بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر منذ غزو أوكرانيا، تعمل آلة الحرب الروسية بكامل طاقتها، فيما يستمر الغاز والنفط بالتدفق منها باتجاه العديد من البلدان، على الرغم من العقوبات المنهكة المفروضة عليها من قبل دول أخرى.
لقد وفرت أسعار منتجات الطاقة الروسية المتضخمة الوقود المالي لصندوق الكرملين الحربي، لا سيما بعد أن ضخت فيه البلدان التي تدفع فواتير الطاقة العالية، وعن غير قصد، مليارات الجنيهات التي ربما استخدمت لإرسال مزيد من الأسلحة والقوات إلى أوكرانيا.
وبينما تبتكر الأنظمة الديمقراطية الغربية سبلاً للضغط على الاقتصاد الروسي وشد خناق العزلة الأوروبية المفروضة على موسكو، حوّل فلاديمير بوتين نظره نحو سوقين غير مستغلتين نسبياً وأكثر ربحية في آسيا ألا وهما الصين والهند.
في اجتماع خاص بقطاع النفط والغاز في أبريل (نيسان) قال بوتين، "يتعين علينا تنويع الصادرات"، متوقعاً أن تواصل إمدادات الطاقة إلى الغرب تراجعها في المستقبل المنظور. كذلك حض الرئيس الروسي الأطراف الفاعلة في القطاع على تحديد منشآت البنية التحتية الرئيسة والبدء في بنائها "لإعادة توجيه صادراتنا تدريجياً إلى أسواق تنمو بسرعة في الجنوب والشرق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تنضم الهند والصين، وهما أكبر اقتصادين ناميين في جنوب آسيا إلى الغرب في فرض العقوبات، ولم تحملا روسيا مسؤولية مباشرة عن انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا حتى مع بلوغ النزاع يومه الـ 100، لكن كلاً منهما أثار مخاوف في شأن الوضع المتدهور بسرعة في البلد الأوروبي الشرقي.
لقد رسمت دلهي مسارها الخاص في ما يتصل بالسياسة الخارجية، فتتشبث بموقفها المحايد في الحرب الروسية، وتتجاهل الانتقادات وحتى التهديدات من الغرب بسبب زيادتها التجارة مع موسكو.
ويسلط إصرار الاتحاد الأوروبي على حظر تدفقات الطاقة الروسية إلى أوروبا الضوء على تسارع واردات الهند من النفط من موسكو، على الرغم من التحديات اللوجستية منذ غزو أوكرانيا في فبراير (شباط).
يقول بعض المحللين إن أوروبا تستورد أكثر مما قد تتمكن الهند من استيراده يوماً، لكن نيودلهي انحرفت في اتجاه الانتهازية المالية بعدما اعتبرت أن بيع روسيا النفط بأسعار بخسة يمثل صفقة أفضل من أن تفوت [ فرصة سانحة يجب اقتنناصها].
وسحبت الهند أكثر من 33 مليون برميل من النفط الخام الروسي في الفترة ما بين مارس (آذار) ومايو (أيار) 2022، أي ما يزيد على ضعف إجمال وارداتها من النفط عام 2021 التي بلغت 14 مليون برميل وفق شركة "كبلر" للبيانات والتحليلات. وخلال الشهرين الأولين من عام 2022، لم تستورد الهند أي نقطة من النفط الروسي، وأضافت "كبلر" أن من المتوقع أن تصل هذه الواردات إلى 39 مليون برميل أوائل يونيو (حزيران) المقبل.
يقول سيمون تاغليابييترا، الزميل البارز في مؤسسة "بروغل" البحثية التي تتخذ من بروكسل مقراً، لصحيفة "اندبندنت"، "في خضم الموقف الحالي في أوكرانيا استفادت الهند من أسعار النفط الروسية المحسومة بهدف زيادة الواردات، ولا ينتهك هذا العمل العقوبات لكنه يبرز بكل تأكيد نهجاً انتهازياً".
