قطع إيمانويل ماكرون الطريق أمام مارين لوبن التي تنتمي إلى اليمين المتطرف خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في أبريل (نيسان)، لكن الرئيس الفرنسي يواجه الآن تهديداً من الطرف المقابل للمشهد السياسي في إطار معركة كسب النفوذ داخل البرلمان.
ومن المقرر إجراء الانتخابات على مستوى البلاد من أجل اختيار (577) نائباً يشكلون أعضاء الجمعية الوطنية كافة، وهي المجلس الذي يتمتع بالنفوذ الأكبر في البرلمان الفرنسي، يوم الأحد، على أن تعقد جولة ثانية يوم الـ 19 من يونيو (حزيران).
ويسعى جان لوك ميلونشون، مرشح أقصى اليسار وزعيم تحالف يضم اليساريين والخضر والشيوعيين يسمى الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (Nupes) إلى الفوز بالانتخابات ومنع حزب ماكرون من الحفاظ على أغلبيته الحالية في البرلمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما يريده التروتسكي السابق ميلونشون هو رفع الحد الأدنى للأجور بشكل ملحوظ، وخفض سن التقاعد إلى 60 عاماً، كما يريد أن يظفر بمنصب رئاسة الوزراء في حال فوز تحالفه، ولهذا السيناريو أن يعوق مسار أجندة ماكرون الداخلية كلياً.
ولننظر إلى المسألة عن كثب، فما الذي قد يخسره ماكرون في حال فوز اليسار الراديكالي؟
الجواب الكثير، فلو حافظ ائتلاف "ماكرون معاً!" (Ensemble!) على موقع السلطة فسوف يتمكن الرئيس من تنفيذ أجندته بلا تغيير، ولكن برأي المراقبين قد يواجه حزب ماكرون وحلفائه هذه المرة صعوبة في الحصول على أغلبية مطلقة، أي العدد السحري البالغ 289 مقعداً نيابياً، وستظل الحكومة التي تتمتع بأكثرية كبيرة إنما غير مطلقة من المقاعد قادرة على الحكم، ولكن فقط من طريق المساومة مع النواب.
ومع أنه من الممكن أن يفوز تحالف ميلونشون بأكثر من 200 مقعد، إلا أن التوقعات الحالية لا ترجح كثيراً احتمال فوز اليسار بالأغلبية، فمن المتوقع أن يحصد ماكرون وحلفاؤه ما بين 260 و320 مقعداً وفقاً لأحدث الاستطلاعات.
ومهما كانت نتيجة الاقتراع فسوف يتمتع ماكرون بنفوذ كبير في السياسة الخارجية، ولكن لو حقق تحالفه أداء متواضعاً فسيتسبب له ذلك بإزعاج طوال فترة ولايته الثانية التي تصل مدتها إلى خمس سنوات، ومن شأن هذا الأمر أن يرتب تبعات كارثية على أجندة الرئيس التي تشمل اقتطاعات ضريبية وإصلاح نظام المساعدات الاجتماعية ورفع سن التقاعد، وفي هذا السياق قال أوليفييه روزنبرغ الأستاذ المساعد في الدراسات القانونية بجامعة العلوم السياسية الفرنسية Sciences Po " إن خسر ماكرون السيطرة فسيكون رئيساً مقيداً توكل إليه إجمالاً قضايا السياسة الخارجية والدفاع وأوروبا، ولكن الكلمة الفصل في القضايا الاقتصادية والداخلية ستكون للحكومة، ولو كانت مؤلفة من تحالف ميلونشون فستتخذ موقفاً عدائياً للغاية تجاه أجندته".
المساكنة
تعود آخر مرة وقعت فيها فرنسا تحت حكم رئيس وأغلبية برلمانية من حزبين مختلفين إلى عقدين من الزمن، حين عمل رئيس الجمهورية المحافظ جاك شيراك إلى جانب رئيس وزراء اشتراكي هو ليونيل جوسبان، ويسمى سيناريو تشارك السلطة المشحون هذا "مساكنة". وسعياً إلى الحؤول دون تكرار هذا السيناريو ومنع الوصول إلى جمود سياسي، عدل الدستور العام 2000 فبات ينص على تقليص الولاية الرئاسية من سبعة إلى خمسة أعوام وتنظيم الانتخابات التشريعية خلال دورة السنوات الخمس نفسها، لكن اقتراع هذا العام هو الأكثر تقارباً منذ سنوات، وإذا كسب تحالف "Nupes" السيطرة فسوف يضطر ماكرون إلى تسمية رئيس وزراء من هذا الائتلاف.
وشرح روزنبرغ بأن "رئيسة الوزراء (إليزابيث) بورن ستضطر إلى الاستقالة وسيتغير الطاقم الوزاري بأكمله ويختار رئيس الوزراء الطاقم الجديد، ويرجح أن يشغل ميلونشون منصب رئيس الوزراء. كلمة 'صعب' لا تكفي لوصف الوضع".
ميلونشون: الراديكالي الملون
بعد حلوله في المرتبة الثالثة بقوة خلال انتخابات أبريل الرئاسية، عمل الزعيم السبعيني المتقلب لحزب فرنسا الأبية على استغلال شعبيته.
ولدى الرجل رؤية راديكالية لفرنسا وهو يقدمها بطريقة استعراضية، فقد لقبه وزير المالية برونو لو مير "تشافيز بلاد الغال"، إذ قارنه بالرئيس الفنزويلي الراحل.
لطّف ميلونشون خطابه خلال الآونة الأخيرة في محاولة لاستقطاب عدد أكبر من الناخبين اليساريين التقليديين، كما تبنى موقفاً حاسماً لمصلحة البيئة مما أكسبه دعماً متزايداً من فئة الشباب.
يرغب ميلونشون بالتخلص من الجمهورية الخامسة التي أسسها شارل دو غول العام 1958 لمصلحة جمهورية سادسة، يهدف إلى جعلها أكثر ديمقراطية وأكثر اعتماداً على البرلمان بدلاً من النظام الرئاسي الحالي، كما يريد خفض سن التقاعد إلى 60 عاماً وإعادة فرض الضريبة على الثروة ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 15 في المئة.
المسار الداخلي
يعتبر النظام الفرنسي معقداً وغير متناسب مع مستوى الدعم الوطني الذي يتمتع به أي حزب، وينتخب المشرعون على أساس الدوائر الانتخابية.
ويحتاج أي مرشح برلماني إلى 50 في المئة من أصوات المقترعين اليوم كي يفوز على الفور بالانتخاب في الـ 12 من يونيو.
وإن لم يحصد هذه النسبة فينتقل أول مرشحين تصدرا الاقتراع إلى جانب أي مرشح حصد أكثر من 12.5 في المئة من أصوات الناخبين المسجلين، إلى الجولة الثانية من الاقتراع، وفي بعض الحالات ينجح ثلاثة أو أربعة أشخاص في هذه العملية، مع أن بعضهم يتنحون لتعزيز فرص مرشح آخر في الفوز.
وغالباً ما يستخدم هذا التكتيك من أجل إعاقة تقدم مرشحي حزب أقصى اليمين، التجمع الوطني، الذي تتزعمه مارين لوبن.
ويأمل حزب لوبن الذي حصد ثمانية مقاعد في العام 2017، بأن يفوز بـ 15 مقعداً على الأقل هذه المرة بشكل يسمح له بتشكيل كتلة برلمانية واكتساب سلطات أكبر في الجمعية.
وتعتبر الجمعية العامة، وهي المجلس الأدنى في البرلمان، الأكثر نفوذاً من بين مجلسي البرلمان، ولديها الكلمة الفصل في عملية وضع القوانين في مقابل مجلس الشيوخ.
قضايا على المحك
يشكل التضخم قضية جوهرية في أوساط المقترعين مع الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة والسلع الغذائية، ويأمل ماكرون بأن تلقى مبادراته الرامية إلى تعزيز النمو والإنتاج الغذائي صدى جيداً بين الناخبين، ولكن في المقابل لا شك في أن مخططات ميلونشون برفع الحد الأدنى للأجور ليبلغ 1400 يورو شهرياً سترفع من شأنه في أوساط الناخبين من العمال.
كما تحول موضوع عنف الشرطة إلى مسألة سياسية ساخنة خلال الفترة الأخيرة في أعقاب إقدام الشرطة في باريس على إطلاق النار والتسبب بوقوع قتلى، وحدث ذلك بعد مرور أسبوع على إدانة رؤساء الشرطة لاستخدامهم الغاز المسيل للدموع ضد مشجعي كرة القدم في نهائي دوري أبطال أوروبا في العاصمة الفرنسية. واستغل اليسار هذه الأحداث لانتقاد ماكرون على أساليب الشرطة الوحشية، ومع ذلك يعتبر المراقبون بأن ماكرون يبلي بلاء حسناً برأي الناخبين في المواضيع الأمنية، لأنه اتخذ موقفاً أقسى من موقف اليسار تاريخياً.
وقال روزنبرغ إن "ماكرون يتمتع بصدقية أكبر في مجال الأمن، وتتطلع إليه أغلبية صامتة من السكان ليمسك بزمام الأمور في هذه المسألة، وهو ما قد يعطيه أفضلية".
ومن العوامل الأخرى التي يمكن أن تفيد ماكرون النسبة الكبيرة المتوقعة للامتناع من التصويت.