عادت إلى واجهة الجدل والنقاش من جديد، في المغرب، ظاهرة "الموظفين الأشباح"، وهو تعبير يطلق على موظفين بإدارات ومؤسسات حكومية، يتلقون رواتب من دون عمل أو من دون حضور، وذلك بعد أن كشفت أسماء أغلالو، عمدة العاصمة الرباط، وجود المئات منهم في "مجلس العمودية" الذي تترأسه.
وأصيب عديد من المغاربة بالذهول من تصريحات أغلالو، عندما قالت أخيراً إن "بلدية العاصمة" تتوافر على 3 آلاف و400 موظف، منهم ألف يشتغلون فعلياً، والبقية "موظفون أشباح" يتقاضون رواتب من دون أداء وظائفهم ومهامهم في الإدارة.
وتتضارب الأرقام بخصوص العدد الحقيقي للموظفين الأشباح في الإدارات والمؤسسات الحكومية بالمغرب، لكن الثابت أن الظاهرة موجودة بالفعل، ولم تتمكّن الحكومات المتعاقبة من استئصالها على الرغم من القرارات والجهود المبذولة.
وكان نجيب بوليف، وزير الشؤون العامة في "حكومة الإسلاميين" الأولى عام 2012 صرح بأن عدد الموظفين الأشباح في الوظيفة العمومية يصل إلى 80 ألف موظف. لكن، وزير الوظيفة العمومية محمد بنعبد القادر في "حكومة الإسلاميين الثانية" كشف عام 2019، في مجلس النواب، أنه ضبط 3 آلاف و339 موظفاً شبحاً في الفترة بين 2012 و2017، وأن قرارات العزل صدرت حينها في حقهم.
ظاهرة قائمة
القنبلة التي ألقت بها عمدة العاصمة المغربية الرباط حرّكت مياهاً راكدة في ملف "الموظفين الأشباح"، لاعتبارات عدة رئيسة، الأول أن الكلام صدر عن شخصية مُنتخبة تسير إحدى كبريات مدن المملكة، والاعتبار الثاني أنه كلام شخصية مسؤولة تعرف حقيقة الملف وتداعياته، والثالث أنها بذلك تفتح هذا الملف الشائك، وترمي به بشكل غير مباشر إلى ملعب الحكومة.
وفي المقابل، يرى مهتمون بهذا الملف أن ما أثارته عمدة الرباط لم يكن سوى "أقوال من دون أفعال"، وتوصيفاً لحالة "مزرية" يعرفها الجميع، لكن من دون أن تتبعها إجراءات رسمية وقانونية صارمة لوقف نزيف المال العام، بمنح رواتب وتعويضات لآلاف من الموظفين الذين لا يعملون.
هذه الوضعية المزرية أشارت إليها عمدة الرباط نفسها، في تصريحات للقناة الثانية الحكومية، بقولها إن ظاهرة الموظفين الأشباح في البلدية التي تسيرها منذ بضعة أشهر، تكبد الميزانية العامة للدولة خسائر كبيرة، كما أنها تسببت في عجز مالي للبلدية بلغ أكثر من 198 مليون درهم.
وليست بلدية الرباط وحدها التي تعاني الظاهرة، ففي عدد من الإدارات والمؤسسات التابعة للدولة تشكو من الآفة نفسها، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة.
مصالح متبادلة
ووقفت "اندبندنت عربية" من مصادرها، على حالات موظفين أشباح في بلديات وإدارات عمومية في مدن أخرى، منها حالات موظفين يتلقون رواتب من دون الحضور إلى العمل إلا نادراً، وفي مناسبات معينة.
المصادر أفادت بأن الأمر أحياناً كثيرة يكون بتواطؤ بين الموظف الشبح وبين رئيسه الذي يتواطأ معه بالتستر عليه في قوائم الحضور والغياب، نظراً إلى وجود تبادل مصالح مادية ومعنوية بين الطرفين.
وتردف المصادر بأن هذا "الموظف الشبح" يكون بذلك يتلقى راتبا شهرياً من دون الاضطرار للحضور، ويعلم مسبقاً أن لا أحد سيجبره على الحضور ما دام رؤساؤه يوفرون له الحماية و"التغطية".
