الاختبار الثاني للبرلمان اللبناني الجديد والأكثرية الجديدة فيه، المتعلق بتسمية شخصية يكلفها رئيس الجمهورية تشكيل الحكومة الجديدة، لم يختلف كثيراً في نتائجه عن الاختبار الأول، الذي جرى عند تشكيل ما سُمي قيادة "المطبخ التشريعي" للمجلس النيابي بانتخاب رئيسه ونائبه وهيئة مكتبه وأعضاء ورؤساء اللجان النيابية المختصة. فالاستشارات النيابية الملزِمة لاختيار رئيس الحكومة التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الخميس 23 يونيو (حزيران) الحالي، ورست على تسمية رئيس الحكومة الحالية نجيب ميقاتي بأكثرية متواضعة بلغت 54 صوتاً، أي أقل من النصف زائداً واحد، التي هي 65 صوتاً، برهنت أن ما سُمي "الأكثرية الجديدة" التي أفرزتها انتخابات 15 مايو (أيار) الماضي، ليست أكثرية، بل هي كتل نيابية متوسطة الحجم أو صغيرة، مفتتة وغير قادرة على الاتفاق والتجانس أو التفاهم على موقف موحد، بينما ما صار أقلية، أي "حزب الله" وحلفاؤه، بإمكانهم توحيد موقفهم على خيار محدد وإنجاحه.
سابقة عدم التسمية
بصرف النظر عما ستؤول إليه عملية تأليف الحكومة الجديدة، التي يتوقع معظم الترجيحات صعوبة، إن لم يكن، استحالة ولادتها، وأن يستمر الفراغ الحكومي طيلة الأربعة أشهر المقبلة الفاصلة عن انتخاب رئيس الجمهورية الجديد مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، فإن المرشح الذي كان منافساً لميقاتي، القاضي في محكمة العدل الدولية، السفير السابق في الأمم المتحدة، نواف سلام، حصل على 25 صوتاً، فيما شهدت عملية تسمية رئيس الحكومة هذه المرة سابقة غير مألوفة قضت باعتماد 46 نائباً من أصل 128 خيار عدم تسمية مرشح. وهو أمر قلما يحصل في هكذا استحقاق دستوري، إذ إن هذا الامتناع يفوق ثلث أعضاء البرلمان، وإذا حصل فيكون محدوداً.
وتسببت مجموعة هؤلاء النواب، التي أطلقت عليها وسائل الإعلام وصف مجموعة الـ "لا أحد"، بردود فعل حذرت من أن يأخذ الأمر طابعاً طائفياً، إذ ضمت الكتلتَين المسيحيتَين الكبريَين، أي نواب حزب "القوات اللبنانية" (19 نائباً) ونواب "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل (17 نائباً)، إضافة إلى بعض المسيحيين المستقلين.
ومع أن ميقاتي حصل على تأييد 13 نائباً مسيحياً، اعتبر بعض السياسيين السُنة أن هذه السابقة مضرة، وقد تقود إلى تكرار الأمر في رئاسة الجمهورية، وقد تعبر عن انتقاص من الموقع السُني الأول في السلطة، وسألوا ماذا لو امتنعت أكثرية النواب السنة لاحقاً عن انتخاب رئيس الجمهورية الماروني، في شكل يوحي برفضهم له؟ كما أثارت أوساط أخرى واقعة أن ميقاتي لم يحصل على تأييد أي من النواب الدروز الثمانية الذين أيدوا جميعاً خيار القاضي نواف سلام، سواء كانوا من "الحزب التقدمي الاشتراكي" (6 نواب) أو من التغييريين (نائبان).
وفيما رأت أوساط أن تكليف ميقاتي سيشوبه نقص في الميثاقية (الميثاق اللبناني يؤكد على المشاركة بين الطوائف اللبنانية كافة)، ردت أوساط نيابية بالتأكيد على أن الميثاقية مسألة واجبة في تأليف الحكومة، وليس بتكليف رئيسها، الذي هو خيار سياسي.
ومع ذلك، دفعت هذه الأجواء مفتي الجمهورية، الشيخ عبد اللطيف دريان، إلى القول تعليقاً على هذه الملاحظات، إن "لا أحد يستطيع أن يهمش السنة في لبنان أو ينهش شيئاً من حقوقهم". واعتبر أنهم بخير " على الرغم مما يتعرضون له من أزمات متلاحقة، وسيبقى دورهم ومكانتهم وموقعهم الشعبي والدستوري والأساسي في المجلس النيابي والحكومة ورئاستها في الدولة اللبنانية".
