عند الدخول إلى مسرح ساحة "روابط" في وسط القاهرة، يسلط الضوء على سيدة تجلس أمام منضدة في مطبخها تصنع الخبز أو الفطائر، وهي في حالة من الشرود أو الاستسلام. ليست السيدة بمفردها، فثمة شيء يكبلها، ويلتصق بها، ويجثم على صدرها، لا نرى هذا الشيء، الذي يتدثر بأقمشة، وهذه الأقمشة نفسها مربوطة بالسيدة، أي إننا أمام كتلة واحدة غريبة، تظهر منها السيدة، بينما هناك كائنات أخرى مخبوءة تتحرك وتضغط عليها، والسيدة تقاوم.
هذه الكتلة، التي حملت اللون البني، يمكننا أن نتخيلها جبلاً، أو أخطبوطاً، أو أي شيء ضاغط ومكبل وموجع، كما يتبدّى من تعبيرات وجه السيدة، والألم الذي يعتصرها.
بعد وقت من الضغط والمقاومة، ينفرج هذا الشيء عن ثلاث فتيات يخرجن ويبدأن في الرقص... تلك هي الإطلالة الأولى، أو المشهد الافتتاحي للعرض المسرحي "ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟"، الذي ينتمي إلى مسرح الرقص المعاصر، وهو نوع من المسرح أصبح له حضوره وجمهوره الكبير في مصر، خلال الأعوام العشرين الماضية، وبخاصة فئة الشباب، التي تسعى إلى الجديد المتمرد على جمود الرقص الكلاسيكي والباليه، وكل ما هو منتظم أو صارم في تخطيط حركته.
قراءات مختلفة
المؤكد أن مثل هذه العروض، وهذا ما يميزها، تحتمل قراءات عدة. فنحن هنا، في هذا العرض تحديداً، أمام أربع راقصات يتحركن بحرية، وربما بشكل يبدو ارتجالياً، ليعبرن، بالرقص فقط، عن مشاعرهن الداخلية. نعم، هناك مؤثرات وعناصر أخرى تضعنا في أجواء بعينها، أو تحاول توجيهنا إلى شيءٍ بعينه، كالموسيقى والديكور والإضاءة، لتعيننا على القراءة، لكنها في الغالب لا تأتي قراءة واحدة وحاسمة، بل تتعدد بحسب وعي أو اهتمامات المشاهد وقدرته على التفسير. وهو أمر يُحسب للعرض، والعروض المشابهة، ولأي إبداع عموماً، فكلما كان العمل ثرياً ومتقناً، تعددت قراءاته وتأويلاته.
الفتيات الثلاث اللاتي يخرجن من ذلك التكوين، ربما كن بنات تلك السيدة، وربما أيضاً، وهذا هو الأرجح، هي السيدة نفسها في استعادتها شريط حياتها، وتذكرها حالاتها المختلفة، وضغوطها التي تعرضت لها في رحلتها التي تعرضها أمامنا، وتفضفض لنا بها، لتطرح سؤالها "ماذا أفعل هنا بحق الجيم؟".
على أي حال، يمكن النظر إلى هذا العرض باعتباره عرضاً نسوياً، يتناول هموم المرأة ومشكلاتها في هذا العصر المضطرب، والضغوط التي تتعرض لها، في بيت الأسرة قبل الزواج، وفي بيتها هي بعد الزواج. في أحد المشاهد ثمة باب يُفتح، جالباً فيضاً من النور والبهجة. يتبدّى ذلك على وجه الفتاة وطبيعة حركتها، وهو ما يمكن تأويله بالزواج الذي ما يلبث أن يتحول إلى جحيم. وفي مشهد آخر ثمة شباك تأتي منه نداءات وإشارات عاطفية وهدايا طفولية، ثم لا يلبث ذلك أن يتحول بدوره إلى معاناة وألم جالبين للعذابات والبكائيات.
مسرح درامي
أدركت كارول عقاد، مصممة ومخرجة العرض (قامت بدور السيدة الجالسة في مطبخها)، أنها بصدد عمل درامي، وليس مجرد رقصات ارتجالية منفردة، لا تفضي إلى شيء في النهاية. فاستغلت قدرات ثلاث راقصات بارعات يجدن التعبير بالجسد (جهاد حسام الدين، تقى عماد، سافرونيا)، لتقديم حكاياتها عبر الرقص الذي عبر عن مشاعرهن/ مشاعرها الداخلية، في تناغم ورشاقة ووعي بطبيعة القضية التي يتناولنها. لم تعبر الأجساد وحدها عن تلك المشاعر، وإن حملت العبء الأكبر في التعبير، بل تعبيرات الوجه وبعض المهام والأصوات والإيماءات، ساهمت كذلك في أداء المهمة، وإن ظل الرقص في مقدمة المشهد مرسلاً دلالاته وتساؤلاته.
