عزز ارتفاع وتيرة الهجمات على حقول الغاز في إقليم كردستان من التوقعات حول وجود دوافع "محلية وإقليمية" لكبح تطلعات أكراد العراق للدخول في سوق الغاز العالمية وتحقيق مزيد من الاستقلال الاقتصادي، فيما حذر نواب أكراد من أن الهجمات تعكس رغبة بغداد بانتزاع أكبر حقول البلاد الغازية من السيطرة الكردية.
وطاولت خلال الأيام الأربعة الماضية، ثلاثة اعتداءات بصواريخ الكاتيوشا، حقل كورمور الغازي التابع لشركة "دانة غاز" الإماراتية في منطقة جمجمال، الواقعة بين محافظتي السليمانية وكركوك، آخرها كان أمس السبت 25 من يونيو (حزيران).
وتفقد نائب رئيس الحكومة قباد طالباني برفقة وزيرَي الطاقة والبيشمركة وقادة أمنيين، آثار القصف واجتمع مع مسؤولين في الشركة، وتعهد "بحماية العاملين في الحقل، والتواصل مع بغداد للعمل على وقف الهجمات"، مشدداً على "المضي في عملية الإنتاج"، ولافتاً إلى أن الحكومة "سيكون لها رد بعد إعلان نتائج التحقيقات".
موانع إقليمية
ويأتي استهداف الحقل، وهو واحد من أكبر حقول الغاز في البلاد إلى جانب حقل "خورملة"، في إطار سلسلة هجمات تتعرض لها مواقع نفطية كردية منذ أبريل (نيسان) الماضي، كان آخرها في شهر مايو (أيار)، عندما سقطت صواريخ على مصفاة نفط بمنطقة كوركوسك شمال غربي أربيل.
وغالباً ما يلقي المسؤولون الأكراد المسؤولية على "ميليشيات مسلحة (شيعية) خارجة على القانون"، وذلك منذ إعلان الحكومة الكردية نيتها العمل على مشروع لتصدير الغاز إلى تركيا في فبراير (شباط) الماضي.
وسبق أن حذر محللون وسياسيون أكراد من تداعيات ومخاطر دخول الإقليم في حلبة الصراع الدولي القائم على مصادر الطاقة، وتكمن الخشية من رد فعل طهران، التي ستكون أول الخاسرين لأنها مورد رئيس للغاز إلى كل من العراق وتركيا، مع توجه دول الاتحاد الأوروبي لإيجاد بدائل سريعة عن الغاز الروسي، بخاصة بعد إعلان موسكو الحرب على أوكرانيا.
تعزيزات عسكرية
وأفادت وسائل إعلام كردية بأن قوة عسكرية خاصة، معززة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة، وصلت إلى ناحية قادر كرم لحماية الحقل، وزعمت أن ذلك جاء في أعقاب رصد محاولتين لتحرك قوات اتحادية صوب الحقل، إحداهما "بذريعة تنفيذ عملية أمنية لملاحقة عناصر تنظيم داعش"، والثانية من أجل التحقيق في عملية القصف، لكن قوات البيشمركة الكردية منعتها من الدخول، بينما نفى مدير ناحية قادر كرم، صديق محمد، ما أشيع عن أن تكون "محاولة من القوة الاتحادية للسيطرة على المنطقة".
وتعمل شركتا "دانة غاز" و"الهلال" الإماراتيتان منذ عام 2007 بموجب عقد مبرم مع حكومة أربيل، وتمكّنتا من إنتاج الغاز للمرة الأولى مطلع خريف عام 2008. وتشير التقديرات إلى أن احتياطي الأكراد من الغاز يتجاوز 30 تريليون قدم مكعبة، فيما تصل نسبة الإنتاج الحالي إلى نحو 700 مليون قدم مكعبة يومياً على أمل رفع سقف الإنتاج إلى مليار خلال العامين المقبلين. ويزعم مسؤولون أكراد أن الإقليم من شأنه أن يصبح رقماً مؤثراً في سوق الطاقة العالمية، لكن ذلك يتطلب سنوات عدة لحين تأهيل البنية التحتية.