وهناك حالات أخرى تتعلق بموظفين أشباح يحضرون إلى مقر العمل عند وجود مناسبة معينة، أو علمهم المسبق بحضور لجنة تفتيشية أو ما شابه ذلك، وتكون لديهم عادة علاقات قوية داخل الإدارة المعنية، تحميهم من المساءلة القانونية.
ويوجد موظفون أشباح يتلقون رواتب وتعويضات لكونهم مسجلين في سلك الوظيفة العمومية، لكنهم لا يحضرون لأسباب ومبررات يجدون لها مسوغات إدارية، بينما يتفرغون لأعمالهم ومشاريعهم الخاصة.
استنزاف الإدارة المغربية
ويعلق الناشط الحقوقي، عبد الإله الخضري، على الموضوع بالقول إن "ظاهرة الموظفين الأشباح لا تقتصر فقط على أولئك الذين يتغيبون بصفة نهائية من مقار عملهم، بل هناك كثيرون يحضرون لكنهم لا يؤدون أي مهام، بل منهم من لا يمكث في عمله سوى نصف أو أقل من نصف الدوام الرسمي".
ويكمل مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان بأن "هذه ظواهر تُسهم في استنزاف الإدارة المغربية والمال العام على حد سواء". مبرزاً أنه كانت هناك "محاولات من حكومات متعاقبة لاستئصال الظاهرة من دون نجاعة كبيرة، نظراً إلى النفوذ الذي يتمتع به بعض الموظفين الأشباح أو لاستغلالهم ضعف المراقبة أو تمتعهم بحماية سياسية من لدن منتخبين أو مسؤولين في السلطة".
ويستطرد المتحدث، "ما دامت عوامل النفوذ وحماية المصالح والمنافع قائمة كثقافة متجذرة داخل الإدارة العمومية المغربية، فإن أمل إعمال القانون وتقوية الأداء سيبقى معلقاً، ويصعب من محاولات التصدي لهذه الظاهرة، لأن الأمر أعمق بكثير من مجرد قرارات منعزلة لمسؤولين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الخضري، فالحسابات السياسية والترضيات التي تحصل في هذا الصدد بين المنتخبين ومساعديهم "تشكّل عاملاً رئيساً في تفشي ظاهرة الموظفين الأشباح داخل الإدارة العمومية، علاوة على السلوكيات التي تمس نزاهة المرافق العمومية وشفافيتها".
وخلص المتحدث ذاته إلى أنه يمكن لقرار جريء صادر عن رئيس الحكومة لمحاربة ظاهرة الموظفين الأشباح داخل الإدارات العمومية، أن يعطي بعض الثمار، لكن العبرة في النهاية ترتبط بالأفعال لا بالأقوال، على حد تعبيره.
مطالب بالتحقيق
من جهته، يقول محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، لـ"اندبندنت عربية"، إن المؤلم في موضوع "الموظفين الأشباح" أنه يتعلق بظاهرة أخرى هي "سياسة الريع" التي تتفشّى في دواليب الحياة الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد.
ووفق الغلوسي، فإن الموظفين الأشباح الذين يتلقون رواتب وتعويضات وتحفيزات مالية من دون حضور منهم أو بذل أي مجهود لفائدة الدولة، يكون على حساب مآسي عديد من الشباب الذين يبحثون عن فرص عمل كريمة لهم، وآخرين من ذوي الشهادات العليا يطرقون الأبواب لنيل وظيفة من دون جواب، وشباب يلقون بأنفسهم في أحضان المجهول عبر "قوارب الموت" للهجرة صوب أوروبا.
وأجرى الغلوسي عملية حسابية بسيطة، جاء فيها أنه إذا اعتبرنا الأجر الشهري المتوسط في حدود 4 آلاف درهم (400 دولار) فإن مجموع الأجر السنوي لهذا العدد من الموظفين الأشباح في بلدية الرباط وحدها هو 129 مليوناً و600 ألف درهم سنوياً.
ودعا الحقوقي نفسه وزارة الداخلية إلى مطالبة كل من تقاضى الأجور من دون عمل بإرجاعها إلى خزانة الدولة، وسلك التدابير القانونية ضد "الموظفين الأشباح"، وفتح تحقيق معمق مع كل الجهات التي تتستر عليهم.
ولفت رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام إلى أن "هذا الهدر الفاضح للمال العام والمستفز لمشاعر المغاربة يحدث وسط ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وضرب القدرة الشرائية للمواطنين في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة".