تعطينا الدراما فرصة لمشاهدة حيوات موازية تمنحنا عالماً آخر يجعلنا نفكر في معضلات تبدو بعيدة كل البُعد عن تفاصيل يومنا، وإذا كانت جلسات العلاج النفسي تعطي للمشاركين بها إشارات للتعرف على الشخصيات السامة، وطلب المساعدة بشكل واضح لعدم الوقع ضحيتها، فإن القصص التي تعرضها الشاشات أيضاً تقربنا بصورة أوضح من ظروف وجد بعض الأفراد أنفسهم فيها، ووصل بهم الحال إلى العيش تحت وطأة الأذى بحجة الحب!
فالحب المرضي توابعه في بعض الأوقات تكون أشد ضراوةً من الكراهية الخالصة، وهو أمر انتبهت إليه الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية مبكراً، وباتت هناك قائمة طويلة من الأعمال التي تركز على نفسيات الأبطال لمحاولة تحليل وتفسير تصرفاتهم غير السوية.
حب التملك خلف أقنعة الرومانسية
البعض يرى أن الغوص في حياة البشر الذين نتوحد معهم على الشاشة يمكن أن يسهم في التنبيه من الأخطار، حيث إن المشاهد الذي يتابع القصة من كل الجوانب، يجد نفسه متعاطفاً مع الضحية، ويتابع تطورات أفكار الجاني الذي يتخفى تحت ستار العواطف الجياشة، بخاصة أن الدراما لم تخترع العجلة، إنها فقط محاولات لتوثيق تجارب شرسة، ليس بهدف تخليدها أو تمجيد شرورها، إنما لأنها نموذج حياتي موجود، فلا هي خلقت دوافع للمتلقي، ولا هي وسيلة للتعليم أو منبر لبث الرسائل.
لكن التجارب الحياتية التي تعرضها اللقطات المعتنى بها، والتي يقف خلفها روح وعقل فنان، تكون ملهمة ومنبهة ومحذرة من أقنعة الحب التي تغذي معها رغبة تملك انتقامية مرضية، لم تجد من يعالجها، فمصطلح "Toxic characters" ركّزت عليه القصص الدرامية دوماً، حتى ولو لم تسمه صراحة، ولا يوجد أبلغ من فيلم "غرام الأفاعي" 1988 للتعبير عن تلك الحالة، فالسموم هنا كانت مجازية وفعلية أيضاً.
الثنائي لديه نزعة انتقامية بقدر ما لديه مشاعر ومثابرة على الفوز بالحبيب، فـ"مهجة" و"وجدي" في مقتبل الشباب، يتمتعان بجمال ووسامة ومستقبل مشرق، ولم يلحظ أغلب من حولهما أزمتهماً النفسية، أو قدرتهما على التدمير أو الانتقام، حتى بدأت تتكشف مشكلاتهما تدريجياً، فطاقة الحب تتحول إلى رغبة في القتل، وبعد أن خلفا وراءهما ضحية من أجل الفوز ببعضهما بعضاً، أصبحا هما الضحية، وتملكت منهما مشاعر الغيرة والغضب التي كان منبعها العواطف الرومانسية في الأساس.
الفيلم كتبه نبيل راغب، وأخرجه حسام الدين مصطفى، وقامت ببطولته ليلى علوي مع هشام عبد الحميد، وكما هو واضح فالسينما العربية كانت حريصة على تسليط الضوء على الاعتلال الاجتماعي والنفسي للأشخاص الذين يظهرون من الخارج بشكل سوي تماماً، بل وفي بعض الأوقات قدوة في قوة الشخصية والإصرار.
شخصيات تخفي نزعتها الانتقامية
إذن، الاتزان العقلي ليس أمراً مسلماً به، بل قد يوضع في مواضع اختبار عدة، تجعل صاحبه يقوم بتصرف صادم غير متوقع، فأكثر الأشخاص عقلانية "ظاهرياً" قد يصبحون من عُتاة الإجرام، وهي نماذج صورتها الدراما كثيراً مثلما حدث في المسلسل الإنجليزي the fall"، 2013"، فرب الأسرة المثالية نموذج في التفاني والسوية النفسية، لكن عُقد الصغر تختبئ خلف طبقات وطبقات، وتخرج في شكل هنات صغيرة لا يلتفت إليها كثيرون، وتجعل صاحبها يعيش حياة سرية موازية يخرج فيها طاقته الإجرامية، ويصبح قاتلاً متسلسلاً، وينتقم من النساء اللاتي يختارهن بمواصفات معنية، بالتالي فإن الأمور تكون معقدة إلى حد كبير فيما يتعلق بكشف الشخصيات المترصدة التي تعاني اضطرابات نفسية حادة تجيد إخفاءها، وهو أمر كان قد ناقشه المؤلف محمد هشام عبية في مسلسلين له، هما "60 قيقة"، حيث الطبيب النفسي الذي يعالج من يشتكون الأزمات فيما هو نفسه يعاني تعقيدات جمة، حيث كان يقتل القطط في صغره، ويحاول إيذاء الغير بأي شكل، وتطورت الأمور ليصبح مغتصباً متسلسلاً ومعنفاً بغيضاً، يؤذي حتى زوجته التي عاش معها قصة حب قبل زفافهما.
كانت التصرفات غير السوية أيضاً هي محرك أحداث مسلسل "بطلوع الروح"، فالحبيب المرفوض والمهان، جر حبيبته التي تزوجت بغيره إلى براثن "داعش"، وعذبها انتقاماً منها بغية امتلاكها، حيث يبدو أن تلك الشخصيات تشكل هاجساً ما لدى المؤلف، وهو بدوره يؤكد ذلك في تعليقه على الأمر، مشيراً إلى أنه مشغول بالفعل بالشخصيات التي تبدو طبيعية ومتحققة ظاهرياً، لكنَّ لديها "شذوذاً نفسياً لا يكشف عن نفسه بسهولة"، لافتاً إلى أن "أزمات الحب دوماً تكون تربة خصبة تغذي الاضطرابات وتعمقها".
وتابع عبية، "هناك أناس يظهرون بشكل طبيعي للغاية، لكنهم لديهم القدرة لممارسة الوحشية بلا سقف، وينتظرون فقط أي تبرير للكشف عن سلوكهم". واعتبر أنهم أكثر خطراً من المجرم الصريح، بالتالي "حرصت على تسليط الضوء على تلك النوعيات"، وخلال أحداث تلك الأعمال أيضاً نجد أن هناك بعض الفئات من المجتمع "تشجع تلك الشخصيات بقصد ودون قصد، فالنموذجان البارزان بالعملين كانا لرجلين لم يتقبلا بشكل أو بآخر فكرة أن تكون هناك أنثى قادرة على الرفض أمامهما".
ويلفت عبية هنا النظر إلى أن هناك بعض الأسر "تزكي هذا الإحساس لدى أبنائها الذكور، وتركز على فكرة أنه من الرجولة أن لا يتعرض للرفض من أي فتاة التي يعتبرونها هم في مرتبة أقل منه، بالتالي فهي كائن يمكن سحقه ببساطة".
هالة مثالية وخراب نفسي
أن تكون الهالة الخارجية مثالية تماماً وجاذبة هو فخ متكرر، فقد وقعت فيه الفتاة الرقيقة منى إسماعيل، ولم تلحظ الصفات السلبية المخيفة لعقيد المباحث هشام أبو الوفا، إلا بعد فوات الأوان، وأصبحت تعيش كزوجة معنفة، فالزوج المتسلط كان يضربها ويصفعها في نوبات غضبه التي لم تكن متوقعة بالمرة مقارنة ببداية معرفته بها، حيث إن قصة فيلم "زوجة رجل مهم" لأحمد زكي وميرفت أمين تعتبر نموذجاً للعلاقات السامة التي ينخدع فيها الطرف السوي بالهالة المثالية حول الجاني المتخفي خلف منصبه ونظارته السوداء الفاخرة. العمل عرض أيضاً عام 1988، وأخرجه محمد خان عن قصة لرؤوف توفيق.