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على شريكته التقليدية روسيا في الحصول على نحو 25 في المئة من نفطه، يتناقص هذا الاستيراد بسرعة الآن مع توقف الشركات الأوروبية عن الشراء كما كانت تفعل في الماضي، يلاحظ تاغليابييترا قائلاً.
ويضيف، "بلغ الالتزام التلقائي بالعقوبات أشده، وهذا هو السبب الذي يجعل من الصعب على روسيا على نحو متزايد أن تبيع نفطها في أوروبا، أما الهند فتستورد من روسيا نفطاً أقل مما تفعل أوروبا، إلا أن الاتجاه يتصاعد أثناء الحرب، بينما يتناقص في أوروبا".
وفرض زعماء الاتحاد الأوروبي، الإثنين، حظراً نفطياً جزئياً على روسيا، ولا يغطي هذا الحظر المخفف سوى النفط الروسي المستورد بحراً، مما يسمح بإعفاء مؤقت للواردات التي تدفق من طريق خطوط الأنابيب.
لكن من المتوقع أن يشمل الحظر أكثر من ثلثي واردات النفط من روسيا.
وقالت أورسولا فون دير لين رئيسة المفوضية الأوروبية إن هذا التحرك "من شأنه أن يخفض فعلياً نحو 90 في المئة من واردات النفط من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية هذا العام".
وتُعد الهند ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم بعد الصين والولايات المتحدة، وتحصل بحراً على أكثر من 80 في المئة من حاجاتها من النفط الخام.
ولا يشكل النفط الروسي إلا جزءاً ضئيلاً من واردات الهند النفطية، حوالى اثنين في المئة فقط عام 2021، وخلال السنوات الـ 15 الماضية لبت نيودلهي نحو 60 في المئة من حاجاتها من بلدان الخليج العربي، في حين أمدتها أفريقيا وأميركا الجنوبية بالباقي.
وحتى العام 2021 كانت روسيا تعد عاشر أكبر مورد للنفط إلى الهند، لكنها قفزت الآن إلى المركز الرابع مع ارتفاع مشتريات النفط إلى نسبة قياسية تساوي ستة في المئة، أو حوالى 277 ألف برميل يومياً في أبريل، وفق بيانات تعقب ناقلات النفط من "رويترز".
وتلقت الهند أكثر من 24 مليون برميل من النفط الخام الروسي في مايو في مقابل سبعة ملايين برميل في أبريل، وحوالي ثلاثة ملايين برميل في مارس، طبقاً للتدفقات النفطية المحتسبة من قبل "ريفينيتيف إيكون".
كذلك تضاعفت الواردات الإجمالية للبضائع من روسيا أضعافاً عدة، فبلغت 6.4 مليار دولار (5.8 مليار جنيه استرليني) في الفترة ما بين الـ 24 من فبراير والـ 26 من مايو، مقارنة بـ 1.9 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي.
وتشمل هذه الواردات النفط الخام والمنتجات النفطية والفحم وفحم الكوك وفحم البريكيت والسماد، وقفزت مشتريات الهند من النفط الخام 393 في المئة، والمنتجات البترولية 175 في المئة، كما شهدت منتجات الفحم والأسمدة زيادة بنسبة مئوية تتألف من ثلاثة أرقام، وفق ما نقلته "فايننشال إكسبرس" عن مصادر قطاعية.
وتساءلت وزيرة المالية الهندية نيرمالا سيثارامان الشهر الماضي قائلة "إذا توفر النفط وبسعر محسوم فلماذا لا أشتريه؟"
ويقترح خبراء في الطاقة أن هذه الاتجاهات، فضلاً عن مزاج الهند، تشير إلى أنها انعكاس لاضطرار روسيا إلى أن تجد لنفسها موطناً جديداً للنفط الخام مع ابتعاد أوروبا منه.
