في مجتمع تغيب فيه "سلطة العقل"، يصعب أن يتحرر فيه المواطن من تقاليد "ثقافة العبودية" المتراكمة عبر العصور والأجيال.
"العبودية المعاصرة" تبدأ من طبيعة العلاقة التي تربط "الفرد" بـ"الزعيم"، والزعيم توهم أيديولوجي ثابت ومتجدد ومتراكم، إضافة إلى كونه واقعاً وسلطة ملموسة، أي سلطة سياسية ودينية واقتصادية وثقافية.
الزعيم في تقاليد ثقافة العبودية ليس هو "الرمز" أو "المرجع" الهوياتي أو السياسي أو الروحي. فـ"الرمز" فلسفياً حالة إيجابية، وتاريخ الأمم يقوم على "الرمزية"، أو ما سمّاه بيير بورديو بـ"الرأسمال الرمزي"، أما "الزعيم" العربي، فهو حالة مرتبطة بثقافة شهوة السلطة بعقلية الفروسية.
في ظل غياب "العقل الجمعي" أو محاصرته، لم يتمكن المواطن العربي والمغاربي من التحرر من هيمنة صورة الزعيم، حتى ليبدو وجود الأخير قدراً محتوماً وضرورة سيكو- اجتماعية يعيشها المواطن فرضاً منذ ولادته وحتى ساعة إقباره.
الزعيم العربي رمز للحكم وليس للحكامة.
إن مجتمعاتنا تبدع في تثمير وزراعة "ثقافة عبادة الزعيم" التي تبدأ من الطاعة لتصل إلى الانتحار الرمزي أو الواقعي.
"ثقافة عبادة الزعيم" تصنع مواطناً مستلباً ومهجّناً، وهذا "المواطن المهجن" بدوره يعيد صناعة الزعيم ويراكم ثقافة عبادته، بحسب ما تتطلبه الظروف السياسية والدينية والتكنولوجية واللغوية.
حين يسقط زعيم ما في العالم العربي والمغاربي، فهو يسقط باسم "ثقافة عبادة زعيم" جديد، بالثقافة نفسها، يسقط هذا القديم ليركع المجتمع عند أقدام هذا الجديد، لا يختلف الثاني عن الأول سوى بالاسم وببعض المفردات الجديدة التي لا تفتأ أن تختفي، وتتلاشى.
حين يسقط زعيم قديم يبدأ نظيره الجديد خطابه أو خطبته بتوظيف قاموس "جديد" خارجياً، خطاب يدّعي التنكر والابتعاد والاختلاف عن سابقه، بل عن سابقيه، لكن بمجرد أن "يُسخّن" كرسيه حتى تعود "حليمة لعادتها القديمة"، ويصيح العامة: مات الزعيم عاش الزعيم!
تعشعش في رأس المواطن العربي والمغاربي صور متعددة للزعيم الذي يسلّم له حياته، زعيم واحد لكنه متعدد الوجود، يتجلى في صور زعماء مختلفين في المظهر لكنهم يؤدون الدور ذاته، الجلد والقمع والحجر والتجهيل، حتى لتبدو حياة هذا المواطن التائه موزعة لخدمة زعماء يتقاسمون السلطة الفعلية في المجتمع، السلط الروحية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
الزعيم الروحي: في العالم العربي والمغاربي، بخاصة بعد أن تحوّل الدين إلى استثمار سياسي رابح، يأخذ الزعيم الديني مكان "الله" تبارك وتعالى، فكل من وصل إلى سدة الزعامة الدينية السياسية إلا وجعل من نفسه ظلاً لله عز وجل، وحوّل من حوله جموع المؤمنين البسطاء إلى رعايا ومطايا للوصول إلى هرم السلطة.
إمامٌ بمستوى الشهادة الابتدائية، قد يحفظ بعض الأحاديث النبوية بعضها صحيح وبعضها مدخول، يستشهد بها كلما رمى هدفاً سياسياً، إمامٌ يستمع إلى أحاديث وفتاوى مجموعة من الدعاة المتطرفين، نجوم القنوات التلفزيونية الكبيرة والصغيرة، ويقلدهم في حركاتهم ولغتهم ولباسهم، يمثل كما يمثلون، يخطب في المصلين فيسبّ النساء، ويسب المسيحيين ويدعو على اليهود، ويصلي من خلفه دكاترة في الفلسفة المثالية والمادية وعلم الاجتماع والتاريخ والأدب والأنثروبولوجيا والشريعة، ويصلي خلفه أيضاً شعراء وروائيون وسينمائيون وأطباء، جميعهم أمهاتهم نساء وبناتهم نساء وزوجاتهم نساء ويسكتون، يبكمون لمثل هذا القذف في حق المرأة. يرفع زعيم الدين السياسي أو الشعبوي أكف الدعاء طالباً الله أن يبيد المسيحيين واليهود، فيرفعون معه أكف الدعاء كالدمى، وهم من درسوا على علماء من المسيحيين ومن اليهود وقرأوا أروع الروايات والأشعار لكثير من الكتاب المسيحيين واليهود وشاهدوا أجمل الأفلام واستمعوا إلى أروع الموسيقى لمبدعين عباقرة مسيحيين ويهود. ويصمتون. إنها ثقافة "التابع" التي تكرس صورة "الزعيم"، الزعيم الذي هو فوق النقد والخطأ لا لشيء إلا لأنه يستعمل منبر الدين السياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الزعيم القبلي: هذا الكائن العربي أو المغاربي، يقرأ شعراً حديثاً وقد يحفظ بعضاً منه وربما يكتب قصيدة "الهايكو"، ويكتب روايات عن الحب وعن حرية المرأة وعن المساواة بين الجنسين، ويدافع "لغواً" عن حقوق الإنسان، حقوق الإنسان مفهوم كبير! ويسافر درجة أولى في رحلاته إلى نيويورك أو دبي أو لندن أو مونريال أو باريس، وينشر صوراً له على وسائل التواصل الاجتماعي في أرقى البقع في العالم، ولكنه حين يعود إلى بيته أو دشرته أو حيّه أو قريته، يخرج عدته الفكرية والسلوكية العتيقة ويعود إلى تبجيل زعيم القبيلة، معتبراً إياه المرجعية الأولى قبل فولتير وروسو ودريدا ومانديلا وغاندي وابن رشد وابن خلدون.
