"حرب ما بعد الحرب أكثر صعوبة من الحرب"، كما يقول الخبير الاستراتيجي الأميركي المخضرم أنطوني كوردسمان. والحرب، في رأيه، "ليست عن إنهاء المخاطر بل عن إدارة المخاطر". فهل تجاهل الرئيس فلاديمير بوتين وجنرالات الكرملين ذلك، بعد أن اختبروه في حرب سوريا التي لا تنتهي، حيث بدت الأهداف المعلنة من غزو أوكرانيا نوعاً من الرهان على إنهاء المخاطر المتصورة في أوكرانيا عبر التحييد ونزع السلاح والنازية الجديدة وإعادة المد الأطلسي إلى الوراء؟ أليس ما يصطدمون به، وسط القدرة على التدمير، هو الصعوبة حتى في إدارة المخاطر؟ هل يجهل الرئيس فولوديمير زيلينسكي والجنرالات الأوكرانيون، بصرف النظر عن الصمود في مواجهة الغزو، أن المخاطر لا تنتهي، ولو تمكنوا بمعجزة من دحر القوات الروسية إلى خارج أوكرانيا؟ وهل يصدق الرئيس الأميركي جو بايدن ومعه قادة الغرب، أن إرسال الأسلحة المتطورة إلى الجيش الأوكراني، وفي عز الحرب لا قبلها، سيقود إلى إلحاق "هزيمة استراتيجية" بروسيا؟
الميدان والسياسة
مهما يكن، فإن حرب أوكرانيا تدار من الطرفين على أساس أنها "حربان" في وقت واحد. حرب بكل الأسلحة باستثناء السلاح النووي الذي لم يغب التهديد به، محصورة في الجغرافيا الأوكرانية. وحرب بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والسيبرانية في العالم كله، لا فقط في أوروبا. الأولى حول مستقبل أوكرانيا. والثانية حول مستقبل روسيا. وهما معاً حول مستقبل أوروبا والعالم.
ذلك أن موسكو تحاول على الأرض تطويع أوكرانيا لنقلها من المدار الأوروبي إلى المدار الأوراسي، وإلا تقسيمها بحيث تأخذ المناطق الصناعية في الشرق والجنوب وتترك المناطق الزراعية في الغرب. وهي خائفة، لا فقط من ضم أوكرانيا إلى "الناتو" بل أيضاً من التجربة الديمقراطية فيها. والحجة هي الحديث عن هيمنة النازيين الجدد على السلطة في كييف، مع أن موسكو تعرف أن حزب "سفوبودا" اليميني المتطرف والممثل للنازية الجديدة لم ينل في انتخابات عام 2019 سوى أقل من 3 في المئة من أصوات الناخبين. وفي المقابل، فإن كييف تدافع عن أرضها وحريتها بعد عقود من السيطرة الروسية أيام القياصرة ثم أيام السوفيات. وإذا عجزت عن إنهاء الغزو بالحرب الكلاسيكية، فإن رهانها هو على حرب عصابات طويلة لا أحد يعرف كيف تنتهي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القطب والجزء
لكن حرب بوتين ليست فقط من أجل الحصول على أوكرانيا. فهو يريد استعادة دور القوة العظمى لبلاده، وتكريسها كقطب مواجه للغرب لا كجزء منه، وشريك كامل في إدارة نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهو يتهم الغرب بأنه يريد إضعاف روسيا ومحاربتها "حتى آخر أوكراني"، ويحتج بأن إرسال الأسلحة إلى كييف يقود إلى إطالة الحرب. والترجمة العملية لذلك هي: دعوني أقتل أوكرانيا بسرعة بدل إرسال السلاح لتأخير النهاية. والغرب يخوض بالفعل حرب عزل روسيا وإضعافها بحيث لا تكون شريكاً كاملاً في أي نظام عالمي، ولا في موقع الند حتى للصين الخصم الأهم للغرب. والعالم يعاني أزمة غذاء وارتفاع أسعار. والمؤكد أن إدارة سلاسل التوريد في العالم ستتغير، بحيث تستغني أوروبا عن النفط والغاز من روسيا. والواضح أن بوتين الذي يرفض دور أميركا كشرطي العالم. ويرى أنه "لم يعد بإمكان أي شرطي منع البلدان من انتهاج سياسات مستقلة"، يصر على أن "روسيا تدرك المزايا التكنولوجية الهائلة في التقنيات العالمية في الاقتصادات المتقدمة، ولن نقطع أنفسنا عن ذلك"، لكن أميركا توحي أنها تريد بالفعل إقصاء روسيا عن هذه المزايا التكنولوجية الهائلة. لا بل أنها تنظر إلى حرب أوكرانيا فترى أنها كشفت حدود الأداء لدى القوات المسلحة الروسية والتحديث في الأسلحة، بحيث هزت الأسطورة التي روجتها موسكو عن قوات مختلفة عما كانت عليه وأسلحة "لا مثيل لها في العالم".
والعالم ليس مجرد مراقب لحربين بل هو متأثر بهما ومؤثر فيهما. وإذا كان بوتين يقول إن "الغرب الجماعي يكرهنا"، فعليه أن يدرك خطورة أن يكره الغرب روسيا وأن يكره الروس الغرب. وعلى الغرب أن يعترف بأن العالم ليس غرباً فقط. فمتى يتوقف الكبار عن اللعب بمصائر الصغار؟ التاريخ يقول العكس، ومن بدء التاريخ إلى اليوم.