في كل عائلة مسن يواجه مشكلات ناتجة من الشيخوخة وتداعياتها. نسيان التفاصيل وصعوبات التركيز وتكرار الأسئلة ذاتها، من العلامات التي يمكن أن تثير ريبة أفراد العائلة أحياناً عندما تظهر لدى مسن، فيما يعتبرها آخرون عادية ومن النتائج الطبيعية للتقدم بالسن. فمتى تكون هذه العلامات طبيعية فعلاً ولا تدعو للقلق، ومتى تُعتبر من مؤشرات الإصابة بداء ألزهايمر الذي يسبب ضموراً تدريجياً في الجهاز العصبي ولا يزال الطب يقف عاجزاً عن وضع حدّ نهائي له حتى اليوم؟
مع التقدم بالسن، تزيد فرص الإصابة باضطرابات الجهاز العصبي عامةً بشكل ملحوظ. يوضح رئيس قسم أمراض الجهاز العصبي في مستشفى "أوتيل ديو دو فرانس" في بيروت الطبيب حليم عبود أن "داء ألزهايمر هو في الواقع أحد أنواع الخرف ويشكل نسبة 60 أو 70 في المئة من حالاته. بعد سن الثمانين، يتخطى خطر الإصابة به نسبة 50 في المئة، بعد أن يزيد الاحتمال بشكل ملحوظ مع التقدم بالسن، وإن كانت مصادفة حالات في سن الخمسين ممكنة".
مؤشرات المرض تقلق المحيطين أولاً
حتى اليوم، لم يظهر سبب واضح لهذا المرض الذي يزداد انتشاراً حول العالم والذي لا تطال تداعياته المريض فحسب، بل يشكل انتشاره تحدياً على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للمرضى ولعائلاتهم أيضاً.
لا تتوافر الأرقام التي يمكن أن تعكس معدلات انتشاره في مجتمعاتنا بسبب تراجع معدلات تشخيص المرض، خصوصاً أنه لا يزال يُعتبر فيها من المحرمات التي يرفض كثيرون الاعتراف بها، ما يزيد من صعوبة مواجهته. حتى إنه قد تظهر أولى علاماته وتبدو من النتائج الطبيعية للتقدم بالسن فيهملها المحيطون، سواء في حال نسيان تفاصيل معينة أو موعد أو العجز عن تذكر كلمة ما أو اسم. لا تُعطى لها الأهمية اللازمة إلا عندما تصبح أكثر تكراراً ووضوحاً، فيما يبدو ضرورياً التنبه إلى أي مؤشرات تتعلق بتراجع في الذاكرة في أي عمر كان، خصوصاً في عمر السبعين أو الثمانين.
نسيان التفاصيل أو التراجع على مستوى الذاكرة مع التقدم بالسن لا يعني حكماً الإصابة بداء ألزهايمر في كل الحالات. بالفعل، قد يكون النسيان نتيجة طبيعية لشيخوخة الدماغ أحياناً. وصحيح أن التراجع في مستوى الذاكرة من أعراض المرض، بحسب عبود، إلا أنه ليس العارض الوحيد ولا يمكن الاستناد إليه وحده لتأكيد الإصابة به. فالخلل على المستوى الهرموني أو نقص الفيتامينات من العوامل التي تؤثر سلباً في الذاكرة والقدرة على التركيز. وعندها في حال وصف العلاجات اللازمة، تتحسن الحالة وتعود الأمور إلى طبيعتها. وهذا لا ينطبق على مريض ألزهايمر الذي لن يستفيد من أي علاجات، ولن يلاحَظ تحسن على مستوى الذاكرة لديه. فما يميز داء ألزهايمر أنه يتطور مع الوقت ويزداد الوضع سوءاً. كما تترافق الحالة مع مؤشرات أخرى.
ما يلفت نظر المحيطين ويساعد على التشخيص في الفحص العيادي، كالتغيير في المزاج والعجز عن تأدية وظائف كان من الممكن إنجازها قبل فترة والتغيير في السلوكيات كرفض الاستحمام مثلاً وفقدان الاستقلالية، أو التغيير في الشخصية بحيث يتحول المريض من هادئ إلى عدواني، علماً أن التراجع في الذاكرة يكون على صعيد الذاكرة القريبة المدى ولا يؤثر المرض أبداً في المعلومات البعيدة المدى التي يحفظها المريض طويلاً. فقد يتذكر معلومات من طفولته وهذا لا يعني أنه ليس مصاباً بداء ألزهايمر. وإذا كانت أولى مؤشرات المرض العجز عن إدارة الشؤون المالية واتخاذ القرارات ونسيان بعض التفاصيل، في مراحل متقدمة، ينسى المريض حتى أفراد عائلته ويفقد القدرات الإدراكية والقدرة على الأكل والحركة والقيام بأبسط الوظائف، وتعتبر هذه من المراحل الأكثر قسوة على المحيطين.