عقبات داخلية
لكن المشروع يواجه أيضاً عقبات داخلية، تبدأ بالخلاف المزمن بين حكومتي أربيل وبغداد على صيغة إدارة ملف النفط الكردي، وكذلك بروز خلاف بين الحزبين الكرديين الحاكمين، الحزب "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني ونظيره "الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني، الذي أعلن أخيراً رفضه "الشديد" لمدّ أنبوب الغاز على غرار الآلية التي اتبعت في تصدير النفط، بخاصة أن حقول الغاز تقع ضمن مناطق نفوذه.
وتحفّظ عضو لجنة الطاقة في برلمان الإقليم شيركو جودت عن الإجابة عن سؤال حول الجهة المسؤولية ودوافعها، قائلاً "من المبكر توجيه التهم ضد أية جهة، نحن سننتظر إعلان نتائج التحقيقات، لا يخفى أن كيان الإقليم يواجه مخاطر حقيقية".
وأضاف "تصعب معرفة الهدف من وراء قصف حقل كورمور تحديداً، ونحن نمر في مرحلة سياسية شديدة التعقيد، سواء داخلياً أو إقليمياً ودولياً". في حين أن نظيره علي حمه صالح كشف عن أن "بغداد تسعى إلى الاستيلاء على الحقلين الغازيين، وأنا منذ أربعة أشهر أحذر من ذلك، والرسالة واضحة يقولون فيها لنا إنهم يستطيعون الوصول إلى المنطقة كيفما يريدون".
استثمار مستفز
المحلل الكردي في مجال الطاقة كوفند شيرواني يرى أن "حكومة الإقليم على الرغم من كونها فتية، لكنها تمكّنت من تحقيق مستويات جيدة من الإنتاج خلال فترة قصيرة، وقد وصل خلال هذا العام إلى 700 مليون قدم مكعبة يومياً"، وتساءل "إذا كان الاعتراض قائماً حول إدارة ملف النفط والغاز، فلماذا تُصوَّب الهجمات فقط على حقل غازي وليس حقول النفط، فالهجوم لا يخدم جهة عراقية بقدر ما يخدم جهة إقليمية تحاول أن يبقى العراق مستورداً للغاز".
ويعتقد شيرواني أن "التجربة الناجحة في استثمار الغاز قد تكون مستفزة لبعض القوى في بغداد، وهي التي أخفقت في استثمار ثروة مناطق وسط العراق وجنوبه يفوق حجمها بأضعاف ثروة الإقليم"، لافتاً إلى أن "أطرافاً إقليمية قد لا ترغب بأن يزدهر قطاع الغاز في كردستان، خشية أن يقوم بتجهيز بقية المناطق العراقية لتستغني بغداد عن استيراد ما مجموعه 50 مليون قدم مكعبة من إيران يومياً".
من جهته، علّق مسؤول ملف العراق في مقر بارزاني، عرفات كرم، على الهجوم في تغريدة عبر "توتير"، قائلاً "بقصفكم الجبان تبنون بيننا وبينكم سداً لن تستطيعوا أن تظهروه، ولن تستطيعوا له نقباً"، بينما كان رد القيادي البارز في الحزب أكثر وضوحاً في اتهاماته. وقال إن "عمليات القصف عندما تستهدف أربيل والسليمانية على حد سواء، فإن ذلك يدل على أن القوى الميليشياوية في بغداد لا تفرّق بين المحافظتين، وذلك من أجل تركيع إقليم كردستان لسلطانها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحذير من خلط الأوراق
في المقابل، اتهم الناطق باسم "كتائب حزب الله العراق" الشيعية المقربة من طهران جعفر الحسيني، من وصفها بـ"المجاميع المارقة الساكنة في قضاء طوزخورماتو وترتبط بالاستخبارات التركية" بمسؤولية شن الهجمات، أما "الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية"، التي تضم فصائل "شيعية" مسلحة، فاعتبرت أن القصف "تخريبي" تقف خلفه جهات خارجية (لم تسمِّها) بغرض تقويض الجهود المبذولة للخروج من أزمة البلاد الحالية"، وحذرت من محاولات إرباك الوضع الأمني وخلط الأوراق ممن يريد ببلدنا سوءاً في هذا التوقيت خصوصاً".
