يريد بوريس جونسون من العمال البريطانيين أن يضحوا في سبيل الصالح العام وأن يتقبلوا تخفيضاً في الأجور في مواجهة تكاليف المعيشة المتزايدة.
في مواجهة موجة من الإضرابات و"صيف السخط"، يقول رئيس الوزراء إن رفع الأجور ليس الحل لارتفاع الأسعار، محذراً بالقول: "إذا استمرت الأجور في ملاحقة الأسعار صعوداً، سندخل دوامة لامتناهية تشبه تلك التي شهدها هذا البلد في سبعينيات القرن العشرين".
ولكن، هل هو على حق؟ يشكك في ذلك العديد من الخبراء ويزعمون بأن فرض المزيد من القيود على الرواتب من شأنه أن يؤدي في واقع الأمر إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية العميقة التي تعاني منها البلاد.
فنحن نواجه بالفعل أكبر هبوط سنوي في مستويات المعيشة على الإطلاق، يختتم 12 سنة من نمو هزيل تاريخياً في الأجور واقتصاد متباطئ. ومن المتوقع أن تسجل بريطانيا نمواً صفرياً في العام المقبل، وهو أداء أسوأ مقارنةً بأي بلد متقدم آخر باستثناء روسيا التي تشلّها العقوبات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما مقاربة رئيس الوزراء لحلّ هذه الأزمة فمفادها أن الحكومة تمارس ضغطاً على عمال القطاع العام العاديين وتستعد لشن معركة عليهم في شأن الأجور. أن يدعو رئيس الوزراء عامة الناس إلى تقبّل تخفيض أجورهم هو بمثابة الموقف الخطير، لا سيّما أن الشعب يعتبره أكثر فأكثر من كوكب آخر بعد حفلات "بارتي غيت". لكن من الواضح أن جونسون يعوّل على قدرته على زرع فتيل المواجهة بين العمال، بحسب ما أشار إليه حزب العمال.
وكان وزير الخزانة سيمون كلارك قد دعم فكرة جونسون يوم الاثنين عندما زعم أنه لا بدّ "للناس أن يدركوا أننا إذا كنا لنلجم التضخم... سيترتّب على الجميع مسؤولية جماعية على مستوى المجتمع بالكامل".
ولكنّه نسي أن يذكر أن أجور أعضاء البرلمان ارتفعت بنسبة 28 في المئة منذ وصول المحافظين إلى السلطة عام 2010. وعلى رغم أن النسبة تقل قليلاً عن معدل التضخم في ذلك الوقت (34.2 في المئة)، تبقى أفضل بكثير من اتفاقات الأجور المبرمة مع العمال، من المحامين إلى المربين في الحضانات.
ومن المقرر أن يبدأ المحامون المختصّون بالقضايا الجنائية إضراباً الأسبوع المقبل، مطالبين بزيادة 15 في المئة على الأجور بعد سنوات من التخفيضات بسبب قضية التمويل التي ترتّب عنها تراكم أعداد كبيرة من القضايا وحددت متوسط الدخل السنوي في القطاع عند 12 ألفاً و200 جنيه استرليني (حوالى 15 ألف دولار) فقط في السنوات الثلاث الأولى من الممارسة.
ويغرق التعليم في خضم أزمة تنسيب خاصة به. العام الماضي، ظل الأجر أقل بنسبة 8 في المئة بالقيمة الحقيقية مما كان عليه عام 2007، وفق معهد دراسات المالية العامة. وشهد كبار الموظفين انخفاضات أكبر. ومن شأن تجميد الأجور هذا العام مع ارتفاع معدل التضخم أن يعني أن المعلمين شهدوا تخفيضاً بنسبة 19 في المئة في الأجور منذ عام 2010، وفق الرابطة الوطنية للمدرسين/ اتحاد المدرسات.
ويواجه التعليم في السنوات الأولى أيضاً مشكلات خطيرة مع تخلف إمدادات رعاية الأطفال عن مواكبة للطلب. لقد ارتفع متوسط أجر الممرضات من 12 ألفاً و514 جنيهاً عندما وصل المحافظون إلى السلطة إلى 14 ألفاً و462 جنيهاً العام الماضي. ويعني الارتفاع بنسبة 13.4 في المئة خفضاً للأجور بالقيمة الحقيقية بنسبة الخُمس تقريباً، انطلاقاً من قاعدة منخفضة جداً.
وعلى رغم ذلك، سجلت تكلفة رعاية الأطفال ارتفاعاً حاداً في ذلك الوقت وأصبحت الآن باهظة في شكل مانع للعديد من العائلات العاملة. وأجبر ذلك بعض الوالدين العاملين – ولا سيما الشابات – على البقاء في المنزل أو تقليل ساعات العمل.