من جهته، يرى الطبيب فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية، أن الاهتمام بالصحة النفسية منذ الصغر "أمر بالغ الأهمية، ولا بديل عنه"، لافتاً إلى أن هناك عوامل مهمة جداً ومؤثرة في السلوكيات، خصوصاً للنشء، "بينها الفن بالطبع"، مؤكداً أن فيلم مثل "زوجة رجل مهم" وضع يده على مشكلة مهمة ومؤثرة وأساسية بطريقة متوازنة "أسهمت في زيادة الوعي بها دون أي لبس أو التباس".
وأضاف قناوي، "للأسف، الصحة النفسية لا تحظى باهتمام يذكر في المؤسسات التعليمية، أو الأسر، فهناك اعتقاد خاطئ بأن أي أزمة نفسية تعني أن صاحبها مجنون، وبشكل عام يجب أن يكون لدى الجميع فكرة عن صحته النفسية وعلاقتها بالمؤثرات المحيطة التي إذا قلت أو زادت يحدث تطرف يخالف العقل ومنظومة القيم"، مشدداً على أن الطبيب هو المنوط به وصف الدواء والعلاجات وليس من المقبول اللجوء لغير المتخصصين لأخذ النصيحة، إذ إن أول سبل التوازن والراحة النفسية هو "حب الشخص لنفسه والآخرين وتقبلهم والتعامل معهم بشكل سوي".
قبل فيلم "زوجة رجل مهم" بنحو عشرين عاماً قام عتريس بالزواج من فؤادة، فقد حدث الأمر رغماً عنها وعن الجميع، على الرغم من أنه كان معمياً بحبه لها، لكنها كانت تمتلك من العقل ما يجعلها تبتعد عنه، بعد أن أصبح وحشاً قاسي القلب ومثالاً للشر والعنف، على الرغم من أن حبه لها كان صادقاً، لكنه كان متشبعاً بالرغبة في التملك، ومن ثم الانتقام، فالشاب كان ضحية لقسوة منزلية ضاربة في الجذور، وكان بحاجة للمساعدة النفسية، وتطورت أزمته لنوع من الهوس العاطفي بالحبيبة الرافضة.
وانتبهت فؤادة لهذا التحول وتعاملت معه بفطنة وقوة شخصية، فأنقذت نفسها في النهاية، وأهل قريتها، البطلة في الفيلم المعروض عام 1969 قرأت الشخصية التي أمامها جيداً، ونحت مشاعرها جانباً، وقاومت الشرور في قصة اجتماعية تحمل بعداً سياسياً واضحاً كتبها ثروت أباظة، وأخرجها حسين كمال، وقامت ببطولتها شادية مع محمود مرسي.
السينما وهوس العشاق القاتل
الأمر هنا يقود إلى مجموعة أخرى من الأعمال الفنية التي تناولت حدوث خلل ما يشكك الشخص في ذاته وقيمته، ويربط تحقيقها بالحصول على ما يريد، ويتحول الأمر إلى هوس ينتج عنه اللجوء للأذى وممارسة العنف ضد الطرف الذي يتمرد على الشخص المضطرب، حيث جسدته السينما الهندية مثلاً في فيلم Chhapaak"، 2019"، لديبيكا بادوكون، الذي تحدث عن النساء ضحايا الهجوم بالحمض من رجال حاولوا الارتباط عاطفياً بهن وواجهوا الرفض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما قدمته السينما المصرية أيضاً بصورة أخرى، حيث كان الهوس والشعور بالإهانة من جراء الرفض هو المحرك وراء جرائم "حاتم" أمين الشرطة المضطرب الذي جسد شخصيته الفنان خالد صالح، حيث كان نموذجاً في الفساد المهني والأخلاقي من خلال فيلم "هي فوضى؟"، 2007، آخر أفلام الراحل يوسف شاهين، الذي أخرجه بمشاركة خالد يوسف، وهو من تأليف ناصر عبد الرحمن، فلم يقبل حاتم تجاهل نور، المدرسة الجميلة، له وتفضيلها عليه شريف وكيل النيابة الشاب، وتحول هوسه بها إلى رغبة عارمة في الانتقام كي يمنعها عن الارتباط بغيره، ويصل به الأمر لاغتصابها، انتقام بدني شديد القسوة من شخص يحاول التعبير عن حبه للطرف الآخر، إنه تناقض صارخ لم يلتفت إليه حاتم بسبب تشوهه النفسي الذي لم يحاول معالجته بأي وسيلة، وفي النهاية دمر من حوله، ثم دمره هو شخصياً، بعد أن ينتحر في نهاية الأحداث، وهي نهاية شبيهة أيضاً ببطل لديه ونفوذ وسلطة أيضاً، حيث كانت الانتحار نهاية الشخصية الرئيسة في "زوجة رجل مهم".
