بات من الصعب للغاية في إيطاليا العثور على طاولة عشاء لا يتصاعد منها دخان السجائر التي يشعلها ما لا يقل عن نصف عدد زائري المطعم بعد تناول وجبتهم، وهم يتخذون تلك الوضعية الخاصة ذات الطابع الإيطالي، كحمل السيجارة في يد وكأس المشروب المساعد على الهضم في اليد الأخرى.
وبدءاً من احتساء فنجان قهوة إسبريسو في المقهى في الصباح، وصولاً إلى تناول كأس من الكامباري مساءً في إحدى الساحات العامة، استطاعت السيجارة في الواقع أن تفرض نفسها رفيقاً ملازماً للإيطاليين على مدى أجيال عدة.
ويعد تدخين السجائر في هذه البلاد، ذروة الإطلالة المميزة حتى في مثل هذه الحقبة من الزمن التي من المفترض أن تكون أكثر وعياً واستنارة. ويكفي تصفح منصة "يوتيوب" للوقوع على مقاطع فيديو تتخللها مشاهد سينمائية للنجمة الإيطالية الأسطورية صوفيا لورين وهي تدخن في أفلام مختلفة.
في المقابل يمكن رؤية بعض هواة كرة القدم في مرحلة من المراحل، يخبرونك بشغف واعتزاز كيف أن مدربين إيطاليين مثل إنزو بيرزوت أو مارسيلو ليبي، كانوا يدخنون السجائر خارج الملاعب، وهم يرتدون ملابس في غاية الأناقة في معظم الأوقات. فأن تكون مدخناً وإيطالياً يعد أمراً رائعاً، أو أقله كان الوضع على هذا النحو حتى عام 2003، حين أصبحت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تسن قانوناً يحظر التدخين في الأماكن العامة والمغلقة، ما أدى إلى تراجع نسبة استهلاك السجائر إلى تسعة في المئة تقريباً، وفقاً لدراسة أجرتها المجلة الرسمية للأورام Annals of Oncology journal (التابعة لـ"الجمعية الأوروبية للأورام الطبية").
وأظهرت دراسة أجريت في عام 2005 أيضاً أن الدعوات الداعمة لقرار حظر التدخين ازدادت بعد دخوله حيز التنفيذ، بحيث أيد نحو 83.3 في المئة من الناس الحظر الذي طبق في عام 2001، في مقابل 90 في المئة بعد تطبيقه.
كان ذلك في أوائل الألفية الجديدة التي شهدت توجهاً متزايداً من الإيطاليين نحو اتباع أسلوب حياة أكثر صحة، وتكون وعي أكبر لديهم بالمخاطر المرتبطة بدخان التبغ. وبدا أن الحظر ساعد في الحد من تلك الرذيلة أو الآفة المفضلة لإيطاليا.
في العام الماضي تصدر عناوين الصحف العالمية خبر اتخاذ ميلانو عاصمة الموضة، قراراً بحظر التدخين في الهواء الطلق. وكانت أول مدينة إيطالية تمنع التدخين في أماكن مثل المتنزهات ومحطات الحافلات والمقابر. وقال أحد أصحاب المتاجر المؤيدين للقرار، في إطار التنفيس عن غضبه "لقد ضقنا ذرعاً بهذا التدخين".
لكن بعد مرور أعوام من الانحسار، أعلن "المعهد العالي للصحة" Higher Health Institute (ISS) التابع للحكومة الإيطالية الأسبوع الماضي، أن نسبة المدخنين عادت لتأخذ منحى تصاعدياً في البلاد، بزيادة نحو 800 ألف مدخن جديد منذ عام 2019.
جدير بالذكر أن ما مجموعه 12.4 مليون إيطالي - أي ما يزيد قليلاً على 24 في المئة من عدد السكان- أصبحوا من المدخنين في عام 2022، وهي أعلى نسبة في إيطاليا منذ عام 2006.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال سيلفيو بروسافيرو رئيس "المعهد العالي للصحة" في بيان له إن "ارتفاع عدد المدخنين هو أمر مثير للقلق"، داعياً إلى "وجوب تفعيل الإجراءات الوقائية وتطبيقها، بدءاً من اليافعين في السن، لضمان حياة أطول للجميع".