لقد سمعت هيئة الخدمات الصحية الوطنية كثيراً من الكلام المعسول من الحكومة خلال الجائحة لكن الزيادات في الأجور لم تعكس هذا الثناء والإطراء.
وبين بحث أجرته "مؤسسة الصحة" أن الأطباء، بين عامي 2011 و2021، شهدوا تراجعاً في قدرة الإنفاق بحسب إيراداتهم بمقدار 779 جنيهاً، بينما شهدت الممرضات والزوار الصحيون خفضاً بواقع ألف و583 جنيهاً والقابلات بقيمة ألف و813 جنيهاً. وفي مختلف أنحاء الخدمة، انخفض متوسط الأجر السنوي بمقدار 416 جنيهاً.
وفي سياق متّصل، كانت الحكومة قد تعهّدت باتخاذ إجراءات صارمة عند وقوع الجرائم، ولكنها أبرمت مع ضباط الشرطة بعضاً من أسوأ اتفاقات الأجور في القطاع العام. وفق أرقام رسمية، شهد الضباط من رتبة رقيب وأدنى ارتفاعاً في الأجور من 38 ألفاً و521 جنيهاً عام 2010 إلى 41 ألفاً و180 جنيهاً العام الماضي. ويعني التضخم أن الضباط شهدوا فعلياً تقلصاً كبيراً في الأجور، وهذا لا يأخذ في الحسبان أحدث طفرة في الأسعار.
وعلى رغم أن بعض المجموعات كانت الأشد تضرراً من غيرها، تُعَد المشكلات عميقة الجذور وتمتد عبر الاقتصاد.
بعد التعديل وفق التضخم، يظل العاملون في المملكة المتحدة يكسبون رواتب تقل بما يفوق 60 جنيهاً شهرياً بالقيمة الحقيقية مقارنةً بعام 2008، ما يجعل هذه الفترة الأسوأ لنمو الأجور على مدى 200 سنة.
ويتعين على المرء أن يعود إلى الحروب النابليونية لكي يجد فترة شدت الخناق على قدرة الإنفاق لدى العامل العادي بهذه الوحشية.
تقول مياتا فاهنبويلاه، الرئيسة التنفيذية لـ"مؤسسة الاقتصاديات الجديدة": "من المشروع تماماً أن يطالب العمال بزيادة في الأجور عندما ترتفع تكاليف المعيشة بسرعة كبيرة".
وشهد العمال في القطاع الخاص انخفاضاً متوسطاً في إيراداتهم الحقيقية بنسبة 1.6 في المئة بين فبراير (شباط) وأبريل (نيسان) – وهو واحد من أكبر الانخفاضات الفصلية المسجلة. وبالنسبة إلى عاملي القطاع العام، كان الانخفاض غير مسبوق بنسبة 4.5 في المئة.
"لا أستطيع أن أؤكد بما فيه الكفاية مدى وحشية هذا الوضع، بعد 10 سنوات من تقييد الأجور. نرى أقل الناس قدرة على تحمل ارتفاعات الأسعار سيتحملون الضربة الكبرى.
"سيكون الوضع مؤلماً حقاً للناس، ولهذا السبب نرى هذا الكم الكبير من السخط".
وتقول فاهنبويلاه إن مشكلة ركود الأجور ليست جديدة، وهي "مسألة عصرنا".
ويتطلب علاج هذه المشكلة إعادة تقييم جوهرية لفهم الحكومة للمشكلة، فضلاً عن إصلاح كبير لتعزيز الاستثمار في أشياء مثل المهارات والبنية التحتية والبحوث.
وتحذر فاهنبويلاه من أن الإفراط في تقييد الأجور يخاطر بتكرار خطأ مركزي لجم البلاد منذ الأزمة المالية.
تحتاج المملكة المتحدة إلى زيادات في الرواتب، وليس إلى تخفيضات. وهذا من شأنه أن يساعد في تعزيز عوائد الشركات وتشجيعها على الاستثمار، ويدفع الاقتصاد إلى الحياة من جديد بعد سنوات من الركود.
وتدعو "مؤسسة الاقتصاديات الجديدة" إلى زيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور وتعزيز المساومة الجماعية لضمان قدرة العاملين على التفاوض على اتفاقات منصفة.
ويقول ستيفن ميلارد، نائب المدير في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية وهو مؤسسة بحثية، إن احتمالات حدوث دوامة على صعيد الأجور-الأسعار بعيدة، نظراً إلى خفض الأجور "الضخم" الذي يواجهه العاملون هذا العام.
ويجادل بأن الحكومة، بدلاً من ذلك، يجب أن تنظر إلى دورها الخاص في إطلاق الموجة الحالية من الاضطرابات.
"كان بوسعها أن تزيد الاستثمار العام لكنها اختارت فترة من التقشف. ونتيجة لهذا، نحن عالقون في اقتصاد منخفض النمو، ومنخفض الاستثمار، ومنخفض الإنتاجية".
© The Independent