ويقول مات سميث، المحلل النفطي البارز لدى "كبلر"، لـ "اندبندنت" إن الهند تملأ الفراغ الذي خلفته السوق الأوروبية. ويضيف أن واردات الهند من روسيا من المتوقع أن ترتفع حتى على الرغم من أنها بسيطة وليست كبيرة في الصورة الأوسع للأمور.
ويضيف، "ارتفعت صادرات النفط الخام الروسي المنقولة بحراً إلى 3.77 مليون برميل يومياً الشهر الماضي [أبريل] – وهذا أعلى مستوى لها منذ سنوات عدة. ويبدو أن هذا الارتفاع كان نتيجة لصيانة المصافي الروسية المحلية، الأمر الذي حرر مزيداً من البراميل للتصدير، في حين نجحت الهند في أن تملأ الفراغ الذي خلفه انخفاض متواضع في الصادرات إلى أوروبا خلال الشهرين الماضيين".
ويضيف سميث أن الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على السلع الروسية في مجال الطاقة إما أن يزيد الضغوط على الهند لحملها على خفض وارداتها أو يشجعها على استيراد مزيد منه.
ويقول، "تشتري البلاد بالفعل خام الأورال الروسي بحسم حاد جداً". مضيفاً، "مع حظر الاتحاد الأوروبي بعض واردات النفط الروسية، فمن المرجح أن يصبح هذا الحسم أوسع نطاقاً وبالتالي أكثر جاذبية للهند".
ويضيف سميث أن الهند ربما تؤدي "دوراً صغيراً للغاية لكنه رمزي" في إطالة أمد الحرب الروسية، نظراً إلى أحجام الواردات المعنية.
إلا أن خبراء قطاعيين في الهند يزعمون أن تجارتها مع روسيا ضئيلة فلن تؤثر حتى في اقتصاد موسكو، ويقولون أيضاً إن القرارات في اقتصاد مثل اقتصاد الهند الضعيف لا بد من أن تستند إلى الاقتصادات وليس المبادئ.
ويقول خبير الطاقة ناريندرا تانيجا لـ "اندبندنت"، "أشعر بأن الضغط الغربي على الهند لوقف اعتمادها على الواردات الروسية مبالغ فيه للغاية ولا مبرر له، لأن الهند بالكاد تشتري أي نفط، وغداً إذا كان هناك إمكان لشراء النفط الروسي فيتعين عليها [الهند] أن تنظر فيه، ونحن عرضة إلى خطر شديد عندما يتعلق الأمر بأمن الطاقة. نحن البلد النامي الكبير الوحيد الذي يعتمد في شكل كبير على الواردات من بلدان أخرى".
واستثمرت الهند 16 مليار دولار في أصول النفط والغاز في التجارة مع روسيا حتى الآن، يقول، فانتقدت الغرب وموسكو "لاستخدام النفط كسلاح".
وتنظر الهند أيضاً في إحياء آلية الدفع بالروبية – الروبل، وهي عبارة عن نظام بديل لتسوية المستحقات بالروبية كان يستخدم سابقاً عام 1953 أثناء العصر السوفياتي، بعدما حظر الاتحاد الأوروبي المعاملات المحلية مع الكيانات الروسية باستخدام أوراق نقدية مقوّمة باليورو، وبعدما قطعت الولايات المتحدة قدرة روسيا على الوصول إلى الدولار بعد غزو أوكرانيا.
يقول أجاي ساهاي، المدير العام والرئيس التنفيذي لمنظمة اتحاد التصدير الهندي، وهو الجهاز الأعلى لدى الحكومة الهندية لتشجيع التجارة، إن المنظمة طرحت العرض الخاص بالتحول إلى التجارة بالروبية - الروبل في ظل وجود كثير من الفرص.