يوضح عبود أن "المريض الذي يقصده لإيجاد حل لمشكلة تراجع مستويات الذاكرة لديه حكماً ليس مريض ألزهايمر، لأنه لا يدرك أنه يعاني مشكلات في الذاكرة ويرافقه أفراد عائلته أو المحيطون إلى عيادة الطبيب لملاحظتهم أعراضاً تدعو للقلق لديه، فيما لا يلاحظ هو أي مشكلة لديه".
العامل الوراثي وأسباب أخرى
يبدو واضحاً أن العامل الوراثي يلعب دوراً مهماً في زيادة خطر الإصابة بالمرض، إضافة إلى وجود جينة APOE المسؤولة عن الاستعداد للإصابة، التي يمكن كشف وجودها من خلال الفحص الجيني. ويمكن أن تسهم عوامل خارجية عدة في زيادة احتمال الإصابة لمن لديهم الاستعداد لذلك لسبب وراثي أو جيني ومنها التدخين والسكري والبدانة والركود. وقد أظهرت الدراسات أيضاً أن التوتر ومواجهة فترات من الاكتئاب في مرحلة الشباب، يزيد من خطر الإصابة بداء ألزهايمر مع التقدم بالسن، ما يجعلها من عوامل الخطر التي يجب الحرص على تجنبها.
لا يمكن الوقاية من داء ألزهايمر أو التدخل لمنع الإصابة به لمن لديه الاستعداد الجيني أو الوراثي. إنما كونه ناتجاً من تلف في الخلايا الدماغية، وبوجود عوامل خارجية يمكن أن تلعب دوراً في زيادة احتمال الإصابة إذا كان الشخص عرضة لذلك، يمكن التدخل من خلال تغييرات معينة في نمط الحياة وإجراءات قد تساعد في تأخير ظهور المرض، وإن كانت لا تمنعه. فضبط معدلات الكوليسترول ومستويات ضغط الدم والسكري والبدانة وغيرها من المشكلات الصحية التي تؤثر سلباً في الخلايا الدماغية بشكل مباشر أو غير مباشر، يسمح بالحد من تلف الخلايا الدماغية الذي يحصل أصلاً مع الإصابة بداء ألزهايمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجدر الإشارة إلى أن مريض ألزهايمر لا يشعر بالانزعاج من حالته أو من مرضه، بل تبدو له حياته طبيعية ولا يدرك أنه يعاني فقدان الذاكرة. تبدأ الصعوبات نتيجة انزعاجه في التفاعل مع محيطه الذي يجد صعوبة أيضاً في التكيف معه فيما يصبح صعب المراس. كما يواجه صعوبات في النوم وتغييرات سلوكية أخرى تزيد من التحديات أمام المحيطين.
حفاظاً على استقلالية المريض وللمساهمة في الحد من تطور حالته، يشدد عبود على ضرورة "عدم تركه يرتاح"، كما يفعل كثيرون في التعامل مع مريض ألزهايمر. فأياً كانت الوظائف والأعمال التي يقوم بها أصلاً يجب أن يستمر بالقيام بها، حفاظاً على وظائف الدماغ وعلى قدراته الإدراكية.
من جهة أخرى، تكون حالة المريض طبيعية طالما هو موجود في محيطه وفي البيئة التي اعتاد عليها. لكن سرعان ما يعاني ضياعاً تاماً لدى انتقاله إلى مكان آخر وهذا أسوأ ما يمكن أن يتعرض له.
علاجات واعدة قيد التجارب
الأسوأ أن الطب لا يزال عاجزاً عن مواجهة هذا المرض الذي لا يتوافر له حتى اللحظة العلاج الفاعل القادر على شفاء المريض. فالعلاجات المتوافرة حالياً تهدف إلى تحسين أعراض المرض وتستهدف كلاً منها بحسب طبيعتها. أما الأدوية الجديدة التي تم تطويرها، فتستهدف البروتينة المسؤولة عن المرض، بما أن المرض وتلف الخلايا الدماغية ينتجان بشكل أساس من تراكم هذه البروتينة في الدماغ، فتؤدي إلى حالة الضياع وفقدان الذاكرة الكلي في مراحل متقدمة.