وتعرّض الإقليم لسلسلة من الهجمات الصاروخية رافقها صدور قرارات اتحادية تلزمه تسليم إدارة ملفه النفطي إلى بغداد، وذلك في أعقاب مباحثات كان أجراها رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني في أنقرة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مطلع فبراير الماضي حول مشروع الغاز الكردي. وفي منتصف الشهر ذاته، قصفت إيران مدينة أربيل بـ12 صاروخاً باليستياً قالت إنها استهدفت "أفراداً من الموساد الإسرائيلي"، وقد سقطت معظمها على منزل رئيس شركة "كار" النفطية الكردية باز كريم البرزنجي. وبعد يومين فقط، أصدرت المحكمة الاتحادية العراقية قراراً يقضي ببطلان قانون النفط والغاز المشرع في الإقليم وألزمت الشركات الأجنبية إلغاء عقودها مع أربيل والتعامل مباشرة مع بغداد.
بالتزامن، أعلنت رئاسة برلمان كردستان أن جدول أعمال الجلسة المقبلة يضم مواضيع عدة، من بينها "إجراء القراءة الثانية لمشروع قانون تعديل قانون النفط والغاز في الإقليم".
رسائل سياسية
ويرى شيرواني أن الهجمات وتوقيتها "يحملان رسائل سياسية واضحة هدفها الضغط على أربيل لتغيير مواقفها تجاه الجهات التي تقف وراءها والأجندات الإقليمية الداعمة لها بعد ما حصل من تغييرات في الأزمة السياسية عقب استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان".
وأضاف أنه "في حال حصول تفاهم سياسي بين الكرد والسنة والإطار التنسيقي (يضم قوى شيعية مقربة من طهران)، فإنه لن يتبقى مبرراً لممارسة مزيد من أوراق الضغط من هذا النوع على الإقليم".
وتأتي الهجمات في ظل استحواذ "الإطار التنسيقي" على غالبية المقاعد النيابية بعد استقالة نواب التيار الصدري وانفكاك تحالفهم مع حزب بارزاني ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ما يجعله الكتلة النيابية الأكبر لقيادة مفاوضات تشكيل الحكومة.
تهويل مقصود
وحول وجود مخاوف إيرانية من مشروع الأكراد لتصدير الغاز، يقول شيرواني إن "إمكانات الطاقة في الإقليم ليست متناهية بهذه الكمية التي يتم الحديث عنها بحيث يمكن أن تسد الفراغ الكبير الذي قد ينشأ في حال التخلي عن الغاز الروسي، الذي يفوق حجمه بعشرة أضعاف عما يمتلكه العراق، ناهيك عن تمتعه ببنية تحتية متطورة، بالتالي يستحيل منافستها، لذا فإن رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني خلال منتدى الطاقة بدولة الإمارات كان دقيقاً في تصريحه عندما قال إن الإقليم مستعد لسد جزء من النقص في الطاقة وكان يقصد النفط بالدرجة الأكبر".
وفي مارس (آذار) الماضي، أشار تقرير لوكالة "رويترز" إلى أن قصف طهران لأربيل "كان بمثابة رسالة تهديد إزاء مسعى الإقليم لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز بمساعدة إسرائيل".
وتشير توقعات المحللين إلى أن العراق والإقليم "ما زالت أمامهما مرحلة طويلة للوصول إلى مرحلة تحقيق الاكتفاء الذاتي في سد الحاجة المحلية من الغاز أولاً قبل التصدير، كما يحتاج الإقليم إلى بنية تحتية متطورة ليتمكن من التصدير"، لكن شيرواني يقول "حتى إن حصل ذلك، فإنه لن يكون منافساً خطيراً لروسيا كما تم التهويل له في وسائل الإعلام ومنها الغربية، ربما هناك دوافع سياسية وراء هذا التهويل في الأرقام".