فشل "بروفة" الرئاسة الأولى
لكن دلالات تسمية رئيس الحكومة لم تقتصر على امتناع أكبر كتلتين مسيحيتين عن تسمية ميقاتي، بل تشعبت في اتجاهات عدة، أبرزها الآتي:
إن كتل النواب السياديين مثل كتلتي "الجمهورية القوية" (القوات اللبنانية) التي تضم 19 نائباً، وحزب "الكتائب" الذي يضم 4 نواب و"اللقاء الديمقراطي" (الحزب الاشتراكي) الذي يضم 8 نواب و"التغييريين" وهم 13 نائباً، إضافة إلى المستقلين الذين يتوزعون بين الطوائف كافة، فشلت في التوحد حول اسم ترشحه لرئاسة الحكومة، على الرغم من أنها اعتبرت أن اختبار انتخابات نائب رئيس البرلمان واللجان البرلمانية جاءت في غير مصلحتها نتيجة غياب التنسيق في ما بينها، وهو ما استفاد منه "حزب الله" وحلفاؤه الذين أتت نتائج الانتخابات العامة لتفقدهم أكثرية البرلمان.
وتكرر الفشل في توحيد الموقف حيال تسمية رئيس الحكومة بسبب عاملَين أساسيَين: الخلاف بين كتلة "التغييريين" الذين غرقوا في نقاشات لا طائل منها انتهت إلى تصويت 10 منهم لنواف سلام، والثلاثة الآخرون لم يسموا أحداً. وكان يعول على هؤلاء من أجل أن يشكلوا دافعاً لسائر القوى السيادية كي تتحلق حول خيار "سلام"، فرفض بعضهم ذلك لأسباب تعود إلى قلة الخبرة بالمسرح السياسي، ودعوا إلى ترشيح زميلهم إبراهيم منيمنة. ورأى رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة أن "عديداً من النواب الذين انتُخبوا حديثاً ما زالوا تحت تأثير المواقف الشعبوية التي أعلنوا عنها خلال العملية الانتخابية". واعتبر أن "التكليف ناتج من هذا التشرذم الكبير الذي أصبح عليه مجلس النواب، والأكثرية التي فازت لا تزال مشرذمة إلى حد بعيد، ولم تتفق في ما بينها حتى على المبادئ الأساسية، لهذا وجدنا هذا العدد الكبير من النواب الذين لم يسموا أحداً ليكلفوه تأليف الحكومة".
لكن الكتلة الأكبر من السياديين التي أدى موقفها إلى إجهاض التمرين الذي كان يمكن ممارسته في تظهير الأكثرية المزعومة الجديدة، هو امتناع "القوات اللبنانية" عن التصويت لسلام. وفي وقت كانت الأوساط التي تعول على دعم واسع لنواف سلام، ترغب في إثبات وجود الأكثرية الجديدة، باعتباره "بروفة" لانتخابات رئاسة الجمهورية أواخر الصيف، مع انتهاء ولاية الرئيس عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، لكن هذه الكتل النيابية فوتت الفرصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذرائع "القوات" وأولوية الرئاسة
إن امتناع "القوات اللبنانية" عن تسمية سلام الذي طالب به ثوار "17 تشرين" كشخصية مستقلة تتمتع بالنزاهة والكفاءة وتشكل نموذجاً مقبولاً، منذ عام 2020، جاء مناقضاً لتسميتها إياه عند تشكيل الحكومة الحالية العام الماضي. وخضع هذا الموقف لحسابات غير تلك المعلَنة. وإذ برر رئيس حزب "القوات" سمير جعجع امتناعه عن تسمية سلام بأنه "لا يتواصل معنا وأنه لا يبدي جدية في تحمل المسؤولية أو يطرح برنامجه، ويزور البلد في المناسبات..."، بدا أن هذه الحجج الشكلية تظلل خلفية القرار الذي تعرض لانتقادات من جهات عدة في الأوساط المعارضة. وفي وقت ارتفعت أصوات تتهم "القوات" بالتلاقي مع "التيار الوطني الحر" بالامتناع عن تسمية سلام من أجل استدراج عروض من ميقاتي للحصول على حصة في الحكومة التي سيشكلها، فإن نوابه أخذوا يذكّرون بأن جعجع سبق أن أعلن عدم المشاركة في الحكومة. وحجة أوساط "القوات" لعدم تسمية سلام أنه إذا ارتفعت حظوظه فإن ذلك سيدفع ميقاتي إلى الارتماء في أحضان باسيل، ويقدم له التنازلات التي كان رفض الموافقة عليها قبل أسبوعين، إن في ما يخص الحصول على حقائب الطاقة والخارجية والعدل والبيئة والشؤون الاجتماعية فضلاً عن اشتراطه قبول ميقاتي بتعيين حاكم لمصرف لبنان المركزي بدل رياض سلامة... إلى غيرها من مطالب باسيل، التي كان "حزب الله" سيساعده فيها من أجل ضمان تصويت تكتله النيابي لميقاتي من أجل الحؤول دون حصول نواف سلام على الأكثرية.