ويضيف، "اقتُرحت آلية الروبية - الروبل لزيادة التجارة بين الهند وروسيا لأن التجارة تحدث بعملة أجنبية حرة، لكن في هذه المرحلة تفتقر روسيا إلى عملة أجنبية حرة، وأبدى العديد من المشترين اهتمامهم بالتعامل بالروبل".
ويضيف أن الحرب أثرت في الطرق التجارية عبر البحر الأسود وأن شحنات قليلة جداً تُسيّر، إذ ينقل بعض خطوط الشحن فقط البضائع.
لكن شهية الهند للواردات الروسية لا تقتصر على النفط، فهي قد تخوض أيضاً في تصدير منتجات غير خاضعة إلى عقوبات، في محاولة لملء أي فراغ، وفق رئيس الهيئة التجارية.
"هناك مجال لتحسين التجارة مع روسيا في قطاع الأغذية وقطاع العقاقير، إذ أظهرت العديد من الشركات الروسية اهتماماً وارتفع الطلب بسبب العقوبات، لكن لا يزال علينا أن نرى مقدار تبلور هذا الأمر".
ويضيف، "دعونا لا نرى ما الذي يمكن كسبه من الحرب، فلا بد أن تكون الأولوية لوقف إطلاق النار في أقرب وقت ممكن، إذ إن الأسوأ لم يأت بعد".
لكن على الرغم من عزوف الهند عن إدانة روسيا، لا تزال دلهي مستمرة في تحقيق مكاسب دبلوماسية بعد ظهور مودة الزعماء الأوروبيين والغربيين، الذين دان العديد منهم جرائم الحرب في أوكرانيا بأعلى صوت، لرئيس الوزراء ناريندرا مودي في شكل كامل الشهر الماضي.
فقد لاقى مودي ترحيباً حاراً في ألمانيا الشهر الماضي عندما أطلق عليه المستشار أولاف شولتز وصف "الشريك الخارق"، وأخيراً استقبله الزعيم الفرنسي المنتخب حديثاً إيمانويل ماكرون بعناق. وأغدق بوريس جونسون الذي زار الهند قبل جولة مودي في أوروبا مباشرة الثناء على "خاص دوست" أو الصديق المميز.
وبعد الدعوات الباكرة للانفصال عن موسكو، عمل زعماء الغرب على تجنب السجالات المتوترة حول العلاقات بين دلهي وشريكتها التاريخية، وبدلاً من ذلك أعلنت المملكة المتحدة وفرنسا شراكات دفاعية، في حين سرعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين وأستراليا العمل على اتفاقات تجارية، فالهند تبرز كبلد قوي وواثق من نفسه، وفق ناندان أونيكريشنان، نائب الرئيس والزميل البارز في "مؤسسة بحوث المراقبين".
يقول، "كان موقف الهند مفهوماً في شكل جيد على مستوى العالم، فالقادة الذين يقصدون نيودلهي على الرغم من علمهم بأن موقف الهند من غير المرجح أن يتغير في أوكرانيا الآن، يظهرون أن للهند دوراً تؤديه مع حصول اضطراب في العالم واحتمال تغير النظام العالمي".
غير أن بعض المحللين يضيفون ملاحظة تحذيرية، إذ قد تجد الهند نفسها في نهاية المطاف في موقف صعب مع استمرار تعاظم الأدلة على جرائم الحرب في أوكرانيا فضلاً عن عدد القتلى.
يقول جونا بلانك من جامعة سنغافورة الوطنية و"مؤسسة راند" لـ "اندبندنت"، "يصبح موقف الهند من أوكرانيا أكثر صعوبة مع تعاظم جرائم الحرب في روسيا، ويتسم موقف الصين بالقسوة لكنه متماسك، فبكين ببساطة لا تهتم بحقوق الإنسان ولا يمكنها أن تشعر بالخزي من أفعال لا تعتبرها مخزية، أما الهند باعتبارها دولة ديمقراطية فلا تتمتع بترف الوقاحة".
© The Independent