واللافت أن الهوس بالحبيب الذي يؤدي بصاحبه للإتيان بسلوكيات عكس قيمة الحب من الأساس كان هاجس يوسف شاهين أيضاً في فيلم "باب الجديد"، 1958، حيث قدم هو بنفسه دور قناوي غير المتزن عقلياً، الذي يقع في غرام "هنومة" الفاتنة، ويقتلها بعد أن ترفضه، وتختار بدلاً منه أبو سريع عبد الحي.
أيضاً الأذى البدني كان وسيلة سالم في "دكان شحاتة"، 2009، للمخرج خالد يوسف، حيث تناول العمل ما يعرف بالاغتصاب الزوجي، فـ"بيسة" تزوجت سالم رغماً عنها فيما هو كان يحبها من طرف واحد، وعلى الرغم من معرفته بأنها تفضل عليه شحاتة، لكنه ضغط على الأسرة من أجل تزويجها له، وفي النهاية كان يقوم بتعنيفها على الرغم من أنه قضى حياته يحاول استمالتها عاطفياً.
الفنون تحذر أم تشجع؟!
لكن فتحي قناوي، أستاذ كشف الجريمة بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية، يرى أن الفن في بعض الأوقات "يمثل عاملاً مساعداً في إخراج الصفات السلبية"، مشيراً إلى أن القوى الناعمة "عامل مؤثر للغاية في النشأ والتربية والسواء النفسي"، ولافتاً إلى أن بعض الأعمال "لا تسهم في تهذيب النفس البشرية، بل تشجع على التصرفات المرفوضة، بخاصة بعض المتلقين الذين لديهم نقاط ضعف وقلة وعي".
وهي وجهة نظر يرفضها السيناريست محمد هشام عبية، مشدداً على أن أي اتهامات للأعمال الفنية بأنها السبب في أي أزمات مجتمعية "ما هي ألا شماعة يلجأ إليها البعض كي لا يشعر بالتقصير، وكي يناموا مرتاحي البال"، مشيراً إلى أن الجرائم "منتشرة في مختلف البيئات والدول والعصور، لكن البعض يعتقد أنها زادت فقط بسبب السوشيال ميديا، لأنها تركز ليلاً ونهاراً على تفاصيل يتداولها الناس المنتقدون أنفسهم".
ويتابع، "الجرائم بأبشع صورها موجودة في أكثر المجتمعات تقدماً ورقياً، كما أن من يشاهد الأعمال الفنية بشكل عام يتكون لديه حس وذائقة وروحه تتهذب، وحتى لو هناك مشاهد عنيفة هو يعلم أنه استعراض لنماذج طبيعية في العالم كله، ولن يتشكل لديه دافع، ويتحول إلى مجرم بسببها، بل على العكس تماماً سيحاول أن يستفيد من تجربة المشاهدة بشكل إيجابي، بالطبع لكل حالة استثناءات، لكن المؤكد أن الفن يسهم في تهذيب النفس وفي التوعية والتحذير من نماذج معينة ينبغي البحث عن حلول لأزماتها، فالفن يقوم بدوره وعلى باقي المعنين من أسر ومدارس القيام بدورهم أيضاً".