عرف السودانيون تاريخهم القديم عبر الكتابة على الجدران، ووثقوا عبرها رموزاً واضحة لمملكة كوش القديمة التي تقع في أقصى الشمال، مثل الكبش الذي يمثل الشكل المحلي للإله آمون، والرماة ذوي السيقان الطويلة الذين يرمزون إلى براعة الكوشيين في الرماية، فضلاً عن تصاميم النسيج المعقدة، والحيوانات كالخيول الجميلة والطيور والزرافات.
الآن أعادت ثورة ديسمبر (كانون الأول) فن الجداريات أو فن الغرافيتي كما هو رائج عربياً وعالمياً، إلى الواجهة بقوة، فقد كانت ساحة اعتصام القيادة العامة في الخرطوم مسرحاً احتضن رسومات تخلد ذكرى شهداء الثورة السودانية، لتنتقل تلك الجداريات إلى شوارع العاصمة لمحاربة الظواهر السلبية والتوعية بمخاطر كورونا، وغيرها من القضايا التي تشكل تحدياً للمجتمع السوداني.
أول جدارية
وبحسب الفنان التشكيلي السوداني عبد المجيد عفيفي، تمثل الجداريات أساس الفن التشكيلي في السودان، وكانت أول جدارية أنتجها فنان تشكيلي سوداني في منطقة مروي القديمة التي جاءت منها الجداريات المحفورة على أهرامات البجراوية والجداريات الملونة في معبد بوهين، وهو من المعابد المروية القديمة وجداريات كنيسة فرس. والشيء الملاحظ في هذه الجداريات أنها كانت مرتبطة بالفن الديني بشكل كبير أو بالأديان.
ويضيف: "حقاً أعادت ثورة ديسمبر التي اندلعت عام 2018، وأطاحت نظام الرئيس السابق في أبريل (نيسان) 2019، الزخم لفن الجداريات، فكانت ثورة الفنون التعبيرية بلا منازع، بحيث وفرت مساحة واسعة للفنانين التشكيليين السودانيين لإظهار إبداعاتهم من خلال توظيف أدواتهم لدعم الحراك الثوري الذي بدأ بالبوسترات الإشهارية في المواكب الاحتجاجية. وكانت بمثابة صورة جمالية اختلط فيها الحرف الموشى باللون والصورة، ثم تدانت إلى الرسوم التعبيرية على القماش وواجهة الجدران وأديم الأرض، وتمكنوا من توصيل الصوت والاحتجاجات والموقف تجاه الثورة".
ويسرد عفيفي: "في ساحة الاعتصام ازدهر فن الجداريات، وتحول من جداريات إعلانية إلى جداريات تعبيرية، فاستغل المعتصمون الجدران والأرض وقاموا بتزيينها برسومات مزجوا أحبارها، بتصاوير وعبارات تحوي أحلامهم وذكرياتهم ومطالبهم وتصوراتهم للمستقبل. ولم يقفوا عند حدود الجدران والأرض، بل تجاوزوها إلى تزيين التروس الوقائية المشيدة بالطوب الأسمنتي وغيره، بأشكال تعبيرية ومفردات دلالية ذات رسائل ومغزى، بالتالي أنتجت أعمالاً في غاية من الإبهار من ناحية التعبير العالي جداً، ويرجع السبب في ذلك إلى توفر عامل الحرية التي كانت متاحة للجميع في إنتاج أعمال مختلفة".
ولفت إلى أنه كان هناك نقاش يدور بين التشكيليين والشباب بهدف دعمهم حول الأفكار وتقنيات الرسم التعبيري، فكانت عبارة عن مدرسة داخل الاعتصام تطور فيها كثير من أساليب الرسم الجداري وأنتجت أعمالاً تعبيرية متقدمة جداً، وكان هناك انضباط بشكل لافت تجاه الثورة.