هذه الأدوية هي التي تخفف من تطور المرض وتبطئه بما يسمح بتأخير المراحل المتقدمة منه سنوات عدة. أثبتت فاعلية واضحة، إنما تم سحبها من الأسواق بعد أن ظهرت لها آثار جانبية لا بد من أخذها في الاعتبار. بالتالي، حتى اللحظة لا تتوافر للمريض إلا الأدوية التي تسمح بالسيطرة على الأعراض، فيما تستبعد حالياً مهدئات الأعصاب والمنومات قدر الإمكان بعدما تبيّن أن فائدتها تعود بشكل خاص على المحيطين، فيما يمكن أن تسهم في الواقع في تراجع حالة المريض.
بشكل عام، على الرغم من المؤشرات الواعدة إلى حصول تطور بارز في علاج اضطرابات الذاكرة، خصوصاً داء ألزهايمر، يبدو واضحاً أن اكتشاف علاجات جديدة للمرض يعتبر بطيئاً نسبياً، كما يشرح الاستشاري في طب العائلة والطب النفسي وأمراض المسنين وائل كرامة، مشيراً إلى أن "العلاجات الحالية تساعد على تحسين حالة فقدان الذاكرة والمشكلات المرتبطة بالتركيز والتفكير عبر تعزيز أداء المواد الكيماوية في الدماغ المسؤولة عن نقل المعلومات من خلية دماغية إلى أخرى. في المقابل، هي لا توقف التدهور الأساس الحاصل وتلف الخلايا الدماغية. أما دواء Aducanumab الذي حاز على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية في يوليو (تموز) 2021 ، فهو الأول لعلاج السبب وراء مرض ألزهايمر وإزالة لويحات الأميلويد في الدماغ، إنما أتت هذه الموافقة مشروطة بإجراء مزيد من الدراسات لتأكيد فاعليته وتحديد فئة المرضى الذين قد يستفيدون من العلاج. ويبقى من العلاجات التي تُعلّق عليها الآمال في مواجهة المرض".
ومن العناصر المهمة التي يرتكز عليها الباحثون في العلاجات التي يتم تطويرها حالياً، بحسب كرامة، "الحفاظ على أحد البروتينات الأساسية في الدماغ وهو بروتين ’تاو‘ المسؤول عن التشوه الدماغي الذي يظهر لدى مرضى ألزهايمر. تهدف الأبحاث إلى منعه من التسبب بهذا التشوه وتجري حالياً التجارب السريرية على مثبطات تراكم البروتين تاو ولقاحاته".
ومن العلاجات التي تجري الأبحاث عليها أيضاً اليوم تلك التي تُعنى بالحد من الالتهابات في مواجهة داء ألزهايمر، لاعتبار أن المرض قد يسبب التهاباً مزمناً منخفض المستوى في خلايا الدماغ. لذلك يعمل الباحثون على تطوير عقار Sargramostim الذي قد يحفز جهاز المناعة على حماية الدماغ من البروتينات الضارة.
أبحاث على علاجات عدة أجريت ظناً أنها قد تكون فاعلة في معالجة المرض، فيما تبيّن عكس ذلك. في المقابل، هناك اختبارات واعدة حول استخدام الشحنات الكهربائية الخفيفة على الرأس لتحفيز خلايا الدماغ. "هي تقنية آمنة لا يشعر خلالها المريض بأي ألم. وتظهر المعطيات أن هذه التقنية قادرة على تعديل النشاط العصبي وزيادة المرونة العصبية والمساعدة في تحسين الذاكرة والتركيز وتحليل المعلومات".
تُعلّق الآمال اليوم على التجارب والعلاجات التي تعد بتحسين حياة مريض ألزهايمر والمحيطين، فيما يبقى حتى اللحظة من الأمراض التي في تطورها قسوة على كل من يعانيها وعلى أفراد العائلة. فيشعرون بعجز مؤلم أمام الحالة الصعبة التي يبلغها المريض في مراحل متقدمة، خصوصاً عندما يجدوه في حالة من العجز الكلي وهو غير قادر على التعرف إلى أقرب الناس إلى قلبه.