العثور على لوحة للفنان عبد الهادي الجزار معلقة على جدار مقهى شعبي في القاهرة... هكذا انتشر الخبر عبر المواقع الإعلامية ووسائل التواصل الإجتماعي، مع سرد لتفاصيل مثيرة حول الواقعة. لكي نفهم أبعاد هذه الواقعة وأهميتها، علينا أن نعلم أن عبد الهادي الجزار هو أحد الفنانين المصريين القلائل الذين تقدر أعمالهم بالملايين، وهي أعمال نادرة التداول داخل سوق الفن المصري اليوم. تغيرت القيمة "السوقية" لأعمال الجزار خلال العقدين الماضيين، بعد أن أصبح اسماً بارزاً داخل أروقة دور المزادات العالمية، ويتهافت جامعو الأعمال الفنية من المصريين وغير المصريين، على اقتناء أعماله. هذه اللوحة مثلاً قدر ثمنها بثلاثين مليون جنيه مصري، وهو تقدير قد يكون متسرعاً، إذ يمكن أن يتضاعف الرقم إذا ما وضع العمل بالفعل على منصة المزايدة أو البيع في إحدى هذه المزادات.
تقول الرواية المتداولة أن رجلاً لديه دراية بتجارة الفن (لم يُذكر اسمه) شاهد اللوحة بمحض الصدفة معلقة على جدار في أحد المقاهي في حي شبرا، الخيمة الشعبي، وحين تأكد من أصالتها عرض على صاحب المقهى أن يتوسط لبيعها نظير مبلغ كبير. المبلغ الذي عرضه الرجل على صاحب المقهى دفعه للبحث والتقصي عن الأمر، وقادته قدماه إلى أحد أصحاب الغاليريهات في القاهرة، وهو نبيل ابو الحسن، الذي نصحه بتسليم العمل إلى وزارة الثقافة، فاللوحة المشار إليها هي أحد الأعمال المفقودة من متحف الفن المصري الحديث، وقد مضى على فقدها ما يقرب من نصف قرن.
لكنّ تحذيراً من قطاع الفنون التشكيلية عبر المتحدث باسمه، جعل تداول اللوحة أكثر صعوبة. غير أن صاحب اللوحة، أو من كانت في حوزته، كان قد قرر بالفعل تسليم اللوحة إلى وزارة الثقافة. لم يستغرق الأمر سوى يومين تقريباً، حتى أُعلن عن تسلُم وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، اللوحة المذكورة، بعد أن قدمت درع وزارة الثقافة لصاحب المقهى تقديراً لمبادرته الكريمة بتسليم العمل.
كيف وصلت إلى المقهى؟
الكيفية التي فقدت بها اللوحة قبل أكثر من خمسين عاماً، حتى وقوعها في يد الرجل وتعليقها في مقهى شعبي، ما تزال مجهولة حتى الآن. الرواية المُعلنة تحمل الكثير من علامات الاستفهام. والد الرجل، وهو يعمل مقاولاً لهدم المباني، كان قد عثر على اللوحة بين أنقاض أحد الأبنية (لم يعلن عن هوية المبنى) وظلت حبيسة أحد المخازن حتى عثر عليها ابنه، وقرر تعليقها على جدار المقهى الذي افتتحه حديثاً. حكاية مثيرة بالطبع لكنها تحمل ضمن ما تحمل من إثارة، اسئلة حول الثروات الفنية في مصر والكيفية التي يتم بها تأمين مثل هذه الثروات وإدارتها أو استغلالها، خاصة وأن هذه الحادثة ليست الأولى في سجل السرقات والمفقودات من داخل المتاحف المصرية. عبد الهادي الجزار نفسه له عدد من اللوحات المفقودة، حسب تصريح ابنته فيروز الجزار، التي قالت أخيراً أن اللوحة المستردة ليست الوحيدة المختفية من داخل متحف الفن المصري الحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تستدعي الملابسات المثيرة التي تحملها لوحة الجزار المفقودة حكاية أخرى حدثت وقائعها قبل أكثر من أحد عشر عاماً، وهي حكاية لا تقل إثارة إن لم تتفوق عليها، في تداعياتها وتفاصيلها الغرائبية. ففي صباح أحد أيام شهر أغسطس (آب) عام 2010 وعند تفقد المسؤولين لأروقة متحف محمد محمود خليل في القاهرة، إكتشفوا اختفاء لوحة "أزهار الخشخاش" للفنان الهولندي البارز فان غوخ. هذه اللوحة التي يقال إن فان غوخ قد رسمها عام 1887 ، أي قبل مقتله بثلاث سنوات، كان يتخطى ثمنها التقديري وقت سرقتها 50 مليون دولار. لذا فقد مثل الحادث حينها مادة خصبة لوسائل الإعلام المصرية والعالمية، ليس لقيمة اللوحة المادية فقط، ولكن أيضاً لمكانة صاحبها كأحد أبرز فناني الحداثة الأوروبية. وعلى خلفية هذا الحادث تمت إقالة مسؤولين في وزارة الثقافة المصرية، وحوكم عاملون وموظفون بتهمة الإهمال. وفور الإعلان عن السرقة أُعلنت حالة الطوارىء في الموانىء والمطارات المصرية، وأوقف سائحون ومسافرون يحملون أعمالاً فنية، ولم يُسمح لهم بالمغادرة إلا بعد فحص دقيق لما كانوا يحملون. ورغم كل هذه الإجراءات، والضجة الإعلامية التي أثيرت حينها، وتضارب التصريحات والتخمينات، لم تظهر اللوحة المختفية، ولا يزال مصيرها مجهولاً حتى اليوم.
المثير هنا أيضاً أن اللوحة نفسها كانت قد تعرضت من قبل للسرقة في عام 1978 وتمت إعادتها مرة أخرى وسط ملابسات مريبة. إذ تزامن حادث السرقة وقتها مع زيارة لريشار موصيري، وهو يهودي مصري ممن هاجروا إلى إسرائيل وكان يعمل كمستشار فني للسياسي المصري محمد محمود خليل، وساعده على جمع الكثير من الأعمال الموجوده ضمن مقتنيات المتحف. غير أن اللوحة سرعان ما أعيدت مرة أخرى وأعلن وقتها أن أحد اللصوص قد قام بإعادتها بعد أن فشل في تهريبها إلى الخارج. ورغم العثور على اللوحة بعد أيام قليلة من إختفائها، إلا أن البعض قد أثار حينها شكوكاً حول أصالة اللوحة التي تم العثور عليها، زاعمين أن اللوحة الأصلية قد هربت بالفعل إلى خارج البلاد، وأن هذه اللوحة التي أعيدت ما هي إلا نسخة طبق الأصل منها. غير أن هذا الزعم قد أُكد عدم مصداقيته بعد سفر اللوحة للعرض في فرنسا عام 1994 ضمن معرض كبير أقيم في متحف دورساي في باريس لأعمال الإنطباعيين الفرنسيين، وتم الكشف عليها والتأكد من أصالتها.