قفزة نوعية
ويواصل عفيفي قوله: "لكن بعد فض الاعتصام بواسطة القوات الأمنية، والذي راح ضحيته قرابة مئتي قتيل ومئات الجرحى والمفقودين، ظهر في معظم الجداريات إحساس القسوة في إنتاجها والصورة التي كانت تقدمها تأثراً بتلك المجزرة غير المسبوقة في تاريخ السودان الحديث. وأثناء الفترة الانتقالية أسهم الفنان التشكيلي مساهمة فاعلة في القضايا الاجتماعية، وأول ما صدمنا به كورونا حيث أنتجت مجموعة من الأعمال الجدارية التي تختص بالتوعية الصحية بكل أشكالها، للوقاية من خطر كورونا على مستوى السودان كله، فضلاً عن قضية الشرق التي وقعت ما بين قبيلتي البجا والنوبة، حيث أسهمت الجداريات في تقليل حدة الصراع الناشب بين المجموعتين. وأقيمت مجموعة من الورش الجدارية عن طريق تجمع التشكيليين السودانيين مع لجان المقاومة في مدينة بورتسودان".
ويمضي قائلاً: "امتد الرسم الجداري إلى مجموعة من المدن داخل السودان، وجرى نقاش عميق حول القضايا المجتمعية، وكذلك الثقافية التي تخص الفن التشكيلي نفسه. وكانت تجربة ممتازة وقفزة نوعية لم تحصل في تاريخ الفن التشكيلي في وصول هذا الفن عبر الجداريات إلى المجتمع السوداني وتصنيفاته المعرفية والإثنية المختلفة. وقدمت مجموعة من التجارب بين التشكيليين وتجمعات مهنية أخرى منها التجربة مع تجمع المهنيين السودانيين في لجنة المفقودين، وأسهمت في تحريك مسار هذه القضية عن طريق الجداريات".
ولم يفت الدور التجميلي لولاية الخرطوم عن أذهان التشكيليين السودانيين، بحسب عفيفي، إذ أطلقوا مبادرة تختص بهذا الشأن، حيث قدمت مجموعة من الجداريات تدعو المجتمع إلى النظافة لمحاربة ظاهرة رمي النفايات وتجميل الأحياء. واتسعت رقعة المبادرة لتزيين الطرقات والأماكن العامة ومنها جداريات كبرى عن الحرية في الخرطوم، التي تم تلوينها بألوان مفعمة بالحياة، ليكون شعار الثورة الأول "حرية، سلام وعدالة"، لكن بعد ذلك توقف حراك هذه المبادرة بوقوع انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لأنه مارس كبت الحريات ومحاربة أي عمل من شأنه دعم الثورة.
ويرى عفيفي أن تفاعل المجتمع السوداني، وكذلك الزوار الأجانب مع الرسوم الجدارية التي غطت ساحة الاعتصام، والتي كانت تحكي عن واقع الثورة وأبطالها وانتصارها على ديكتاتورية العسكر، كان وراء محوها وتشويهها في هذه الساحة. وهو فعل يثبت انتصار الجداريات ونجاحها، بأن صوتها عال والتفاعل معها كان كبيراً، لكن كان رد فعل التشكيليين وهواة الرسم على هذا الفعل الإجرامي قوياً، حيث انتشرت الجداريات وغطت كل شوارع العاصمة الخرطوم لتصبح مثل ساحة القيادة العامة.
ذكرى الشهداء
يقول الفنان التشكيلي السوداني، مازن معاوية منصور، في استعراضه مشوار فن الجداريات في بلاده، بقوله: "لم تكن الجداريات كفن بعيدة عن أذهان المجتمع السوداني وتفاعله معه وارتباطه به، لكن مع بزوغ فجر ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، برز هذا الفن بشكل لافت وكبير، فقدم التشكيليون السودانيون أعمالاً في غاية الجمال والأثر والبعد دعماً للثورة. وجاء هذا التفاعل من خلال تنادي مجموعات التشكيليين وانتظامهم في تجمعات في مواقع التواصل، حيث كان يدور بينهم نقاش واسع عن أهم القضايا التي في حاجة للتناول من خلال الجداريات".
