يمثل على أقل تقدير 10 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
وقال إن مبالغ كبيرة ومهولة لا تدخل لتمويل موازنة الدولة، وإنه لا يمكن القضاء على التهرب الضريبي بين ليلة وضحاها، مشدداً على أن العمل على تقليصه إلى النصف سيمكن تفادي التجاء تونس إلى الاقتراض الخارجي. ودعا إلى إصدار عفو جبائي فيما يتعلق بالديون المثقلة، على الرغم من أنه سلاح ذو حدين، مع اشتراط إطلاق مشاريع في قطاعات منتجة وذات قيمة مضافة عالية على المنتفعين بهذا العفو. وخلص العياري إلى التأكيد أن هذا الإجراء يمكن أن يكون استثنائياً ووقتياً لتجاوز الوضع المالي الصعب حالياً في تونس.
دعا العياري إلى تطبيق القوانين التي بقيت حبراً على ورق، على غرار القانون الذي ينص على إصدار أسماء المتهربين ضريبياً في الرائد الرسمي. وقال إن "نشر أسماء المتهربين للعموم، خصوصاً من أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الشركات المعروفة سيكون له تأثير كبير على الحد من ظاهرة التهرب في البلاد".
عفو ضريبي
سعياً منها إلى تعبئة موارد مالية إضافية في موازنة 2022، أصدرت الحكومة التونسية مع مطلع العام الحالي عفواً ضريبياً جديداً لحفز أصحاب الشركات والتجار على الإقبال على هذا العفو.
وتم بموجب الفصلين 66 و67 من قانون المالية لسنة 2022 إقرار عفو ضريبي وفق جملة من الصيغ والإجراءات تهم الأشخاص الطبيعيين الذين بحوزتهم مبالغ مالية متأتية من أنشطة غير مصرح بها يمكنهم الحصول على إبراء ذمة ضريبي في حدود المبالغ المصرح بها شريطة دفع ضريبة تحررية بنسبة 10 في المئة من تلك المبالغ. ويكون الانتفاع بهذا الإجراء من خلال إيداع تلك المبالغ بحساب بنكي أو بريدي وتقديم مطلب في الغرض (للمؤسسة البنكية أو للديوان الوطني للبريد في أجل أقصاه 30 يونيو (حزيران) 2022.
وبالنسبة إلى أصحاب الديون الجبائية المثقلة ولأصحاب الديون الجبائية غير المثقلة وأصحاب الديون الجبائية المستوجبة بمقتضى أحكام قضائية تتعلق بنزاعات أساس الأداء يمكنهم الانتفاع بالتخلي عن خطايا التأخير وخطايا الاستخلاص ومصاريف التتبع، وذلك شريطة اكتتاب روزنامة دفع في أجل أقصاه 30 أبريل (نيسان) 2022 وتسديد المبالغ المتخلدة على أقساط ثلاثية لمدة أقصاها 5 سنوات.
وفيما يخص أصحاب المخالفات الضريبية الإدارية المثقلة قبل 25 أبريل 2022 يمكنهم الانتفاع بالتخلي عن 50 في المئة من مبلغ الخطايا والعقوبات المالية ومصاريف التتبع، وذلك شريطة اكتتاب روزنامة دفع في أجل أقصاه 30 أبريل 2022 وتسديد المبالغ المتخلدة على أقساط ثلاثية لمدة أقصاها 5 سنوات.
وأعلنت وزارة المالية أن كل مدين يلتزم بتسديد الأقساط المستوجبة في آجالها ينتفع بتعليق إجراءات التتبع القضائي، لكن بحسب المؤشرات الأولية فإن هذا العفو لم يقدم النتائج المرجوة منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نقائص كثيرة
ويعتقد أنيس الوهابي، المتخصص في مجال المحاسبات، أن المنظومة الجبائية التونسية تشكو من اختلالات عدة، بما في ذلك تعدد النصوص القانونية التي تفوق الـ600 إجراء ضريبي منذ عام 2011 من دون أن تسهم في الحد من ظاهرة التهرب.