لم يتحرر المثقف العربي والمغاربي، إلا القلة القليلة منهم، من ثقل الهيمنة الرمزية لزعيم القبيلة، فإما أن يكون هو زعيم القبيلة أو يرفع لواء زعيم القبيلة. في الحالتين، فالقيم النائمة فيه هي قيم "قبلية"، لم تقضِ عليها الثقافات الإنسانية ولا الجغرافيات الحضارية التي زارها ولا القيم التي يدّعي الدفاع عنها خارج محيطه المحلي.
إذا لم تمارس النخب المعاصرة نقد مسارها وسلوكها الاجتماعي والثقافي والسياسي، فإنها لن تعيد سوى إنتاج "ثقافة الرعية" وثقافة "المملوك".
الزعيم الحزبي: المواطن أو بالأحرى الفرد العربي أو المغاربي، سعيد ومبتهج ومتحمس لانتمائه لحزب يساري شيوعي أو ليبرالي رأسمالي أو محافظ إسلامي، وهذا من حقه بل ربما من واجبه. ومن موقعه في صفوف هذا الحزب، يمارس حقه المشروع في نقد تصرفات القائد في السلطة، وهذا من حقه أيضاً بل من واجبه الطبيعي، لكنه على مستوى دائرته التنظيمية، يمارس التقاليد ذاتها، تقاليد عبادة الشخص، فهو وحتى قبل وصول زعيم حزبه إلى السلطة، يمارس تجاهه سلوك "المملوك".
إن ثقافة عبادة الشخص تبدأ من عبادة رئيس الحزب ورئيس القبيلة والإمام أو الداعية بشهادة الابتدائي، يتعامل المنتظم حزبياً مع زعيم حزبه كما يتعامل مع رئيس القبيلة أو الإمام، ورئيس الحزب نفسه، مهما كان هذا الحزب في اليمين أو اليسار أو الوسط، شيوعياً أو إسلامياً أو ليبرالياً، وفي ظل مناخ ثقافة المملوك والمهجّن يتصرف بمنطق الزعيم مالك مزرعة من المنتسبين للحزب، وهو في ذلك لا يختلف عن الإمام ولا عن زعيم القبيلة، وفي أفضل الحال، يتشبه بشكل واعٍ أو غير واعٍ بهما وهو ينتقدهما!
في مجتمع تسود فيه ثقافة عبادة الزعيم بكل أشكاله وأنواعه، ثقافة تحاصر المواطن من كل الجهات وفي كل الأعمار وفي كل المواقع المهنية والاجتماعية والتربوية والثقافية والإعلامية، منذ الرضاعة إلى سن صندوق الانتخابات الكاذب، مروراً بكتاب المدرسة ومحاضرات أستاذ الجامعة، ثقافة يرضعها حليباً أسود ويلعب بها في سن المراهقة، ويتنفسها هواء ملوثاً ويصلي بها صلاة المنافق ويصوم بها صيام الخائف ويسكر بها سكر المنتحر ويسافر بها سفر الهارب ويعود بها عودة الخائب. هذه الثقافة الظلماء لا تنتج في نهاية الأمر في مثل هذا المجتمع سوى مواطن فاقد الثقة بالنفس، مهزوم، وخائن، وخائف، ومنحرف، وفاسد ومفسد، وحين يجد هذا المواطن نفسه غارقاً في هذا الوحل الثقافي والسياسي والديني، فإنه يمارس حياته كممثل فاشل، يؤدي دوراً بئيساً في مسرحية كذلك، فيبحث عن زعيم يحميه، عن حائط يعلّق عليه أسماله الوسخة والبالية.
في مجتمع بزعيم، يعتبر المواطن منذ تسجيله في الحالة المدنية، أي منذ مجيئه إلى الدنيا، إلى يوم تسجيله على قائمة الوفيات، يعتبره ملكيته الخاصة، يملكه كما يملك القصر والبستان والسيارة وساعة اليد الذهبية. بمثل هذا المواطن "المملوك"، المواطن "المشيّأ" الذي لا يفهم ولا يعرف معنى الحرية، بل يخاف منها لأنها مسؤولية، يعيد المجتمع إنتاج "الزعيم" ويعيد إنتاج الزعامة القمعية ويرى فيها دينه ودنياه وقدره.
حين يكون الوضع كذلك، كيف لا يمكننا تغيير صورة القائد أو الزعيم، حتى ولو رفض ذلك، لأن المحيط الاجتماعي والسياسي والديني والثقافي الذي أنتجه لا يسمح له بهذا التغير، لذلك فإما أن يمارس سلوك الزعيم أو يطاح به لصالح آخر يعيد إنتاج ثقافة العبودية المعاصرة، وتلك حلقة مفرغة، لا يمكن التحرر منها إلا بإشاعة ثقافة الحرية الفردية وثقافة العقل لا النقل والاجترار.