لماذا تطارد طه حسين إلى الآن اتهامات تشكك في إيمانه، ومن ثم ينبري بعضهم لتفنيد تلك الاتهامات فينفي عن عميد الأدب العربي عن عمد ليبراليته؟ في كتاب "طه حسين... وثائق مجهولة" (بتانة- القاهرة) ينشغل ابراهيم عبد العزيز تماماً بتأكيد إيمان طه حسين، لكنه في ذروة ذلك الانشغال المحموم وضع عميد الأدب العربي في زمرة المتعصبين دينياً، بعد أن أتى "بما يثبت" أنه "تراجَعً عن أفكاره التي تضمَّنها كتاباه "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر"... و"أدى فريضة الحج ليعلن توبته وندمه عن إنكار إبراهيم وإسماعيل"، و"رفض تولي لويس عوض منصباً مهماً في وزارة الثقافة لأنه مسيحي"!
الكتاب يتألف من ألفي صفحة توزَّعت على أربعة أجزاء مرتَّبة كالآتي: "الملف الشخصي في كلية الآداب"، "محاضرات نادرة بجامعة فؤاد الأول 1938"، "هل كان ملحداً وعميلاً للصهيونية"، "رسائل عائلية". لم تكن مطالع مولد طه حسين تدل على أن هذا المولود سيكون له شأن غير عادي، فللشيخ حسين علي سلامة ستة أبناء قبله وهو سابعهم، عدا ما سوف يأتي به رحم الغيب حتى يكتمل عدد الأبناء ثلاثة عشر، إلا أنه لحكمة إلهية كان طه حسين هو أحد أبناء الزوجة الثانية رقية موسى محمد التي تزوجها بعد أن يئس من مرض زوجته الأولى، فنصحه الناصحون ومنهم أخوها –خال طه حسين- بأن الشرع يبيح له في هذه الحالة أن يتزوج، ففعلها، وأنجب منها "قائد سفينة النور". ويسأل عبد العزيز: هل أراد أن طه حسين يسخر من قومه حين كتب "في الشعر الجاهلي" مدعياً التشكك في معتقداتهم لكي يصل إلى مطلوبه في إيقاظ روح جديدة تقوم على العقل والعلم والمعرفة؟ ويضيف: "وإن يكن مثل هذا الغرض ناضجاً وطه حسين يخوض معاركه شاباً ورجلاً، فإن أغراض طه- الطفل الصغير- كان يغلب عليها طابع المنفعة الشخصية التي تغفرها براءة الطفولة، وإن لم يكن في طفولته في سذاجة الأطفال". ويستطرد: "تأمله وهو لا يحب "سيدنا" (المعلم) في "الكُتَّاب"، فيصادق "العريف" (مساعد المعلم) ويستميله إليه برشوته يومياً بقطع السكر، وتؤتي الرشوة أكُلَها وثمارها حين يكافئه بأن يجعله "الألفة" (قائد الفصل الدراسي) فيمارس الأطفال مع طه ما يمارسه هو مع "العريف" فيتقربون إليه – بدورهم- بقطع السكر التي يأخذها ويعطيها للعريف من دون أن يكلف نفسه شيئاً، بل كان يستبقي لنفسه ما يزيد من قطع السكر، بعد أن كثرت، وزادت عن "المعلوم" الذي كان يعطيه للعريف. بل إن طفلنا طه حسين -يقول عبد العزيز- كان "ينصُب" على الإسكافي باسم "سيدنا" ولعله بذلك كان يسخر وينتقم منه، لما عاناه منه ومن عصاه "المؤلمة"، فكان إذا حدث تلف بنعليه يعطيه لأحد الصبيان باسم "سيدنا" ليذهب به إلى الإسكافي ويقول له إنه نعل سيدنا زبونك القديم فاستوص به خيراً ويطلب طه من الصبي ألا يعطيه أكثر من قرش.
غير أن طه حسين لم يكن بقدرته – بحسب عبد العزيز- أن يمارس عمليات "النصب" الطفولية على أبيه الشيخ حسين بن سلامة، والذي عاد ذات يوم من وظيفته البسيطة في شركة السكر ليجد ابنه طه بلا نعلين. لقد ضاعا منه، ولم يستطع أن يجيب والده عندما سأله عنهما، ولم يشأ الشيخ أن يعاقبه على هذا الإهمال، وأراد أن يطمئن على ما هو أهم: حفظ ابنه للقرآن، وأسقط في يد طه!