ويضيف منصور: "كما استعرض تجمع التشكيليين ذكرى الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن، وكان هدفهم أن تكون هناك ذاكرة تاريخية للثورة عن طريق تذكير الناس بما حدث من نضال خلال فترة الثورة، فقد وجدت هذه الأعمال قبولاً كبيراً من الشارع سواء بالدعم المعنوي والإيجابي أو الأفكار وغيرها. وهو ما دفعنا نحو الاستمرار وتقديم الأفضل بتخطي هدفنا باتجاه ملامسة المشكلات التي تعترض وتجابه المواطن في حياته الاجتماعية اليومية. فكنا نلتقي بكل شرائح المجتمع داخل الأحياء ونتعرف على معاناتهم، ونحاول أن نناقش تلك المشكلات ونتوصل إلى حلول وأفكار وطرحها عن طريق الرسومات التعبيرية".
ولفت إلى أن من أهم الأعمال التي تم تناولها خلال الفترة الماضية المخاطر بمرض كورونا، "حيث قدمنا عدة رسومات توعوية على حوائط مختارة بعناية من ناحية أهميتها كشوارع رئيسة. وحقيقة أوصلنا الرسالة الصحيحة، وظهر ذلك من خلال التزام غالبية المجتمع بالاحترازات والإجراءات المطلوبة، بخاصة لبس الكمامة ومسألة التباعد. وتواصل دورنا في هذا الخصوص لنكون جزءاً من الإصلاح لمجمل القضايا من صحة وتعليم عن طريق لفت الانتباه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف منصور: "لقد شاركنا أيضاً في الأعمال الجمالية لجسر الحرية بالمشاركة مع وزارة الثقافة والإعلام، وكان هدفها دعم هذا الفن وتنمية المواهب العاملة في هذا المجال. وشملت الرسومات أعمالاً تراثية وأخرى عن الفن الجمالي للجسور والكباري، وأسهمت هذه الرسومات في معالجة كثير من الظواهر السالبة التي كانت تمارس في هذا المكان، بحيث أصبحت مقصداً للناس بعد أن كانت وكراً للجريمة ورمي النفايات والأوساخ".
معرض افتراضي
يشير الفنان التشكيلي السوداني أمير شفيق، إلى أن السودان عرف فن الجداريات منذ العهد الفرعوني وتحديداً خلال فترة مملكة كوش النوبية التي كانت عاصمتها مروي، واستمرت حتى القرن الرابع الميلادي.
ويلفت شفيق، إلى أن فن الجداريات لعب دوراً عظيماً في مناحي الحياة السودانية المختلفة حاضراً ومستقبلاً، بحيث ناقش ما يدور ويواجه مجالات الزراعة والصناعة والصحة والتعليم وغيرها، من تحديات.
ويتابع: "بلا شك أن ثورة ديسمبر أسهمت في ظهور فن الجداريات مجدداً بصورة لا توصف، بالنظر إلى الكم الهائل من الأعمال المتميزة، حيث عبر الفنانون التشكيليون الشباب عن رؤيتهم وتطلعهم نحو سودان ينعم بالحرية والسلام والديمقراطية والعدالة. وكان ذلك من خلال الرسومات التي زينت ساحة اعتصام القيادة العامة، وكذلك المساهمة الكبيرة في التوعية بأخطار فيروس كورونا. وقد قدمت كفنان تشكيلي مبادرة اشتملت على معرض فني من دون جمهور، وهي فكرة تعتبر الأولى من نوعها، إذ أملتها الإجراءات الاحترازية بمنع التجمعات. كما قام فنانون آخرون برسم لوحات فنية على الجداريات في شوارع الخرطوم الرئيسة خاصة بالتوعية بفيروس كورونا".
ويعتقد، الفنان التشكيلي أمير شفيق، أن الفن التشكيلي عموماً قام على مجهودات فريدة نابعة من حب وإيمان برسالة الفن في حياة الإنسان. ويتمنى أن يجد الدعم من الدولة لأهميته في نهضة الوطن، معدداً التحديات التي تواجه هذا الفن في الاعتراف به وحفظ الحقوق القانونية والأدبية للفنانين، وتوثيق هذه الأعمال في كتيبات للأجيال القادمة.