أربع فتيات فقط يملأن خشبة المسرح بحيوية وصدق، ولاحضور متعيناً للرجل، إلا في مشهد النهاية، وحتى عندما حضر، جاء كدُمية مشوهة مصنوعة من البقايا والمهملات، تدلى من أعلى، في حركات راقصة، سمجة ولا مبالية، ونال ما ناله من تمزيق وتشويه فوق تشوُّهه. كأنها ثورة النساء على الرجل، ليس الرجل في إطلاقه، لكنه ذلك الأقرب إلى "الرجال الجوف"، على حد تعبير "ت. س. إليوت"، أولئك الذين عقمت أرواحهم، وتبلّدت مشاعرهم، وهي لمحة ذكية من المصممة، أن جاءت الدُّمية على هذا النحو، وإلا سقطت في فخ التعميم والانحياز، هكذا ببساطة أوصلت رسالتها.
في العرض مشاهد عدة، تبدو متنافرة، لكن إعادة تركيبها تفضي إلى مزيد من الضغط على المشاهد، الضغط بمعناه الإيجابي. فهو ليس الإلحاح هنا، ولكنه حشد مزيد من التفاصيل وبضربات سريعة ومتلاحقة لزيادة شحنة التأثير، وربط المشاهد بما يراه أمامه، تماماً كمشهد ربط الراقصات بأدوات المطبخ وتحركهن كأنهن عرائس ماريونيت تقودها تلك الأدوات التي تستعبدهن، أو كأنها مشانق علقن فيها، أو المشهد الذي تبدو فيه السيدة موضوعة فوق الثلاجة، وهو ما يشير إليها كشيء تم إهماله، أو اختزاله في هذا الجانب المظلم والبارد من الحياة.
سجن المرأة
العرض كله (صمّم ديكوراته أحمد حسام سعفان)، يدور داخل مطبخ، وكأننا بصدد سجن للمرأة في هذا الفضاء، أو اختزالها فيه، أغلب القطع في الخلفية، وأمامها منضدة صغيرة عليها بعض الأدوات، وطبق فاكهة فقير، مما يشير إلى الوضع الاجتماعي للأسرة. وعن اليمين باب، وعن اليسار نافذة، وهناك مساحة واسعة فارغة للراقصات، اللاتي يشغلن كل أرجاء الخشبة على مدى خمسين دقيقة، هي مدة العرض. لم يهدأن فيها لحظة واحدة، وجاءت الإضاءة (صمّمها صابر السيد) لتواكب هذا الاحتدام، وتسهم في عكس مشاعر الراقصات، وتُضفي على الفضاء المسرحي أجواءً من القتامة، لتشكل، مع الديكور، صورة للعزلة والوحدة والبرودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدت الراقصات في زي شبه موحد (صمّمته نيرمين سعيد) باللون البني، وهو اختيار ذكي، ويشكل جزءاً من دراما العرض، فالزي الموحد هنا يرمي إلى فكرة السجن، أو حتى فكرة المجموعة المساقة، رغماً عنها، إلى عالم لا تريده. أما اللون البني، فهو يعطي هنا ذلك الإحساس بالوحدة والعزلة والحزن والفراغ والمشاعر القاسية. كأنهن في صحراء جرداء لا حياة فيها ولا روح، وإن أعطى أيضاً دلالة تشير إلى ثبات موقفهن في مقاومة ما يتعرضن له من قسوة واضهاد، وقدرتهن على الانتصار.
أرواح مطفأة
"ماذا أفعل هنا بحق الجحيم؟"، وهنا هو المطبخ الذي لم يغادره العرض، كأنها صرخة نسائية عبرت الراقصات من خلالها عن آلام كثيرات من بني جنسهن، محكوم عليهن بالسجن أو بالاختزال في دور لا يغادرنه. كأنهن خادمات عند الرجل، خلقن لهذا الغرض فحسب. وما المطبخ هنا إلا مجرد نموذج ينسحب على غيره من مفردات الحياة، فالأمر يتجاوز فكرة المطبخ بالتأكيد، وإلا اتسم العرض بالسذاجة. وإن كان العرض لا يغلق على الاستسلام، بل على الثورة والتمرد على الرجل، في عليائه وجبروته،على روحه المطفأة والباردة.
خمسون دقيقة فقط، وبالرقص وحده، تمكّنت الراقصات الأربع من تقديم عمل درامي مُتقن، عبّرن من خلاله عن مشاعرهن الداخلية، وقدمن كثيراً من القصص والأفكار، في تشكيل جمالي مُمتع، ومُؤلم في آنٍ.