كما أن حجة "القوات" بأن خوض معركة لتسمية رئيس الحكومة ليس جوهرياً في وقت يميل معظم التوقعات إلى استبعاد التأليف أياً كان الرئيس المكلف، ما يعني بقاء ميقاتي في صيغة تصريف الأعمال على رأس الحكومة المستقيلة، وأن ما تبقى من أشهر أربعة من عمر العهد يجعل الحكومة، إذا تشكلت، غير فعالة وغير قادرة على الإنجاز. وهذا يقود جعجع إلى اعتبار معركة انتخاب رئيس الجمهورية هي الأساس. وهو ما دفع جعجع إلى القول غداة انتهاء الاستشارات إنه، "أمام الاستحقاق الرئاسي نعمل جاهدين لتوصل المعارضة إلى دعم اسم واحد، لا سيما أن لا قدرة أو جرأة لأي أحد على تعطيل هذا الاستحقاق أو تأخيره، باعتباره باب الخلاص الأول المتاح". وغمز جعجع من قناة "التغييريين" بالقول، إن حزب "القوات اللبنانية" تواصل معهم، ولم يحصل منهم على جواب.
توزع النواب السنة
إن تسمية الرئيس المكلف فضلاً عن أنها أظهرت تشتت المعارضة أثبتت مجدداً أن تشتت النواب السنة بين كتل متعددة ومستقلين يسمح لـ "حزب الله" بإدارة اللعبة، بحيث اتكل على تأييد بعض هؤلاء تزكية ميقاتي الذي يفضله حكماً على سلام. فالأول يدور الزوايا مع الحزب ويراعي موقفه ويتشاور معه باستمرار، ولا ينسجم مع قيادات المعارضة التي لا تتوقف عن طرح مسألة سلاح الحزب، والثاني يتمتع باستقلالية ولا يساير الحزب وينتمي إلى الفريق السيادي. لذلك حصل ميقاتي على أصوات "الثنائي الشيعي" وحلفائه المسيحيين والسنة.
الفراغ الحكومي والضغوط الدولية
في كل الأحوال وعلى الرغم من غلبة توقع صعوبة تأليف الحكومة بعد تكليف ميقاتي، فإن بعض الوسط السياسي يعتبر أن كثرة الحديث عن الفراغ الحكومي، واستمراره حتى الرئاسة، قد يكون عاملاً ضاغطاً على الفريق المتهم بأنه يطرح شروطاً تعجيزية على الرئيس المكلف، أي فريق رئيس الجمهورية وباسيل، من أجل أن تتشكل الحكومة بسرعة. وفي وقت أعلن ميقاتي أنه سيقترح على الرئيس عون لائحة بحكومته آخر الأسبوع المقبل، بعد أن يكون قد استشار الكتل النيابية حول مطالبها واقتراحاتها الاثنين والثلاثاء، وسط حديث عن إمكان اقتراح ميقاتي قيام حكومة مصغرة من 14 وزيراً، سبق لـ "التيار الوطني الحر" أن رفضها العام الماضي، بدل صيغة حكومته الحالية المؤلفة من 24 وزيراً. والبارز في مجال الضغوط لتجنب الفراغ الحكومي البيان الذي عجلت "مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان" التي تضم الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، وإيطاليا، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية والأمم المتحدة، في إصداره.
ونص البيان على أن المجموعة "تأخذ علماً بتكليف رئيس لمجلس الوزراء وتدعو جميع الفرقاء السياسيين لتشكيل حكومة بسرعة. لا يستطيع لبنان ومواطنوه تحمل الشلل السياسي، نظراً إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي يواجهونها. كما تؤكد مجموعة الدعم الدولية على أهمية الالتزام بالمهل الدستورية من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد". وحضت المجموعة "الأطراف اللبنانية المعنية، بما في ذلك السلطات التنفيذية والتشريعية، على العمل بسرعة على تشكيل سريع لحكومة تستطيع تنفيذ إصلاحات مهمة ومؤجَلة من أجل تخفيف معاناة الشعب اللبناني. وعلى السلطات على وجه الخصوص الإيفاء بالالتزامات التي تم التعهد بها في الاتفاق الذي أُبرم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في 7 أبريل (نيسان) الماضي". وأصدرت الخارجية الفرنسية بياناً متطابقاً مع بيان المجموعة الدولية أيضاً.