وقال الوهابي، إن "تراجع أداء الشركات الكبرى ومحركات الاقتصاد دفع الحكومة إلى تسليط قوانين ضريبية تبدو مجحفة على الإجراء الذين يشكلون الطبقة الوسطى، وهي طبقة في طريقها للتآكل نتيجة إثقالها بالضرائب والاقتطاع من الأجور حتى تستعيد الدولة توازنها المالي وتقلص حدة الدين الخارجي".
وتجاوزت نسبة الضغط الجبائي في تونس 33 في المئة خلال العام الحالي بعد أن كانت في حدود 19 في المئة عام 2010، مما يجعل البلاد تحتل مراتب أولى في التهرب الضريبي على مستوى القارة الأفريقية.
وتضم مصالح الضرائب، بحسب تقارير رسمية، ما يناهز 1600 مراقب، غير أن 400 منهم فقط يجرون عمليات تفقد ميدانية للضرائب، ما يجعل أغلب المؤسسات الاقتصادية غير خاضعة للمراقبة الجبائية.
ويرى متخصصون في الاقتصاد والمالية، أن ظاهرة التجارة الموازية أسهمت بدورها في ارتفاع نسبة التهرب الضريبي، والتي تستحوذ، بحسب الخبراء، على 53 في المئة من التجارة المحلية.
وتدفع التجارة الموازية، التي لا تخضع لإجراءات الضريبة، نحو تهرب الكثير من الشركات بتسوية خلافاتها الضريبية مع الدولة تحت ذريعة تحقيق العدالة الضريبية.
أرقام صادمة
بحسب أرقام رسمية صادرة عن وزارة المالية التونسية، يعتبر المحامون "أسوأ تلاميذ" الإدارة الضريبية، حيث تفيد الأرقام بأن 60 في المئة من المحامين المرسمين لم يصرحوا بمداخيلهم السنوية لسنة 2015، يليهم المهندسون المعماريون بنسبة 50 في المئة، بينما يبدو الأطباء أكثر انضباطاً منهم، على الرغم من أن نسبة من يصرحون بمداخليهم لدى الإدارة الجبائية انزلقت إلى 75 في المئة سنة 2015 مقابل 95 في المئة سنة 2012.
ولا تزال عملية تحصيل الضرائب المفروضة على مداخيل المحامين أمراً محفوفاً بالعراقيل والصعوبات، فمن 7427 محامياً سنة 2015 صرح 2978 منهم فقط بمداخيلهم، بالتالي أدائهم لواجبهم الجبائي.
وتشير أرقام الإدارة الجبائية في تونس إلى وجود ما يناهز 9587 طبيباً (طب عام، طب اختصاص، طب أسنان، طب أسنان اختصاص) إلى حدود سنة 2015، علماً بأن 7103 من بينهم صرحوا بمداخيلهم وأدوا واجبهم الجبائي، أي ما يعادل 74.1 في المئة من مجموع الأطباء المنتمين إلى القطاع الخاص.
ويدفع 76 في المئة من الأطباء المواظبين على التصريح ضريبة أقل من تلك التي يدفعها نظراؤهم في القطاع العام. وإجمالاً فإن قطاع الطب الخاص يدفع ضريبة أقل من أطباء القطاع العام، فإما أن يكون مستوى تأجير أطباء القطاع العام أفضل من نظيره في القطاع الخاص، وإما أن يكون أطباء القطاع الخاص لا يصرحون بإجمالي مداخيلهم السنوية.
في المحصلة يظل التهرب الضريبي معضلة حقيقية عجزت الحكومات المتعاقبة على مقاومته وإيجاد "الوصفة" السحرية لاجتثاثه وتحصيل عائدات مالية تغنيها عن التوجه إلى الاقتراض الخارجي.