ولم تكن حصيلة تلك النتائج [في مثابة] ناقوس خطر للجهات المعنية في القطاع الصحي في البلاد فحسب، بل ناقضت أيضاً فحوى التقييم الخاص بالمعهد الذي أجري في عام 2020، والذي جاءت خلاصته أن عدد مدخني السجائر التقليديين تضاءل في ظل جائحة "كوفيد" وما تبعها من حظر تجوال وإغلاقات.
قالت روبرتا باتشيفيتشي التابعة للمعهد إن "أرقام هذه السنة تؤكد مدى التأثير الكبير للوباء على عادات استهلاك التبغ ومنتجات النيكوتين لدى الشعب الإيطالي". وأشارت إلى أن "منتجات جديدة من التبغ والسجائر الإلكترونية أضيفت إلى استهلاك السجائر التقليدية"، وأن "مستخدميها هم في الواقع مستهلكون مزدوجون بشكل شبه حصري".
لكن فيما يعكف الإيطاليون على ممارسة هذه العادة، فهم ليسوا بأي حال من الأحوال أكثر المدخنين في أوروبا. فاستناداً إلى وكالة إحصاءات الاتحاد الأوروبى "يوروستات" Eurostat، يشكل المدخنون 29.1 في المئة من سكان بلغاريا، التي تضم أيضاً أكبر عدد من الأشخاص في بلد تابع لكتلة الاتحاد، يدخنون ما معدله 20 سيجارة أو أكثر يومياً. وتليها اليونان حيث أعلن 24.9 في المئة من السكان أنهم من المدخنين.
أما فرنسا، فهي تضم، رسمياً في الأقل، نسبة أقل بكثير من المدخنين تصل إلى 18.5 في المئة، على الرغم من أنها توصف بأنها "مدخنة أوروبا"، شأنها شأن إيطاليا، التي شهدت هي أيضاً زيادة في عدد المدخنين بسبب الإغلاق الشامل نتيجة الوباء.
وقد توصلت دراسة أجرتها "المجلة الأوروبية للصحة العامة" European Journal of Public Health في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021، إلى أن ما يقرب من 27 في المئة من المدخنين في فرنسا قالوا إنهم زادوا من استهلاكهم التبغ منذ الإغلاق الأول في شهر مارس (آذار) عام 2020 - وهو اتجاه بدا سائداً في مختلف أنحاء دول الاتحاد الأوروبي والعالم.
وأعرب ناشطون في مجال البيئة عن قلقهم من الارتفاع المتجدد لعدد مستهلكي السجائر. فإضافة إلى المخاطر الصحية المرتبطة بالمشكلة، تسبب السجائر أيضاً أضرارا بيئية، إن لجهة الهواء أو الماء أو التربة أو الشواطئ، فقد حذر الاتحاد الأوروبي أخيراً من أن ثاني أكثر القمامات والمخلفات شيوعاً هو أعقاب السجائر، بحيث يجرى التخلص من نحو أربعة تريليونات و500 مليار منها كل سنة.
"منظمة الصحة العالمية" نبهت في "اليوم العالمي للامتناع عن التدخين" World No Tobacco Day الشهر الماضي، إلى "وجوب العمل أيضاً على محاسبة المعنيين في صناعة التبغ، على نفايات التبغ والأضرار الناجمة من إنتاجه". وأصرت على القول إنه "على تلك الشركات أن تدفع ثمن الضرر الذي تتسبب به، وأن تتحمل المسؤولية عن التأثير البيئي لمنتجاتها في مختلف مراحل سلاسل التوريد".
نشرت اندبندنت هذا المقال في 8 يونيو 2022
© The Independent