وينقل عبد العزيز قول طه حسين عن نفسه: "عرفتُ من طبيعة نفسي خصالاً هي التي أستطيع أن أقول إنها كوَّنت مذهبي في الحياة: ظمأ إلى المعرفة لا سبيل إلى تهدئته، وصبر على المكروه، ومغالبة الأحداث، وطموح إلى اقتحام المصاعب في غير حساب للعواقب، وجهر بما أرى أنه الحق مهما يعرضني له ذلك من الخطوب، ثم شعور كأقوى ما يكون بالتضامن الاجتماعي، يفرض علي َّ أن أحب للناس من الخير ما أحب لنفسي. أحقَّق لي هذا المذهب في الحياة ما يطمح الناس إليه من السعادة التي تنعم بها النفس، ومن الغبطة التي يطمئن إليها القلب، والرضى الذي يرتاح إليه الضمير؟ هيهات! إن هذه السعادة لم تقدَّر لمثلي في الحياة. وكيف السبيل إلى السعادة والغبطة والرضى وأنا لم أبلغ شيئاً إلا طمحتُ إلى شيء آخر أبعد منه منالاً، ولم أحقق أملاً لنفسي وللناس إلا دُفعت إلى أمل هو أشق منه تحقيقاً. إنما يسعد الناس هذه السعادة حين يتاح لهم حظ من الفلسفة لم يتح لي، أو يقضي عليهم بفراغ النفوس والقلوب والعقول، ولم يقضَ عليَّ بهذا الفراغ. فإذا كان الأمل الذي لا حدَّ له، والعمل الذي لا راحة منه سعادة؛ فأنا السعيد الموفور، ما في ذلك شك، أما إذا كانت السعادة هي الرضى الذي لا يشوبه سخط، والراحة التي لا يشوبها تعب، والنعيم الذي لا يعرض له البؤس، فإني لم أذق هذه السعادة بعد، وما أرى أني سأذوقها إلا أن يأذن الله لي بها في ما وراء هذه الحياة".
استهداف العميد
يصر عبد العزيز على وضع طه حسين في إطار سلفي يخالف الراسخ عنه في أذهان العالم بشرقه وغربه، كما يخاف في الوقت ذاته جهوداً سلفية طالما استهدفت الرجل في عقيدته وشككت في منطلقاته حتى في أعماله التأريخية التي قاربت صدر الإسلام ومنها "على هامش السيرة" و"الفتنة الكبرى"، على سبيل المثل. وفي هذا الصدد يذهب عبد العزيز مطمئناً إلى أن "طه حسين قد نسخ كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" بكتاب آخر أفضل منه، هو كتاب سلوكه ومواقفه وأفعاله؛ انتماءً للعروبة والإسلام، إلى درجة التعصب... هل تصدق أنه تصدى لوزير الثقافة وقتها ثروت عكاشة، عندما علم برغبته في تعيين لويس عوض وكيلاً لوزارة الثقافة، فتحدث إليه وطلب منه ألا يفعل ذلك، فوزارة الثقافة – حسب قول طه حسين لثروت عكاشة- هي وزارة للثقافة المصرية والعربية والإسلامية، ولا يجوز أن يكون وكيلها مسيحياً". لم يذكر عبد العزيز مصدره في هذا الصدد، لكنه أشار إلى ما يدحض روايته حين ذكر ما يعرفه المثقفون في مصر على الأقل من أن طه حسين "تبنى" لويس عوض منذ أن كان طالباً وحتى صار أستاذاً في الجامعة. ثم يعود في السياق ذاته لينقل عن أنيس منصور ما يفهم منه أنه تبرير لرفض طه حسين المزعوم أن يتبوأ لويس عوض منصباً رفيعاً في وزارة الثقافة، ومؤداه أن عوض نفسه مسؤول عن الظلم الذي وقع عليه؛ "بما يضعه في في كتابته، أو ما يشتم من مواقفه التحررية أو الليبرالية من تعصب في بعض الأحيان ضد اللغة العربية وضد العروبة، وربما ضد الإسلام".
ويسترسل عبد العزيز هنا ليقول: كان لويس عوض متحمساً للغة العامية على حساب الفصحى بحجة أن "الالتزام بالفصحى يخنق العبقرية الشعبية"، وقد صودر كتابه "مقدمة في فقه اللغة العربية"؛ لأنه يخلع القداسة والأزلية عنها، ويتلمس جذورها في اللغات القديمة، وهو ما تصدى له الأزهر".
ويختتم عبد العزيز في هذا السياق بالقول: "أياً كان الأمر، فقد أظهر هذا الموقف الغاضب لطه حسين من فكرة تعيين لويس عوض وكيلاً لوزارة الثقافة، كيف أن الرجل كان غيوراً على العروبة والإسلام، بصرف النظر إن كان محقاً في موقفه هذا أم لا"!